الصـبر في الإسـلام
2000/05/08م
المقالات
3,972 زيارة
(يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين(153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون(154) ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين(155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون(156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون(157)) [البقرة].
يبين الله سبحانه في هذه الآيات ما يلي:
-
بعد أن أعلمنا الله سبحانه أنه أرسل منا رسولا يتلو علينا آياته ـ جلّ ثناؤه ـ ويطهرنا من الشرك والأوثان ويعلمنا كلّ ما يلزمنا من عقائد وأحكام وأمرنا بالتزامه ثم بذكر الله على الدوام والدعوة للإسلام، بعد ذلك أمرنا الله سبحانه أن نستعين بالصبر والصلاة.
ومنطوق هذه الآية له دلالة إشارة أن الدعوة إلى الإسلام والالتزام بشرع الله ثقيل وفيه مشقة وعلى المؤمن أن يثبت على ما يصيبه جراء ذلك ثباتا راسخا متزودا بأمرين بينهما الله سبحانه: الصبر والصلاة.
-
ثم ذكر الله سبحانه صنوفا من الابتلاء تصيب الإنسان أثناء حمله للإسلام والدعوة إليه، وبيّن سبحانه ما أعدّ للصابرين على ذلك الثابتين على الحق الذين يسترجعون عند المصيبة قائلين: (إنا لله وإنا إليه راجعون). ومن صنوف الابتلاء التي ذكرها الله وما أعده لأهلها من خير:
أ. القتل في سبيل الله وهو أن يقتل المرء وهو يقاتل أعداء الله لإعلاء كلمته سبحانه مقبلا غير مدبر ثابتا في ساحة المعركة، فهو حي عند الله لا يشعر بها الناس لأنها مغيبة عنهم ولكنها حياة طيبة زكية “من قاتل لإعلاء كلمة الله مقبلا غير مدبر فهو في سبيل الله”(1) “إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت”(2).
ب. الابتلاء بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وهو ابتلاء بشتى أنواعه، فأي منها أصاب المؤمن فهو ابتلاء: الخوف وعدم الأمن، والفقر والجوع، وأن تنتقص الأموال بخسارة فيها، أو تنتقص الأنفس بالأمراض والوفاة، وانتقاص الثمرات بآفة تصيبها. وذكر الله سبحانه: (بشيء) أي أيا كان هذا الابتلاء صغيرا أو كبيرا فهو ابتلاء والصبر عليه أجره عظيم “وقد استرجع النبي صلى الله عليه وسلم عند انطفاء المصباح فقيل له في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: كلّ ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة وله أجر”(3).
ج. بيّن الله سبحانه أن المؤمن عندما يصبر على الابتلاء ويسترجع بقوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فإن له بذلك أجراً عظيماً (صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) ونعم هذا من أجر عظيم: رضوان من الله ورحمة وهدى، ليس هذا فحسب بل لهم في الدنيا خير كثير.
أخرج مسلم عن أم سلمة “قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيراً منها. قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله تعالى لي خيرا منه رسول اللهصلى الله عليه وسلم“(4).
-
إن الله سبحانه يأمرنا أن نستعين بالصبر والصلاة في حمل الإسلام والدعوة إليه والثبات على الحق في ذلك، وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أهمه أمر فزع إلى الصلاة، فهي قرة عين المؤمن يلتقي بها بربه سبحانه ويمتلئ قلبه طمأنينة بأدائها “حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة”(5).
فهي تعطي المؤمن طاقة قوية في مقاومة الظلم وأهله، وعزيمة صادقة في الثبات على الحق، مؤمنا صادقا دون أن تلين له قناة أو تضعف له عزيمة. ثم إن الصبر قد ذكره الله قبل الصلاة إبرازاً لأهمية الصبر، فالصلاة علاقة بين العبد وربه والصبر علاقة بين العبد وربه ومع نفسه ومع الناس فهو المحك وهو مقياس الثبات عند الشدة والمصائب والخطوب.
