ليبيا: قراءة في مسيرة الثورة
2011/11/06م
المقالات
1,732 زيارة
ليبيا: قراءة في مسيرة الثورة
لقد كشفت الثورة في ليبيا عن كريم معدن المسلمين فيها وتوجههم الديني الفائق حتى ظهر أن العلمانيين فيها يعدون على الأصابع، ولا يمثلون في الشارع إلا أنفسهم، وأن الإسلاميين كانوا في مقدمة إسقاط القذافي؛ لذلك لن يرتاح الغرب ولن يطمئن حتى يحقق أمرين: إيجاد دستور ينهل من روافده الفكرية، وإيجاد حكام عملاء هو يجهد الآن في صناعتهم وتسويقهم للناس. وإننا ندعو الشعب الليبي أن يكون على قدر المسؤولية، فندعوه ليطرح دستوراً إسلامياً يكون فيه الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع، وبالتالي لا يقبل إلا حاكماً مسلماً ملتزماً تقياً نقياً يقبل أن يحاسب على أساس الإسلام، فليبيا إن لم تكن الخلافة فيها ابتداء فلتهيئ نفسها لهذا الحدث المنتظر.
تمثل ليبيا والصراع فيها وعليها نموذجاً مصغراً لقضية الشرق الأوسط لا سيما بخصوص عوامل ثلاثة منها هي الاستعمار، الموقع الجغرافي الاستراتيجي، والإسلام. لذلك توجب فهم تأثير هذه العوامل لتتبلور صورة المشهد السياسي وتداعيات الأحداث والمشروع السياسي القادم فيها.
عوامل الصراع الدولي
(1) الاستعمار: الدول الكبرى وصراعها على ثروات ليبيا
تبلغ مساحة ليبيا ضعف مساحة مصر تقريباً، فيما يبلغ عدد سكانها 6.5 مليون نسمة فقط، وهي من أكبر منتجي النفط والغاز في أفريقيا، ما جعلها مطمعاً للدول الاستعمارية الكبرى. وقد تمكنت إيطاليا من احتلالها أوائل القرن العشرين بعد أن دب الضعف في الدولة العثمانية، ومن ثم تقاسمت فرنسا وإيطاليا وبريطانيا الوصاية عليها بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن اليد العليا كانت فيها لبريطانيا التي استمر نفوذها بشكل بارز إلى ما بعد «الاستقلال». وبعد أن شاخ ملك ليبيا إدريس السنوسي وبات غير قادر على تحمل أعباء الحكم، ولم يترك له وريثاً يخلفه، وعزم على ترك البلاد و الذهاب إلى المدينة المنورة ليقضي ما تبقى له من حياته فيها، أصبح وضع النظام متراخياً وهشاً، فوجدت أميركا الفرصة مناسبة كي تسيطر عليها من خلال انقلاب عسكري على شاكلة انقلاب الضباط الأحرار الذي رعته في مصر عام 1952م.
أدركت بريطانيا مخططات أميركا سيما أنها جاءت في سياق محاولات أميركا المحمومة لاقتلاع نفوذها من المنطقة والحيلولة مكانها، وكانت أحدث تلك المحاولات الأميركية حينها، والتي نجحت بدهاء ماكر في ضرب النفوذ البريطاني عبر الانقلاب الذي قام به جعفر النميري في السودان في 25 مايو 1969. لذلك قامت بريطانيا باستباق أميركا في ليبيا ورعت انقلاب القذافي في 1 سبتمبر 1969م. وتلخصت مهمة القذافي مذذاك بتصفية موالي أميركا داخلياً والتخريب على المشاريع الأميركية في أفريقيا والشرق الأوسط خارجياً خدمة لمصالح بريطانيا. وقد توجت بريطانيا علاقتها التاريخية (الخفية) مع نظام القذافي في عام 2005م بعقد حكومة توني بلير اتفاقية علنية مع القذافي تعهدت بموجبها حماية نظامه من أي تهديدات خارجية، فعلت ذلك بعد أن أعادت تأهيله ودمجه في المؤسسات الدولية وتنظيف ملفاته الإجرامية على نسق عمليات غسيل الأموال.
