العقيدة الإسلامية عقيدة عقلية روحية سياسية
2000/04/07م
المقالات
2,848 زيارة
يقوم الإسلام على «لا إله إلا الله محمّد رسول الله» فهي القاعدة والأساس لكافة تشريعاته وأفكاره وسائر عقائده، وهي قيادته الفكرية.
وهي عقيدة عقلية وروحية وسياسية.
هي عقلية لأن البحث العقلي يوجب أخذها والتسليم بها، فهي تقدم للناس تفسيراً لهم ولكل ما حولهم وما فيهم. وهو تفسير مبني على أدلة وبراهين قاطعة، وليس مجرد تفسير يوفِّق بين بعض الظواهر أو كلها، وإنما هو تفسير تؤدي إليه وتُلزم به الأشياء والحوادث والحقائق الموجودة في هذا الكون إذا نُظر إليها وفيها نظراً عقلياً صحيحاً.
وهي عقيدة روحية لأن هذا التفسير يقوم على الإيمان بالله سبحانه، وبالغيب. فالمحسوسات والمادة ليست أزلية، وإنما هي مخلوقة من عدم، خلقها الله سبحانه، الذي خلقها وخلق غيرها مما لا يقع تحت الحس كالجنة والنار والملائكة والشياطين، والذي أمر بطاعته والتزام أمره.
وهي عقيدة سياسية، إذ صلة الخلق والإيجاد من عدم ليست الصلة الوحيدة بين الخالق والمخلوق. فهناك رسالة جاء بها النبي «محمد رسول الله» صلى الله عليه وآله وسلم من الله إلى البشر تأمرهم وتنهاهم وتتدخل في شؤون حياتهم كافة: حركاتهم وسكناتهم، أفراداً وجماعةً وجماعات. فأوامر الله ونواهيه، سبحانه وتعالى، تتناول الاعتقاد وتتناول كيفية تسيير شؤون الحياة في العبادات والعلاقات والحكم والقضاء وحمل الدعوة.
=============================
فمن جهة كونها سياسية استطاع الكفار أن يحرفوا المسلمين عن دينهم وينحطوا بهم إلى أن يهدموا دولتهم ويمزقوهم إلى دويلات عميلة. وجعلوهم يتمسكون بهذا التمزيق وينادون بالديمقراطية وبفصل الدين عن الحياة، ولا يفهمون من الإسلام إلا أنه دين كهنوتي، أو أنه صلة فردية خاصة بين الإنسان وخالقه. فتمسك المسلمون بأفكار الكفر ونظروا إلى الكفار نظرة احترام وتقدير، وأنهم أهل تقدم وحضارة، وأنهم مَثَلٌ يحتذى.
ونحن نشهد اليوم تنبهاً واضحاً عند المسلمين نحو الإسلام كعقيدة سياسية، كعقيدة ينبثق عنها نظام لكافة شؤون الحياة، وليس فقط شؤون العبادات. ونلمس بوضوح تحرك المسلمين وتحفزّهم لإقامة دولة الإسلام، دولة الخلافة، وتطبيق نظام الإسلام. فقد شهد النصف الثاني من هذا القرن بدء هذه اليقظة التي عمت العالم الإسلامي بأسره والحمد لله.
إلا أن هذا التنبه أو هذه الصحوة فيها دَخَنٌ، ذلك أن رؤوس الكفر وملأهم يرعبهم ويقضُّ مضجعهم عودةُ الإسلام كحضارة وكنظام سياسي. فبعد أن هُزموا أمام صحوة المسلمين على الإسلام كعقيدة سياسية عمدوا إلى سياسات ومناورات للتضليل ـ لسنا بصدد تفنيدها ـ منها عدم مواجهة هذه الفكرة صراحةً ولكن تحريف الأفكار والمفاهيم والأحكام الإسلامية والعبث بأصول الفقه والاستنباط عبر اصطناع عملاء لهم من علماء سلاطين ومفتين وحركات يسمونها إسلامية، وعبر رجال ومنابر ومؤسسات وجامعات وفضائيات تقوم بعمليات التحريف والتضليل المدروس والموجَّه. وهذا في مقابل محاولة القضاء على الفكر الإسلامي النقي في منبعه وأصول استنباطه، وإثارة غرابته وعجزه عن مواكبة العصر والواقع وتخويف دعاته واستئصالهم.
