التقـوى والقـول السـديد
2000/01/07م
المقالات
2,740 زيارة
الحمد لله رب العالمين، وإله الأولين والآخرين، وصلاة الله وسلامه ورحماته وبركاته على صـفـوة خـلـقـه، وخاتـم أنبيائه ورسـله، سيدنا محمد وآله الطاهرين، وصحابته أجمعين، ورحمة الله ومغفرته للتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال تعالى في سورة النساء: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً) وقال في سورة الأحزاب: (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً) وقال في سورة يونس: (فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين).
هذه الآيات تبين للمدقق فيها أن كلمة “سديداً” لم ترد في القرآن الكريم إلا مرتين، الأولى في سورة النساء والثانية في سورة الأحزاب، وأن كلمة “يصلح” لم ترد في القرآن الكريم إلا مرتين الأولى في سورة يونس والثانية في سورة الأحزاب، وأن هذه الآيات فيها طلب من الله وجواب طلب، ففي الآية الأولى يطلب الله من الذين يخافون على ذرياتهم من الضياع، ويريدون لهم التوفيق في الدنيا، أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع أولادهم، ففيه تهديد لهم بأنهم إن لم يفعلوا الطلب أضاع أولادهم، وإن هم راعوا الأمر حفظ أولادهم وجعلهم في أمانه، فالفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وإنما أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها. وكلمة (خافوا) هي جواب لو كما ورد في تفسير القرطبي، والسديد على ما قال الطبرسي المصيب العدل الموافق للشرع، وقال عكرمة القول السديد لا إله إلا الله، وقيل ما لا خلل فيه فهو مسد إذا كان يصيب السداد أي القصد والسداد بالفتح الاستقامة والصواب.
أخرج بن جرير عن الشيباني قال كنا في القسطنطينية ( يعني على الأسوار) أيام مسلمة بن عبدالملك وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانىء بن كلثوم فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان، قال فضقت ذرعا بما سمعت فقلت لابن الديلمي يا أبا بشر بودي أنه لا يولد لي ولد أبدا، قال فضرب بيده على منكبي وقال يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من نسمة كتب الله أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى، ثم قال ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله تعالى منه وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله تعالى فيك؟ قلت بلى، قال فتلا عند ذلك هذه الآية: (وليخش…) الآية، فضمان مستقبل أولادك هو بتقوى الله ومنها التزام القول السـديـد، وليـس بجـمـع الأموال وإدخالهم الجامعات وبناء العمارات.
وفي الآية الثانية يبين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أن تقوى الله وإلزام النفس بالقول السديد، تضمن لهم التوفيق في أعمالهم وتحقيق الغاية منها حيث إن الله تعالى يقول: (يصلح لكم أعمالكم) أي لا يبطلها بدليل الآية الأخرى التي وردت في سورة يونس حيث يقول: (إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين) فعمل المفسد باطل وعكسه صالح لذا لن يحقق الله للمفسد الغاية التي قام بالعمل لأجلها.
بعد إجلاء بني قريظة وسائر اليهود لم يكن في المدينة من هو ظاهر بالكفر، فقد أصبح أهلها كلهم مسلمين، إما صادقين في إسلامهم وإما منافقين، وكان المنافقون هم الذين يروجون الشائعات،وينشرون الأكاذيب، وكان بعض المؤمنين يقع في حبائلهم، ويسايرهم في بعض ما يروجون، فجاء القرآن يحذرهم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كما آذى بنوا إسرائيل نبيهم موسى عليه السلام ويوجههم إلى تسديد القول، وعدم إلقائه دون ضبط ولا دقة ويحببهم في طاعة الله ورسوله وما وراء ذلك من فوز عظيم كما في الآية (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً).
وهنا لا بد من وقفـة حتـى نتـعـرف على بعض صـفـات المتـقـيـن الذيـن تعـهـد الله لهم أن يوفقهم في أعمالهم وأن يوصـلـهـم إلى غايتهم التي يرجون.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
وفي الحديث: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل حدثنا عبد الله بن يزيد حدثني ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السدي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس».
ألزم الله المؤمنين كلمة التقوى وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسـول الله لأنـهـا سـبـب التقوى، أي اتقاء عذاب الله، فلا إله إلا الله ليست كلمة تقال بل إنها منهج حياة كامل يشمل كل نشـاط فيها وكل اتجاه وكل حركة وكل شعور وفكر، أي له العبادة وله الطاعة ومنه الخشية وعليه الاعتماد.