وهنا لا بدّ لنا من وقفة نتدبر فيها الصبر لإزالة الالتباس عند بعض المسلمين حول واقعه ومدلوله.
إن بعض الناس يظنون أن المرء إذا انطوى على نفسه وانعزل عن الناس وترك المنكر وأهله ورأى المحرمات تنتهك وحدود الله تعطل والجهاد يلغى، وهو لا يتخذ موقفا تجاه ذلك بل هو مبتعد عنه وتارك للنهي عن المنكر، بعض الناس يظن أنه بذلك يكون صابراً.
أو يفهم الصبر أن يدفع الأذى عن نفسه ويتفادى التعرض أن يناله شيء من ملاحقة أعداء الله فلا يجرؤ على قول كلمة الحق أو العمل بما يرضي الله، بل يبقى صامتا قابعا في إحدى الزوايا ويقول عن نفسه إنه صابر.
إن هذا ليس هو الصبر الذي أعد الله لأهله جنات النعيم (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر 10 بل هذا هو العجز بعينه الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه: “أعوذ بالله من العجز والكسل والجبن والبخل والهم والحزن وغلبة الدين وقهر الرجال”(6).
إن الصبر هو أن تقول الحق وتفعل الحق وتتحمل الأذى في سبيل الله الناتج عن ذلك دون أن تنحرف أو تضعف أو تلين.
إن الصبر هو الذي رتبه الله على التقوى بقوله سبحانه: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) يوسف/آية90.
إن الصبر هو الذي قرنه سبحانه بالمجاهدين (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) آل عمران 146.
إنه الصبر على الابتلاء والصبر على القضاء الذي يقود إلى ثبات لا إلى اهتزاز، ويقود إلى تمسك بالكتاب لا إلى نبذه بحجة فداحة المصاب، والذي يزيد المرء قرباً من لا ابتعاداً عنه (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) الأنبياء 87.
إنه الصبر الذي يشحذ الهمة ويقرب الطريق إلى الجنة، صبر بلال وخباب وآل ياسر “صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة”(7).
صبر خبيب وزيد “والله لا أرضى أن يصاب محمّد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا سالم بأهلي”(8).
صبر الذين يأخذون على يد الظالم دون أن يخافوا في الله لومة لائم “كلا والله لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض وليلعنكم كما لعن بني إسرائيل”(9).
صبر الألى الغر الميامين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين… صبر أصحاب الصحيفة ومقاطعي الشّعب ومهجري الحبشة والملاحقين لقولهم ربنا الله.
صبر المهاجرين والأنصار في جهادهم أهل الشرك والفرس والروم… صبر الأسرى رهط عبدالله بن أبي حذافة… صبر المجاهدين المؤمنين الصادقين.
الصبر أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ولا تضعف أمام الأذى في سبيل الله.
الصبر أن تكون جنديا في جيش المسلمين الزاحف لقتال أعداء الله.
الصبر أن تكون مصداق قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) آل عمران 186… وقوله سبحانه: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) محمّد 31… ثم قوله سبحانه: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين @ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإنا إليه راجعون @ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).
ــــــــــــــ
الهوامش:
-
النسائي: 3104، أحمد: 4/392،417، الدارمي: 2305.
-
مسلم: 3500، الترمذي: 2937، ابن ماجه: 3791، الدارمي: 2303، أحمد: 6/386.
-
الدر المنثور: 2/380، تفسير البيضاوي: 1/125.
-
البخاري: 5324، مسلم: 1525، الترمذي: 3433، أبو داود: 2712.
-
النسائي: 3878، أحمد: 3/128، 285.
-
البخاري: 5894، مسلم: 4908.
-
المستدرك: 3/383، المطالب العالية: 4.34، الحلية: 1/140.
-
سيرة ابن هشام : 3/181.
-
الترمذي: 2974، أبو داود: 3774، ابن ماجه: 3996.
2000-05-08