ويُطَبَّل لهذا التحريف على أنه تطور، وطريق خلاص، وعلى أنه فكر إسلامي معاصر.
إن تحريف أفكار الإسلام والعبث بمفاهيمه لتُوافِقَ مفاهيم الكفر ولتنال رضا الكفار وسلاطينهم وعملائهم هو طريق غضب الله وسخطه وليس طريق خلاص. وهو طريق إلى مزيد من التخلف والتبعية والهوان، وهو كفر وليس فكراً إسلامياً.
وقد يَضل ويزيغ بهذا التحريف بعض المخلصين من محبي الإسلام وكثير من عوامِّ المسلمين الذين لم يتحصنوا بفهم الإسلام ـ ولو إجمالاً ـ عقيدةً ونظماً.
إن الصحوة على الإسلام كعقيدة سياسية، ينبثق عنها نظام ما زال فيها هذا الدخن. فلا بد من الصراع الفكري والكفاح والسياسي، وتأجيج هذا الصراع لإبراز حقيقة هذا الدخن، وأنه مؤامرة شيطانية، ولتنظيف الأجواء الإسلامية وتطهيرها منه.
والسبب الرئيس لهذا الزيغ ولقابلية الانحراف، هو النقص الذي دخل على المسلمين في فهم العقيدة الإسلامية كعقيدة روحية.
المحرِّفون والزائغون ينظرون إلى قوى الكفر، الهائلة في أعينهم، وإلى إمكانيات الكفار التي تتضاءل أمامها قوى المسلمين إلى أن تعدو كأنها لا شيء. ثم يقيسون الأمور.
ينظرون إلى الهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية للكفر على العالم. وينظرون إلى الدويلات القائمة في العالم الإسلامي وضعفها أمام ذلك الكفر وتبعيتها المطلقة له، وإلى قمعها وظلمها للمسلمين، وينظرون من جهة أخرى إلى المسلمين فيرونهم ضعافاً لا حول لهم ولا قوة إلا بمقدار ما يسمح لهم به عدوهم حفاظاً على مصالحه. ينظرون إلى العالم فيَروْنَه قرية صغيرة تحت سلطان القوى الكبرى، ولكنهم لا يرون الله، فييأسون. فيَضلون ويُضلون.
ييأسون من إمكانية إعزاز دين الله، فيجدون خلاصهم في مسايرة الكفر ومحاولة إرضائه، ورفع شعاراته والدعوة إلى أفكاره، والحفاظ على مصالحه. ويقفون في خندق واحد مع الفراعنة وملئهم في مواجهة المخلصين الثابتين على عهد الله، الذين يرون الكفر وقوته وإمكاناته، ولكنهم يرون أيضاً أن الله أكبر.
نعم، هذا سبب ذلك الدخن في الأمة ـ والله أعلم ـ . وهو ضعفٌ في الإيمان. حتى إن من أقطاب (علماء ومفتي) هذا الدخن مَن ضَعُفَ الإيمان عنده فاتبع هواه وأظهر رضاه بأفكار الكفر، فلم يُبْقِ على مقدار حبة خردل منه.
ومن الجدير ذكره هنا، أن هذا ليس تكفيراً لهذا الصنف من المحرفين والزائغين، فما نراه أنهم يؤمنون بالله وملائكته وسائر أركان الإيمان. ونراهم يصلُّون ويحجون. فالناحية العقلية أو الفكرية في إثبات «لا إله إلا الله محمد رسول الله» أو في قبولها موجودة لديهم. ولكن أثر هذا الإيمان في السلوك غير موجود. أثره في الإيمان بوعد الله ونصره وتأييده، بفرجه ومنِّه وكرمه، بمعيته وقدرته وقضائه وقَدَره، بحفظه وأمنه وتيسيره، هذا كله غير موجود، على غرار قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق، وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» رواه البخاري.
