بقلم: أحمد المحمود
(تتمة البحث المنشور في العدد التاسع)
اللغة العربية جزء جوهري لا ينفصل عن الاسلام، فهي لغة القرآن والحديث، وبالتالي لغة الشرع والاجتهاد، والضعف في فهمها سوف يؤدي إلى الضعف في فهم الاسلام، وبالتالي العجز عن حمله وتأديته.
وقد أدرك الغرب ذلك، فعمل ولا يزال يعمل على إقصاء اللغة العربية عن الحياة، وأخذ اللهجات العامِّية أو لغات أخرى مكانها.
وقد اتخذت دعوته وسائل وأشكالاً عديدة، وكلها تؤدي إلى الغرض نفسه: إبعاد المسلمين عن اللغة العربية، وبالتالي إبعادهم عن الإسلام.
ترابط الدعوة إلى العامية مع الدعوة إلى القوميات وتناسبها
دغدغ الغرب الكافر العواطف القومية بين ذوي الأعراق الهنديّة، فأثار فيهم القومية الهندية. وأظهر محاسن الحضارة الهندية القديمة وآدابها وعلومها ولغتها السنسكريتية القديمة. وربط التأخر عن ركب الحضارة الحديثة بصلتهم بالاسلام.
وفي شمال أفريقيا، أثار القومية البربرية وتظاهر بالحماسة للهجاتها، وأسرع يطبع مختلف الكتب التي تتضمّن دراسة اللهجات البربرية وقواعدها لإحلالها محل العربية الفصحى.
وفي تركيا، أثار عواطف القوميّة الطورانية، وصوّر لهم أن الحضارة التركية هي من أقدم الحضارات، ويه تتصل بالحضارات والمدنيّات البابلية والآشورية القديمة. وصوّر لهم أن طريق مجدهم رهن بقطع الصلة بينهم وبين الشعوب الإسلامية. لذلك ما أن استطاع مصطفى كمال ـ وهو يهودي من يهود الدونمة ـ الغاء الخلافة، حتى حرّم على الشعب التركي النطق باللغة العربية حتى في عباداته الدينية، وألغى الكتابة بالرسم العربي، وجعل مكانها الكتابة بالحروف اللاتينية، واستطاعوا بذلك أن يفصلوا مسلمي تركيا عن مسلمي العرب وعن باقي المسلمين، وأصبحت قراءة القرآن والأحاديث وكتب الشريعة الإسلامية مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية.
وفي مصر دغدغ الكافر العواطف القومية الفرعونية، وأحيا بينهم تاريخ رمسيس، وبناة الأهرامات، وزعم أن العامية المصرية ذات جذور قديمة لا تتصل بالعربية الفصحى.
وفي سوريا ولبنان والأردن، أحيا القوميّات السابقة للفتح الاسلامي، فنبش القبور، وأخرج العظام النخرة، عظام الفينيقيين والكنعانيين وقال لهم: هذه عظام أجدادكم، وأقنعهم بأن الفينيقيين هم أوّل من اخترع الكتابة. وكذلك أبرز أهمية الكتابة السومرية المسمارية..
وهكذا كان له مع كل شعب وجه، وفي كل أمة طريقة. أما الهدف فواحد، وهو فصل المسلمين عن مصدر قوتهم وتفتيت وحدتهم.
فإذا انفصلت اللغات سهل فصل المسلمين عن بعضهم، إذ كيف يتخاطب المسلم التركي مع المسلم الأفغاني مع المسلم الهندي أو الباكستناني مع المسلم العربي. أضف إلى ذلك اللهجات المحلية العامية هي بحدّ ذاتها عنصر تفرقة حتى بين أهل اللغة نفسها. فهناك اصطلاحات عامّية كثيرة في مصر لا يفهما السوري أو العراقي أو اللبناني، فضلاً عن أهل البلد الواحد تختلف اللهجة والاصطلاحات العامية في منطقة عنها في منطقة أخرى، وهكذا. بينما واقع العربية الفصحى أنها تجمع لهجة المسلمين العرب، والحرص على تعليمها للمسلمين غير العرب يجعلهم مسلمين عرباً ولو كانوا من الصين، لأن العربية هي اللسان.
اللغة العربية لغة القرآن
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن وجعله هدى ورحمة للمتقين وأمرنا بالاستمساك به. قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). وحفظه لنا حتى قيام الساعة، فهو حجّة الله على خلقه، وهو بالتالي حجة لنا ما استمسكنا به أو حجة علينا ما تنكّبنا عنه. وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فكان محفوظاً من التحريف والتبديل والنسيان والضياع في لفظه ومعناه. فهو كتاب أحكمت آياته لفظاً ومعنى.
ويقول جل شأنه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ).
ويقول جل شأنه: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ** قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 27 ـ 28].
ويقول جل شأنه: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2].
فالقرآن الكريم هو اللفظ المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل عليه من معانية. ولأن للفظ أصولاً وقواعد فتكون معانيه مضبوطة بلفظن وتكون المعاني على مراد قائلها وهو الله سبحانه تعالى. والقرآن حمل المعاني الكثيرة التي يحتاجها الناس في حياتهم وقبل حياتهم وبعدها وكل أسلوبه المعجز من الوضوح والقوة والجمال ما يعجز البشر عن أن يصلوا إليه. وقد أحكمت الألفاظ على قواعد أردكها اللغوين وجعلوا القرآن هو الميزان لهذه القواعد لشدة ضبطها ودقتها. فبقدر تمرس المسلم بقواعد اللغة العربية بقدر إدراكه لمعاني القرآن. وبقدر إدراك عظمة الأسلوب المعجز بقدر الاندهاش والتأثر فيؤدي الحكمة من إنزاله بهذه اللغة وهي (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).. فكان اختيار اللغة العربية كألفاظ لمعاني القرآن هو الاختيار المناسب، وكان الحفاظ على اللغة العربية هو حفاظاً على معاني القرآن.
