ثورات العرب بين الخلاص بالإسلام واستمرار التبعية للغرب
2012/02/07م
المقالات, كلمات الأعداد
2,059 زيارة
ثورات العرب بين الخلاص بالإسلام واستمرار التبعية للغرب
قدمت نتائج الانتخابات التي جرت وما تزال تجري في مختلف أقطار العالم الإسلامي (الجزائر، فلسطين، تركيا، تونس، ليبيا، مصر، المغرب) دليلاً ملموساً على إخفاق الغرب في استنساخ تجربته في بلاد المسلمين وبالفشل في إقناع المسلمين بالتخلي عن دينهم ونبذه، رغم هيمنته السياسية والاقتصادية عليهم. ويمكن تلخيص إخفاق الغرب في مشروعه هذا بالأسباب التالية:
أولها: إن المسلمين عاشوا في ظل الإسلام قروناً طويلة معتبرين أن حياتهم لا تكون إلا به وأن مهمتهم في الحياة هي حمل رسالته، على خلاف ما كان الحال عليه في الغرب، الذي ارتضى أن يفصل الدين عن الحياة منذ أمد بعيد، بعد أن ثبت لديه عدم قدرته على مواكبة الحياة ومستجداتها، وبالتالي لم يعد يشكل الدين في حياة شعوب الغرب إلاّ طقوساً لا تمس واقع حياتهم ونظم عيشهم.
ثانياً: بدأت فكرة فصل الدين عن الحياة في الغرب بما سمّي بالإصلاح الديني على يد فلاسفته ومفكريه، ثم تطور الأمر في خضم صراع مرير مع الأنظمة الحاكمة باسم الكنيسة بانتصار هؤلاء المفكرين في مشروعهم الذي يعتبر فصل الدين عن الحياة ضرورة لتحقيق النهضة والتقدم. فيما يعتبر المسلمون عامة والعرب بخاصة وعلماؤهم ومفكروهم على وجه التحديد أن سبب مجدهم وعزتهم ونهضتهم هو الإسلام لا شيء سواه، وأنه لم يكن يوماً عائقاً لديهم للتقدم والازدهار، على العكس من ذلك، فقد استقر في أعماق نفوسهم القول المأثور «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله”. فقد كان الإسلام عامل تحرر من الجاهلية والجمود والأعراف السقيمة، وشكل الأساس لما حققته من نهضة مادية وفكرية، على خلاف ما شكلته النصرانية في الغرب من عامل تخلف على يد طبقة «رجال الدين”، في عصور التحجر والظلم والظلام التي شاع فيها تعطيل التفكير حتى تبقى الشعوب خانعة لمن يتحكم فيها باسم الرب.
ثالثاً: كان التحول في الغرب ذاتياً وداخلياً دون تدخل خارجيّ، ليلبي احتياجات المجتمع وتطلعات مفكريه. على عكس العالم الإسلامي الذي يفرض عليه الغرب فرضاً إقصاء الدين عن الحياة بمختلف الوسائل والأساليب. فيما يقاوم المسلمون حملات التغريب هذه، بل ويتطلعون إلى تحرير أنفسهم من هيمنة الغرب بمختلف أشكالها من خلال استئناف الحياة الإسلامية بتطبيق دينهم في حياتهم ونظم حكمهم لتستقيم لهم شؤون الدين والدنيا.
إلا أنه رغم إخفاق الغرب في مشروع تغريب العالم الإسلامي وفرض العلمنة الصرفة عليه ونبذ الدين وازدرائه، فإن الغرب ما زال مصراً على اعتماد فرض فصل الإسلام عن الحياة كحجر الزاوية في سياساته تجاه المسلمين. ولذلك فإنه يعمل بنفس طويل وعلى مدى أجيال وبأكثر من أسلوب لتنفيذ مشروعه الذي لا يلين فيه ولا يستكين عنه.