هؤلاء الزائغون لئن سألتهم ليقولُن: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ولئن قلت لهم: اخشوه وأطيعوه ليقولُن: إنك أعمى ألا ترى الملك وزبانيته، ألا ترى الكفر وجموعه. (نسوا الله فأنساهم أنفسهم( )فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم(.
إن عقيدتنا ليست مجرد بحث عقلي أو إدراك نلتذ به. إنها إيمان له آثاره على النفس وفي السلوك. وآثار هذا الإيمان تظهر في المحن والشدائد وعند الضيق ونزول البلاء. لقد خَلَقَنا الله لعبادته. وعبادته هي طاعته. ومن عبادته تعبيد الناس له ونصر دينه وإعزازه وإقامة أحكامه.
وعندما ينظر الدعاة حولهم في الدنيا، ويرون ضعفهم وقلة حيلتهم، وتسلط عدوهم، ويرون الطريق مسدوداً لإعزاز دين الله ونصره بحسب الإمكانات المادية، فهو مسدود بنظرهم القاصر، وإن صح نظرهم فهو مسدود بالحسابات الدنيوية المادية. فإن جعلوا يغيرون أحكام الدين ويسعون لإرضاء الكفار، فيوالون أعداء الله ورسوله، ويخشونهم أكثر من خشيتهم الله، فهذا ضعف في الإيمان ونكوص عن طريقه. وهذا سقوط في امتحان الله لما في قلوبهم.
وعندما يدرك الدعاة المؤمنون أن ما هم فيه من استضعاف وقلة حيلة ونقص في العدد والعُدة، وضيق في الأرض والرزق والأمن، وانغلاق في السبل، إن هذا إنما هو امتحان لإيمانهم، فما عليهم إلا أن يقوموا بأمر الله على أتم وجه فيأخذوا بالأسباب المادية بأقصى استطاعتهم، ويبذلوا أقصى ما لديهم في عبادة الله ونصره وإعزاز دينه، مهما كان ذلك ضئيلا بحساب الأسباب والمسببات الدنيوية، فإنهم يتوكلون على الله الذي بيده القضاء والقدر والرزق والأمن، والذي هو يحيي ويميت ويُعز ويُذل وهو على كل شيء قدير. فهنا يتجلى معنى الإيمان ويظهر أثر هذا الشعور الإيماني على المواقف والسلوك، فإن كان الكفر قوياً فالله أقوى وأكبر، وهو حاضر في كل حال وفي كل حين.
يقول تعالى: (وما النصر إلا من عند الله) ويقول: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبِّت أقدامكم)
ونصر الله هو بالإيمان به وطاعته والثبات على ذلك. ولا يجوز التغاضي عن الإعداد وربط الأسباب بالمسببات، قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وقال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم). والإعداد والأخذ بالأسباب واجب. وقد أمر تعالى بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخذ بالأسباب. وعندما تكون حيلة المؤمنين وإمكانياتهم ضعيفة، فإن تبديل الدين وتحريفه والنكوص عن الطاعة ليس هو السبيل، إذ هذا معصية ومجلبة لسخط الله تعالى وهو ضعف في الإيمان. والمطلوب في هذه الحالة هو تقوية الإيمان وتشديده، والاندفاع إلى مزيد من العمل والثبات (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل @ فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل لم يمسسهم سوء).
فهذه الأسباب والمسببات بالحسابات الدنيوية ليست أسباباً للنصر وتحقيق الغاية، وإنما هي من شروط النصر. وأخذُها بعين الاعتبار على أتم وجه إنما هو تنفيذ لأمر الله سبحانه. والقيام بذلك هو من قبيل طاعة الله ونصره. وعلى ذلك فالمؤمنون الدعاة يُعِدّون ما يستطيعون، وإن كانوا ضعافاً أو مستضعفين فإنهم يتقدمون ويثبتون ويصبرون واثقين بنصر الله. وهذا التقدم والثبات والصبر والإصرار هو من الأسباب التي أمر الله بها وهي معنى أن ننصر الله، ومن شروط تنـزيل الله سبحانه وتعالى لنصره.