إلا أن الحراك الهائل في المنطقة واندلاع شرارته في ليبيا بشكل مؤثر، جعل بريطانيا تعيد حساباتها سريعاً لتكون السباقة في عملية استئصال هذا النظام، ورعاية البديل بشكل مباشر، ومن خلال استعمال فعال لدولة قطر مالياً وسياسياً ودعائياً وأمنياً، حتى تحفظ نفوذها وتفوت الفرصة على منافسيها من الدول الاستعمارية الأخرى.
(2) الموقع الاستراتيجي: موقع ليبيا الجغرافي على البحر المتوسط
تملك ليبيا أطول خط ساحلي على البحر الأبيض المتوسط (حوالى ألفي كم). ويعتبر هذا البحر تاريخياً وحاضراً موقعاً هاماً على كافة الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية، إذ إنه نقطة الوصل المائي بين أوروبا وشمال أفريقيا وبلاد الشام وتركيا، إضافة إلى قنوات اتصال مع المحيط الأطلسي وغيره من البحار. ولشدة أهميته، عده الفيلسوف الألماني المعروف هيغل «العنصر الموحد لمركز تاريخ العالم بالنسبة لثلاثة أرباع الكرة الأرضية». وكانت ليبيا سابقاً ( القرن الثامن عشر والتاسع عشر) تفرض الجزية على سفن البحرية الأميركية والأوروبية التي تمر في مياهها الإقليمية لقاء تأمين سلامتها. كما يعد هذا الخط الساحلي مركز تهديد أساسي تخشاه أوروبا إذا تم الإخلال في عملية ضبطه، إذ سيسمح بعملية اجتياح لها من قبل المهاجرين الأفارقة، فيما لا تستطيع هي تحمل سوى أعداد محدودة منهم وعلى دفعات.
(3) الإسلام: المناخ العام السائد في ليبيا
دخل الإسلام إلى ليبيا مبكراً (زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب)، وتدين الغالبية الساحقة من أهل ليبيا بالإسلام (أكثر من 97%). ورغم محاولات نظام القذافي البائسة لطمس الإسلام طوال أربعين عاماً من خلال فرض نظام حكم شاذ يتعارض مع الإسلام. إلا أن الإسلام ازداد رسوخاً في نفوس أهل ليبيا، وانصرف كثير منهم إلى حفظ كتاب الله تعالى، وتشير بعض الإحصائيات إلى أن خمس السكان هم من حفظة القرآن. كما ظهر مع ثورة 17 فبراير 2011م مناخ إسلامي عارم بين عامة الناس وفي صفوف الثوار، وظهر ذلك بشكل جلي في شعاراتهم وفي التزامهم بالشعائر كالصلاة والدعاء والدعوة إلى الشهادة والجهاد. كما انعكس ذلك المناخ في سجود رئيس المجلس الانتقالي المستشار مصطفى عبد الجليل بمناسبة إعلانه تحرير ليبيا من نظام القذافي وإعلانه عن اعتماد الإسلام كمصدر أساسي للتشريع تُلغى بموجبه كافة القوانين التي تتعارض مع مبادئ الإسلام، كإعادة العمل بجواز تعدد الزوجات، لافتاً النظر إلى خطورة استمرار التعامل بالربا والتمني على التخلص منه تدريجياً. كما يؤكد ذلك المناخ الإسلامي السائد، تصريح عبد الجليل نفسه أثناء لقائه بالوزير الأول في تونس لوسائل الإعلام بأن ما وقع من قناة نسمة التونسية (تعد بخصوص الذات الإلهية) لو حصل مثله في ليبيا لبادرنا إلى قطع رأسها مباشرة.