لقد ابتدأ الغرب مشروع علمنة الأمة من خلال محاولات حثيثة في استقطاب عدد من أبناء المسلمين، ليكونوا رأس الحربة في الهجوم على الإسلام والحط من قدره والطعن بأحكامه والتشكيك بصلاحيته للحكم تحت ذرائع شتى. لهذا رعى الاستعمار الغربي في أمهات العواصم العربية التي خضعت لسلطته المباشرة فريقاً من المثقفين كرفاعة الطهطاوي وطه حسين وأتباعهما الذين ضبعوا بالحضارة الغربية، فأخذوا يبثون سمومهم في الأمة بعد أن هيّأ لهم الغرب الدعم المادي والمعنوي. وقد كان لهؤلاء تأثير كبير بين أوساط المتعلمين لفترة من الزمان، لكنه ما لبث أن اضمحل بالتدريج مع صحوة الأمة وعودتها إلى الإسلام، حتى لم يعد لهذا الفريق أي رصيد ذي شأن بين جماهير أبناء الأمة.
ومن أبرز ما حاوله الغرب في هذا الإطار كذلك هو محاولة استنساخ تجربته الخاصة التي ابتدأت بحركة «الإصلاح الديني” في أوروبا للحدّ من تأثير النصرانية في مجتمعاته ولتحجيم دور رجال الكنيسة، كمقدمة لفصل الدين عن الحياة. فقد شهدت أوروبا خلال القرنيين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي ولادة حركات طالبت بإصلاح ديني يواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أنتجت فيما بعد الصيغة العلمانية والديمقراطية القائمة عندهم.
في هذا السياق ظهر في الأمة فريق لبس لبوس الغيورين على الإسلام، تولى بناء منهج محرف يخلط الإسلام بغيره بحجة مسايرة العصر ومواءمة أحكام الدين لما استجد من أحداث باسم التجديد، قاد هذا التيار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا. فصدقهم الكثيرون من أبناء المسلمين المخلصين الذين انتهى بهم المطاف لاحقاً ليصبحوا في صف واحد مع العلمانيين وخصوماً شرسين للمشروع الإسلامي الأصيل. وقد ساهمت الحركة الماسونية التي انتسب إليها روّاد هذا الفريق في عملية الهدم والتخريب بعد أن أفسدت عقائد هؤلاء النفر وأمدتهم بكل ما يحتاجونه من دعم سياسيّ ومعنوي لضرب الإسلام كنظام حكم ونمط فريد للحياة.
وقد تنبه لخطورة هذا الفريق منذ البداية عدد من علماء الأمة، وهو ما أشار إليه صراحة مصطفى صبري “شيخ الإسلام” في الدولة العثمانية بقوله: «وأما الدعوة الإصلاحية المنسوبة الى محمد عبده فخلاصتها أنه زعزع الأزهر عن جموده على الدين !! فقرب كثيراً من الأزهريين إلى اللادينيين ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة، وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني، كما أنه شجع قاسم أمين على ترويج السفور في مصر.” (الأعمال الكاملة لمحمد عبده جمع محمد عمارة (1/133-134))
ومع تطور الأحداث وحصول تغيرات في الأمة التي نبذت في مجملها ثقافة الغرب، كان المنهج الإصلاحي الذي يعتمد تغيير الدين وتغييبه باسم الدين هو الاستراتيجية التي اعتمدها الغرب لصرف الأمة عن نهضتها بالنموذج الصحيح للإسلام، الذي يفرض الوحدة الكاملة بين أقطارها وبتحكيم الشريعة فيها، وبتحرير بلاد المسلمين المحتلة من خلال الأمة وليس فريقاً عاجزاً منها، وفي توزيع الثروات فيما بينها بحسب ما تقتضيه الأحكام الشرعية المفصلة، وليس بحسب التقسيمات الوطنية والقطرية الضيقة.