إن عقيدتنا عقيدة روحية، وهي تعني أن نستحضر أمر الله ونهيه ومراقبته ومحاسبته بشكل دائم. أن نستحضر قوته وعظمته ووعده ومعيته ونصره. وبمقدار ما يتمثل هذا في المواقف والسلوك يكون القرب من الله ويكون العيش بمعيته وبعينه وبرعايته جل في علاه.
وهذه مرتبة من الإيمان يجب إدراكها والتمسك بها، وتذكرها والتذكير بها وتنبيه الأمة ودعوتها إليها. الإيمان هو أن نؤمن بما عند الله من نصر وليس بما عندنا أو عند أحد سواه، وبما عند الله من فَرَج وليس بما نراه، وبما عنده من أمن وليس بما عندنا، وبما في يده من رزق وليس بما في أيدينا، وأن يظهر هذا في السلوك وليس فقط على اللسان.
سيدنا موسى عليه السلام والمؤمنون معه، استضعفهم فرعون وزبانيته، ولما وصل موسى وأتباعه إلى البحر قال الذين معه: (إنا لمدركون)، فالحسابات المادية تقول إن فرعون خلفنا والبحر أمامنا فلا مفر. ولكن موسى عليه السلام، المؤمن، رسول الله، كان يرى فرعون ويرى البحر، ويرى الله أيضاً، ليس ضرورياً أن يعرف أو أن نعرف كيف النجاة أو كيف الخروج أو كيف النصر، ولكن أن نستحضر أمر الله ووعده وأن له جنوداً لا يعلمها إلا هو. ولذلك رد موسى عليه السلام على أتباعه بقوله: (كلاّ إن معِيَ ربي سيهدين). وفُلق البحر ونجا موسى ومن معه وهُزم فرعون ومن معه. والله تعالى يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلَنا) ويقول: (ومن يتِّق اللهَ يجعل له مخرجاً).
سيدنا نوح عليه السلام أوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأمره: (واصنع الفلك بأعيننا). وجعل الكافرون يمرون عليه ويسخرون منه، إنه يصنع سفينة في مكان لا ماء فيه، ولا تصل إليه البحار أبداً، ولكنه ـ عليه السلام ـ كان يقول لهم: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون). فقد كان يرى عوامل أخرى مؤثرة في الواقع ومغيِّرة له وهي ليست مما يعتبر بمحض الحسابات المادية. وقد نجا نوح ومن حمل في السفينة وغرق الكافرون. أليس في هذا ذكرى وعبرة للمؤمنين! (وما كان الله ليذَرَ المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب).
قبيل فتح مكة أرسل الصحابيُّ حاطبُ بن أبي بلتعة رضي الله عنه كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بمسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتالهم. وقد أخبر الله تعالى نبيه بذلك. وافتُضح الأمر. فاعتذر حاطب بأنه أراد أن يكون له يد عند القوم إن هُزم المسلمون، فهو ليس له في مكة أهل أو عصبة كما لغيره من المسلمين. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فمنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره بأنه صادق فيما يقول، وأنه لم يخرج من الإسلام. وقال: «لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال اصنعوا ما شئتم فقد غفرت لكم» إن هذه الحادثة تشير إلى أن هذا الفعل ليس من أوصاف المسلمين، ومع ذلك فهذا ليس تكفيراً لفاعله، ولكنه من حالات ضعف الصلة بالله. وقد نزل القرآن الكريم في هذه الحادثة ليؤكد هذا المعنى للإيمان، أي دوام الصلة بالله ومراقبته. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوِّي وعدوَّكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) الآية. وأمر الله باتخاذ موقف العداء والبراءة الصريحين من الكفر وأهله. (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين آمنوا معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده). أما ما قد يخشاه الدعاة أو يرجونه، فليس طريقه التحريف والتبديل والمعصية، وإنما طريقه الثبات والتوكل على الله وتوليه. (الله ولي الذين آمنوا)، )ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، (أليس الله بكافٍ عبدَه). ولذلك فما كان يرجوه حاطب من أن يصنع مودةً بينه وبين العدو الكافر خشية الدوائر، جاء القرآن ليؤكد أن الطريق إليه هو الثبات على موقف البراءة من الكفر والكفار، ومحاربتهم. وإذا ظهر للمرء أن الثبات يؤدي إلى انغلاق السبل، فعليه أن يتذكر قدرة الله.