فإذا ما التزم العبد وأصبح مؤمنا، فعليه أن ينفذ عهد الإيمان في كل أعماله، وذلك بأن لا ينقل مجال افعل في مجال لا تفعل، منفذاً أوامره مبتعدا عما نهى عنه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، فالجماعة من المؤمنين إذا أهمل فيهم المنكر فلا يغير، والمعروف فلا يؤمر به، لا يلبثون أن يصبحوا شريري النفوس، يعتادون المنكر فيألفوه ولا يعرفون معروفا، ويومئذ يصبحون غير صالحين للحياة، فيهلكهم الله بما شاء من أسباب، وإن بطش ربك لشديد.
أهل التقوى هم المؤمنون بأن الله هو الخالق والمدبر والمحيي والمميت والرزاق، والمؤمنون بأن محمداً رسول الله وأن القرآن من عند الله، فيتمسكون به وبسنة النبي، هم صفوة البشر بعد الرسل لأنهم أولياء الله، يتقبل الله أعمالهم، هم أهل الفضائل، ملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عن محارم الله، ووظفوا أسماعهم لما يرضي الله وعلى العلم النافع، راضون عن الله في الشدة والرخاء، عظموا الخالق وصغروا ما دونه في أعينهم، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة، حاجاتهم خفيفة ونفوسهم عفيفة، يوفون العهد، يفعلون الخيرات، يجاهدون بالمال والنفس، صابرون موقنون بأنهم إلى ربهم راجعون، تظهر عليهم الغلظة مع الأعداء في الحرب رحماء فيما بينهم، لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، يعظمون شعائر الله ولا يتعدون حدوده، سجيتهم الطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر منهم، يتعاونون على البر والتقوى ولا يتعاونون على الإثم والعدوان، تتجافى جنوبهم عن المضاجع لقيامهم الليل، يدعون ربهم خوفا من عقابه وطمعا في جنته، يتفكرون في خلق السماوات والأرض ويستغفرون الله، ويتركون القيل والقال ولا يتناهشون أعراض الناس، وإذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا عقاب الله وثوابه فإذا هم مبصرون للحق فيرجعون عن غيره، لا يقولون إلا الحق والصدق ولا يخشون في الله لومة لائم، فلا ينافقون ويقولون للمنافق سيدنا لأنهم يخافون سخط الله، كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل».
ولنأت إلى بعض ثمرات التقوى:
1ـ الاطمئنان على الذرية حيث أن الله تعهد بوضعها في أمانه حيث يقول الله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً).
2ـ التوفيق في العمل وهي لب الموضوع والمقصودة في قوله (يصلح لكم أعمالكم) بعد ما تبين لنا هذا المعنى من قوله تعالى في سورة يونس (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) أي يبطلها، وهذه الثمرة لا يستطيع قطفها إلا من دفع ثمنها المطلوب، فمن أراد أن يوفقه الله في عمله ويوصله إلى غايته فعليه أن يوفر الثمن الذي طلبه صاحب الأمر ألا وهو التقوى والقول السديد، فهاتان الصفتان لا بد من توفرهما في حامل الدعوة حتى يوفقه الله ويوصله إلى غايته وهي رضوان الله ونصره وتمكينه من إقامة حكم الله في الأرض.
3ـ غفران الذنوب حيث يقول الله سبحانه وتعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً).
4ـ يجعل الله بين المتقين وما يخافون فرقانا فينجيهم من كل كرب حيث يقول في سورة الأنفال (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم).
5 ـ تتنزل عليهم الملائكة لتثبتهم وتطمئنهم وتبشرهم بأن لهم الجنة لتقواهم واستقامتهم وأن لا يخافوا ولا يحزنوا لما يلاقونه من مضايقات وملاحقات واستهزاء أثناء عملهم الذي هداهم إليه الله فيقول الله سبحانه في سورة البقرة (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ويقول في سورة الأعراف (فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ويقول في سورة فصلت (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) ولقوله في سورة النبأ (إن للمتقين مفازاً) وقوله في سورة القلم (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم).
6ـ قبول الأعمال من الله سبحانه وتعالى حيث يقول سورة المائدة: (إنما يتقبل الله من المتقين).
7 ـ وكل هذه الثمرات تقل عن ثمرة حب الله لهم حيث يقول الله سبحانه في سورة آل عمـران: (بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين).
يا حملة الدعوة، يا من أخلصتم أنفسكم لله تعالى، اشترط عليكم ربكم التقوى والقول السديد ووعدكم بالتوفيق والنجاح والتمكين، فاصبروا إن وعد الله حق ولا يحملنكم الذين لا يوقنون بوعد الله على ترك الدعوة والفتور في حملها، فراقبوا أنفسكم ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فاتقوا الله وقولوا قولا سديدا حتى تنالوا الفوز والنجاح وحتى يوفقكم الله في عملكم ويوصلكم إلى غايتكم بإقامة حكم الله في الأرض الذي نسأل الله العلي القدير أن يكون ذلك قريبا والحمد لله رب العالمين.
2000-01-07