ويعتبر ظهور الإسلام على هذا النحو في ليبيا دليلاً حسياً على بطلان المعادلة المفترضة بأنّ الانخراط في الأنظمة السياسية الباطلة القائمة في بلاد المسلمين أجدى للدعوة الإسلامية من مجافاتها ومفاصلتها. فليبيا وتونس وغيرها من البلاد التي تمت فيها محاولات استئصال الإسلام أدت إلى نتيجة معاكسة، إذ تركز وعي الناس على هذا الدين وازداد تشبثهم به أكثر من غيرهم من البلدان، حيث اختلط الحق بالباطل. كما كان ظاهراً بأن الجماهير الساحقة في هذه البلاد تتوق لليوم الذي تعيد استنشاق إسلامها بحرية من جديد، فتطبقه وتحيا فيه بكرامة وعز وطمأنينة. وهو ما فاجأ كثيرين من خصوم الإسلام وجعلهم يتخوفون مما يمكن أن تؤول إليه هذه الثورات.
المشهد السياسي في ليبيا
(1) المجلس الانتقالي وصراع الأجنحة
تشكل المجلس الانتقالي الليبي برعاية ودعم وتمويل قطري مباشر، وكانت الدوحة قبلة كل من انشق عن القذافي ويعمل ضده، فقد كانت المطبخ السياسي والأمني والإعلامي لإنتاج البديل القائم حالياً في ليبيا. ومن المعلوم بأن قطر ليست دولة عظمى ولا حتى دولة إقليمية كبرى أو صغرى، إنما هي جزيرة صنعت منها بريطانيا إمارة، وتمكنت من كسب ولاء حكامها وتسخيرهم لمآربها. وبالتالي فإن دور قطر سواء في ليبيا أو في غيرها مستمد مما ترسمه لها الخارجية البريطانية. إلا أن ثمة صراعاً واضحاً بين أركان المجلس الانتقالي، سيما أعضاء اللجنة التنفيذية الأساسيين من التيار العلماني أمثال محمود جبريل (رئيس الوزراء) ومحمود شمام (وزير الإعلام) وعلي الترهوني (وزير النفط) وبين رموز التيار الإسلامي بشكل عام، كالشيخ علي الصلابي وعبد الحكيم بلحاج، وقد حاول كل طرف مناكفة الطرف الآخر وإسقاطه. فقد حاول تيار جبريل بأن يكيل التهم لبلحاج بوصفه صاحب أجندة إسلامية خاصة، وعمل مع فريقه على إقصائه من رئاسة المجلس العسكري في طرابلس، ولما فشلوا حاولوا إغراقه بالمسؤوليات الإدارية والمشاكل اليومية التفصيلية لأهل طرابلس من غير منحه الدعم اللازم لإنجاز مهامه، محاولين إثبات فشله على طريق إسقاطه. على كل فمن المؤكد بأنه لا يوجد رصيد للعلمانيين في البلاد ويكفي في ظل المناخ الحالي السائد ادعاء بأن فلاناً (كمحمود شمام) من تيار جبريل لا يصلي ولا يصوم لإسقاطه من أعين الناس. ولهذا كان لا مناص أمام العلمانيين سوى أن يطأطئوا الرأس للمناخ السائد ويجاروا الرأي العام في ليبيا ويقبلوا بما دعا إليه المستشار مصطفى عبد الجليل من أن ليبيا دولة إسلامية وبأن الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع الخ.
(2) التيار الإسلامي المعتدل
هناك محاولة لتجميع الإسلاميين كلهم في تيار واحد تحت إطار «الإسلام المعتدل»، يجمع الأخوان والسلفيين والجماعة المقاتلة وغيرهم، بذريعة التصدي للعلمانيين (ولكن ليس من أجل إقامة دولة إسلامية تحكم بالإسلام) وإنما لأجل إقامة دولة مدنية ديمقراطية في إطار المرجعية الإسلامية. وهناك تركيز كبير في وسائل الإعلام على إبراز شخصيات بعينها لتصدر هذا التيار وقيادته. ويبدو بأن النموذج الأردوغاني قد ترك أثره بين مختلف هذه المجموعات وإن بنسب مختلفة. وفيما تستنسخ تونس في الأيام الجارية المثال التركي، فإنه يراد لليبيا أن تسير على نفس الخط. ويعتبر نموذج «الإسلام المعتدل» الذي يؤكد عليه مصطفى عبد الجليل كلما تطرق إلى دور الإسلام في ليبيا جزءاً من هذه العملية.