لذلك فإن كتاباً مباركاً وهدى ورحمة ونوراً وشفاء لما في الصدور وقد أمرنا الله بالاستمساك به، لحقيق بأن يبذل من أجل الحرص عليه كل جهد مستطاع للحفاظ على لغته لا لذات اللغة وإنما حفاظاً على كتاب الله: صراط الله المستقيم وحبله المتين. وبما أن الله سبحانه قد تكفّل بحفظه فهو سبحانه سيعين ويوفق من يقف في وجه مثل هذه الدعوات حتى يتحقق الحفظ. ولعمري ما طعن ثعالب النصيحة المستشرقون الأبالسة باللغة العربية الفصحى إلا للوصول إلى القلب من الجسد وهو القرآن والذي به تحيا القلوب وتطمئن وتنشرح.
ولعلنا نلفت نظر المسلمين إلى أن اللغة العربية هي من العلوم الشرعية. وتعلمها والتعمق بها هو من الواجبات الكفائية التي يؤجر المسلم عليها إذا ابتغى بهذا التعلم وجه الله سبحانه وتعالى شأنها في ذلك شأن سائر المعارف الشرعية.
وعليه فإننا ندعو المسلمين إلى الاهتمام بلغتهم لأنها لغة القرآن. وأن يكونوا واعين لما تدسه أيدي الأعداء الكافرين: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
ومن الخطأ والخطر علينا أن يكون أعداؤنا واعين لمكامن الخطر عليهم ونحن غير واعين. فإلى مزيد من الوعي أيها المسلمون.
اللغة العربية والاجتهاد
إن الإسلام مقطوع بصحته، وفهمه فهماً صحيحاً هو الذي يؤدي إلى صحة تطبيقه وإحسان حمل دعوته وتعليمه للناس.
ولا يتأتى فهم الإسلام من مصادره واستنباط الأحكام منه إلا باللغة العربية. فكانت اللغة العربية جزءاً جوهرياً من الإسلام لا تنفصل عنه.
ولقد وعى سلفنا الصالح هذه الحقيقة فحملوا الإسلام بحمل الكتاب والسنة واللغة العربية. ووجد علماء من فارس تعلموا اللغة العربية وصاروا أئمة حديث وفقه ولغة عندما صاروا عرباً لأن العربية هي اللسان فقط والمشاكل المتجددة تحتاج إلى فهم دقيق من النصوص حتى تعالج، مما يستدعي مداومة الاهتمام باللغة العربية لتبقى القدرة على فهم النصوص وبالتالي معالجة المشاكل لأن اللغة العربية هي السبيل الوحيد لفهم النصوص ولا سبيل غيره وعليه فلا اجتهاد من غير لغة عربية.
هذا الأمر أدركه الكفار الغربيون لذلك عملوا على فصل اللغة عن الإسلام ليتسنى لهم فصل المسلمين عن الفهم الصحيح للأحكام. وعندما اضطرب على المسلمين فهم الأحكام اضطرب عليهم تطبيقها وعندما حدث ذلك كان له أثره السيء على الدولة الإسلامية وكان من العوامل المؤذنة بانهيارها.
اللغة العربية عامل من عوامل وحدة المسلمين
إن الإسلام قد جمع بين أتباعه، وجعلهم أمة واحدة من دون الناس هي خير الأمم. وجعلتهم أفكارهم ومشاعرهم الواحدة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
وقد ألف الله قلوب المسلمين على الإسلام برباط وثيق من المودة في الله سبحانه فوجدة الألفة والمحبة والأخوة في الله بين كل الشعوب الإسلامية على اختلاف أعراقها. وكان ميزان التفاضل بينها التقوى وليس غير. قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».
والإسلام الذي جمع بين أبي بكر القرشي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي قادر الآن وفي كل وقت أن يجمع بأفكاره ومفاهيمه الصحيحة الواحدة بين المسلم الأميركي والمسلم الروسي المسلم الصيني وأن يجعلهم من أمة الإسلام الواحدة.
فهذا الإسلام الذي ملك ويملك القدرة على صهر الشعوب في بوتقته وعقد أواصر الوحدة بينهم على الإيمان والتقوى هال الكفار الغربيين، وخافوا منه على أنفسهم فعملوا عن طريق ثعالب النصيحة المستشرقين على توهين الصلة بين الإسلام والمسلمين وفك أواصر المسلمين فيما بينهم وفرط عقدهم فبدأو بالكيد للغة العربية الفصحى كسبيل لهم لابعاد المسلمين عن لغة القرآن فيبتعدوا بالتالي عن الفهم الصحيح الذي يوحد بينهم.
وأخيراً
بقيت لنا كلمة واقتراح
أما الكلمة فهي أن اهتمامنا بلغتنا يجب أن يفوق اهتمام غيرنا بلغته لأن ديننا وحي من الله يجب أن نحافظ عليه بكليتنا. وأن من أسباب المحافظة عليه أن نحافظ على لغته وأن من أكبر دواعي حب المسلمين لربهم ولرسولهم حب اللغة التي أنزل بها كتابه وتكلم بها رسوله.
ونقترح على القيمين على الدولة الإسلامية المنشودة حمل اللغة العربية الفصحى للمسلمين كل المسلمين. وجعلها اللغة الوحيدة للدولة ما في ذلك من تيسير للفهم الصحيح، والاتصال المباشر من غير واسطة بالقرآن الكريم، ولاتصال الناس المباشر كذلك فيما بينهم.
أحمد المحمود
28/12/1987