وهذا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم تُسَدُّ في وجهه السبل، ويكذَّب وبعذَّب، ويعذب صحابته، ويطلب النصر والعون فيطرد ويرد شر رد. ويهيم على وجهه لا يجد في الدنيا أزراً ولا سنداً، فهل اعتمد على هذه الحسابات وتنازل؟ هل اكتفى بما يراه بحواسه من قوى مادية فييأس أو يغير ويبدِّل؟ إنه في أحلك الظروف وأشقِّها من الضعف والاستضعاف وقلة الحيلة وانغلاق السبل يتوجه إلى من بيده ملكوت كل شيء، ومن له الخلق والأمر، ومن بيده التيسير وفتح المغاليق: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوٍّ ملّكتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنـزل بي غضبك أو يحل علي سخطك. لك العُتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك». صلى الله عليك يا رسول الله.
إن العقيدة الإسلامية ليست علم كلام وجدال في معاني صفات نرددها أو نحفظها، يكفّر بعضنا بعضاً فيها، حتى ترى في المسلمين فئاتٍ يكفِّر أو يتهم بعضهم بعضاً، وكلهم يدعي الحرص على العقيدة وعلى العلم الصحيح. ثم هم يمتدحون الحكام الكفرة والظلمة وينافحون عنهم ويتقربون منهم، ويعتلون المنابر ويحبِّرون الصفحات في البحث في صفات الله، وفي التبرير للحكام وتبرير الحكم بغير ما أنزل الله، وفي التهجم على الدعاة المخلصين والتنفير منهم.
إن العقيدة إيمان ومواقف رجال ثابتين على عهد الله لا يغيّرون ولا يبدلون: )من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلاً).
إن الولاء موقف، والبراء موقف، موقف عملي، وهو إذن عمل سياسي يدل على إيمان صاحبه وطمأنينة نفسه بهذا الإيمان وشعوره بأن الله معه يسمع ويرى.
جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزاً يوماً للناس فاتاه جبريل فقال، ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» الحديث (1).
بهذا الإيمان وبهذا الإحسان تهون في عين المؤمن مصائب الدنيا وأهوالها الواقعة أو المتوقعة أو المتوهَّمة، ويصغر كبارها ويضعف أقوياؤها ويرخص نعيمها وثمينها، فتدمع عيناه ويشتاق إلى لقاء الله، فتلازمه مراقبته ويغتنم فرصة الامتحان والبلاء ليتقرب إلى الله سبحانه، فتهون عليه التضحية بالنفس والمال، وإن خشي على ولده والضعاف من خلفه ازداد إقداماً وثباتاً وصبراً فالله وليهم ومولاهم: (وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضِعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً).
أما مواقف الممالأة والموالاة للكفر وشرائعه وسلاطينه، وخشيتهم أكثر من خشية الله، فهي مواقف لا يقوم بها من يقوم بها وهو مؤمن، وتحريف الأحكام الشرعية بسبب ذلك هو من أكبر الكبائر ولو جاء ممن يسمَّون علماء أو كبار العلماء. وهي مواقف الزائغين والذين في قلوبهم مرض، الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم وأعمى قلوبهم: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
قال تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) وقال جل من قائل: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) صدق الله العظيم .
محمود عبد الكريم حسن
ـــــــــــــــ
(1) تتمة الحديث: «قال متى الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها: إذا وَلَدَتِ الأَمَة ربَّها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله عنده علم الساعة) الآية. ثم أدبر، فقال: ردوه. فلم يروا شيئاً. فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم» قال أبو عبد الله جعل ذلك كله من الإيمان.
2000-04-07