إنّ ما يظهر للعيان في سياق ثورات الشعوب المسلمة في البلاد العربية هو محاولات محمومة ومركزة لتتويج منهج الأفغاني وعبده في الحكم باسم «الإسلام الوسطي المعتدل” لقطع الطريق على إجراء تغيير حقيقي وجذري على أساس الإسلام. وهي محاولة لاستبدال الأنظمة الاستبدادية العلمانية التي استنفذت أغراضها وحان وقت التخلص منها، بإلباسها عباءة الإسلام الرأسمالي المزيف، المبني على نظريات مائعة وفذلكات فارغة، تبقي الأمة دائرة في فلك الغرب، وخاضعة لنفوذه ومعاييره، ومرتبطة بتوجهاته لتحقيق مصالحه.
لقد أدركت الأوساط المتنفذة في بلادنا والمدعومة من الغرب بأن الأمة تتطلع إلى حكم الإسلام، ولذلك عملت على حرف الأمة عن توجهها هذا من خلال إبراز أصحاب منهج “الإسلام الوسطي المدني الديمقراطي المعتدل”، الذين يدفعون بشدة إلى إقامة دول مدنية وطنية تكرس الانقسام الاستعماري الحاصل بين أبناء الأمة الواحدة وإلى ديموقراطية تؤصل لإقصاء الشريعة. غافلين أو متغافلين عن أن الأمة بواقع أنظمتها ودولها الحالية مُصمَّمة على نحو لا يمكنها الانعتاق من همينة الغرب مع بقائها دولاً وطنية ولو أرادت، وستبقى أمة يتيمة غريبة عن إسلامها طالما ظل النهج الديمقراطي الغربي هو الإطار المفروض عليها.
لذلك كان واجباً التخلص من الأنظمة الحاكمة واستبدالها بنظام دولة الخلافة التي تحكم الشريعة وتوحد الأمة. وإلا فإن الغرب سيظل متحكماً في اقتصادها وأمنها وسلاحها، ولن يتوانى عن التدخل في شؤونها باسم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات وحقوق الطوائف، فيما لا يملك القائمون على الأنظمة المدنية الديمقراطية الوطنية القائمة الاعتراض على ذلك بحكم اندماجهم بالنظام الدولي وانتمائهم إلى المنظمات التابعة له، واعترافهم بمواثيقها ونظمها التي تفرض الخضوع للدول الكبرى وللحضارة الغربية.
وعلى الذين يفرحون برضى الغرب عنهم، وبقبولهم أن يصل اسم الإسلام إلى السلطة لا أحكامه وقوانينه ودستوره، أن يتقوا ربهم وأمتهم في دينهم الذي يساومون عليه من أجل أن يرضى بهم عدوّهم الذي قضى على خلافتهم ومزّقهم وسامهم الذلّ والهوان على يد طغاة عتاة فرضهم عقوداً طويلة عليها؛ ثمّ ها هو يتظاهر بعد كل المؤامرات والجرائم التي ارتكبها بحق ديننا وأمتنا وبلادنا أنه يهمّه سلامتنا وحريتنا ومستقبلنا. ونذكرهم بقوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)
لذلك كله نرى أنه ما من سبيل أمام المسلمين إلا أن يتداعوا قولاً وعملاً إلى التمسك بحبل الله الذي يرسم ميثاقاً واضح المعالم للأمة، يجعل من إقامة الخلافة الإسلامية تاج الفروض وفي مقدمة الأولويات، لتتوحد أقطارهم في ظلها ويطبق شرع الله فيها، ويعيش المسلمون حياتهم وفق نظم الإسلام السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا وفق القوانين الوضعية والنظم المستوردة. وعلى الإسلاميين الذين يمالئون الغرب ويستعطفونه ويسارعون لنيل رضاه، ويتداعون إلى إقامة الدولة المدنية الوطنية الديمقراطية، أن يرعووا عن مثل هذه الدعوات المشبوهة التي تعتبر بحق خيانة لله ولرسوله، حتى لا ينطبق عليهم قوله تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)
2012-02-07