(3) «حلف أصدقاء ليبيا»
إن هلاك القذافي ونهاية نظامه هو إغلاق لصفحة مظلمة في تاريخ ليبيا الحديث، إلا أن المشكلة تكمن في أن حلف الناتو هو من قصم ظهر نظام القذافي، رغم كل ما يُسلم به من بسالة ورغبة عارمة لدى الثوار في قتاله والخلاص منه. وحلف الناتو كما هو معلوم الذراع العسكرية للحلف الغربي الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. ومن غير المتوقع وغير المنطقي في حسابات الدول الكبرى أن تترك ليبيا بعد أن قضت على نظام العقيد، فهي ليست جمعية خيرية تدير مشاريع إنسانية، إنما هي دول استعمارية تتطلع بشره إلى نهب ثروات الشعوب الأخرى. لذلك تم الإعلان في مؤتمر «أصدقاء ليبيا» الذي عقد في الدوحة في 26-10-2011م عن إنشاء تحالف دولي جديد منبثق من حلف الناتو والدول المتحالفة، ضم 13 دولة بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بـ»قيادة» قطر. وتتلخص مهمات التحالف في تقديم الدعم لليبيين فى مجال التدريب وجمع السلاح وبناء المؤسسات العسكرية الليبية وترتيب إدخال الثوار فى هذه المنظومة، كما سيشارك الحلف في تأمين الحدود وضبط تسرب الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. مما يعني بأن هذا التحالف الدولي سيباشر الوصاية الفعلية على ليبيا إلى أن تضمن الدول الكبرى بأن كل شيء على ما يرام بالنسبة لها.
خلاصة
لا يخفى بأن قرار تصدر قطر لقيادة الحلف الجديد، يرجع إلى حساسية أهل المنطقة من التدخل الغربي وما تركه من آثار سلبية سابقة سيما في العراق وأفغانستان، كما أن الرأي العالم في المنطقة ينفر من التدخل الأميركي أو البريطاني حتى لو جاء على شكل «مساعدات»، فيما يقبل بالدور القطري أو السعودي، رغم أنهما يغردان في إطار مظلة الدول الكبرى ويجسدان سياساتها. كما أن السعي الدؤوب لاستنساخ النموذج التركي في ليبيا يجعل الغرب يأمن على مصالحه، سيما بعدما تجاوز حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان الاختبار على مدار سنوات بجدارة، تمثل ذلك في نجاحه باحتواء الوضع الداخلي وتأثيره الواضح في محيطه بما يتناسب مع مصالح الغرب سياسياً وثقافياً واقتصادياً، فهو ينادي بالسلام مع (إسرائيل) ويطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي ويشجع على تبني العلمانية الخ، مما شجع القوى الكبرى على اعتماده كأداة ونموذج للحفاظ على مصالحها في المنطقة، بخاصة أن هذا أقل تكلفة من الاحتلال العسكري المباشر، ومقبول نسبياً لدى الرأي العام، وأكثر استقراراً من وضع الأنظمة البشعة التي سادت المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن كل هذا لن يحقق لأهل ليبيا أو للمنطقة ما تصبو إليه، وكل ما سينتجه هو عملية تجميلية يعاد من خلالها إنتاج أنظمة تابعة للغرب وتدور في فلكه وتجعل مقدراتها وثرواتها في خدمة المشروع الاستعماري من جديد. فهلا أفاق المخلصون ووعوا إلى ما يراد بهم من شر، وهلا أدركوا بأن قضية الإسلام ليست قضية مشروع سياسي ينجح أو يفشل إنما هو قضية رسالة للبشرية، وتحويله إلى مشروع سياسي متلون، قد يحقق لمن يدغدغ مشاعر الناس به نصراً على المدى القصير، لكنه سيتحول لاحقاً عبئاً عليهم وعلى الإسلام نفسه.
2011-11-06