مفهوم التسامح بين الإسلام والغرب (3)
2006/05/31م
المقالات
2,113 زيارة
مفهوم التسامح بين الإسلام والغرب (3)
بقلم: السيد ياسين بن علي
(ملاحظة: نعتذر من الأخ ياسين بن علي صاحب المقالة، للخطأ المطبعي الذي وقع في النسخة الورقية، من نسبة المقالة لكاتب آخر)
إنّ الرأسمالية التي سادت العالم بأكمله، وملكت الدنيا واكتسحت بسطوتها الكون، فَعَنَتْ لها وجوه ونُكست رؤوس، هي حضارة مولعة بتزوير الحقائق، ومغرمة بإخفاء الوقائع، فلا يعنيها طلب الصدق، ولا يشغلها إحقاق الحقّ وإبطال الباطل بقدر ما يعنيها ويشغلها مقدار الدماء التي مُصّت، وكمية الثروات التي نُهبت، والمنفعة التي حصّلت.
كم يلذ للرأسماليين، ويَطيب لهم، مدح حضارتهم بكلّ صفة حميدة، ومكرمة نبيلة، وشَميلة محمودة، وخلّة حسنة. وكم يكره هؤلاء أنْ تنتقد ثقافتهم، وأنْ تردّ حضارتهم، وأنْ تجتنب طريقتهم في العيش. إنّه سلوك من تعالى وتكبّر، وصنيع من طغى وتجبّر.
إن حماة الحضارة الغربية يعيّرون الإسلام بالتعصّب وعدم قبول الآخرين، مع أن الحقيقة على النقيض مما يدّعون، وهو ما سنثبته في هذا المقام، ونسلط الضوء عليه ونجلّيه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيى عن بينة.
فرية معاداة السامية
بغضّ النظر عن الخلفية التاريخية والسياسية لفكرة معاداة السامية، وبغضّ النظر عن كونها نشأت كنتيجة لاضطهاد أوروبا لليهود، فإننا نتناول فكرة معاداة السامية من زاويتين هما:
أوّلا: إذا افترضنا حسن النية في فكرة معاداة السامية، باعتبار أنّ اليهود لاقوا الويلات على أيدي الأوروبيين، شرقيين كانوا أم غربيين، فظهرت فكرة التسامح معهم، ودعي لقبولهم ومنع التمييز العنصري في حقّهم، فإنّ الإسلام كما أسلفنا القول، يحرّم التمييز قبل ظهور هذه الدعوة، ويعتبر اليهود بشراً شأنهم شأن البقية. فلا فرق بينهم وبين العرب أو الأوروبيين أو الترك.
ولقد كانت نظرة المسلمين إلى اليهود، ولا زالت، كبشر يتساوون مع غيرهم في الإنسانية، لذلك لم تشهد المجتمعات الإسلامية التي عاش فيها اليهود، وفرّوا إليها من ظلم الأوروبيين واضطهادهم لهم أيّ حادثة من حوادث التمييز العنصري في حقّهم. فقد عاشوا بين المسلمين، ولازالوا إلى هذه اللحظة، رغم المسألة الفلسطينية، يعيشون بينهم في اليمن، وتونس، والمغرب، ومصر وغيرها من بلاد المسلمين، محترمين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
وعليه، فإنّ الحديث عن معاداة السامية لا يشمل المسلمين الذين يحرّم دينهم التفريق بين البشر على أساس العرق، وإنما يشمل غيرهم من الذين يرون أنفسهم فوق البشر لعرقهم ولونهم الذي لم يختاروه. وحينما عبّر شكسبير في «تاجر البندقية» عن ألم اليهودي مما يلاقيه من عنصرية، قائلاً ساخراً: «… ولماذا؟ لأني يهودي؟ ولكن، أليس لليهودي عيون، أليس لليهودي أياد، وأطراف، وحواس، ومشاعر، ورغبات؟…» إنما عبّر عن صورة يعيشها في مجتمعه وليس في مجتمعنا.
وأما حقيقة الصراع بين المسلمين واليهود اليوم، فهو صراع سياسي لا دخل للعرق فيه عند المسلمين. فاليهود اغتصبوا أرضاً إسلاميةً بمباركة الغرب، هي أرض فلسطين، وأقاموا فيها دولة غصباً عن المسلمين.
واليهود هم من يمارس العنصرية والتطهير العرقي في فلسطين، بقتلهم الرجال والأطفال، وتدمير البيوت، وتهجير السكان، وبناء المستوطنات. ولقد بالغ اليهود في تمييزهم، ولا سيما في عهد شارون، حتى قال واحد منهم، هو يوسي ساريد زعيم حزب ميرتس (Mertez party): «إنني كيهودي وإسرائيلي أشعر بالخزي لأنني أعيش في بلد يحكمه وزراء عنصريون يؤمنون بسياسة الترحيل».
وقال القسيس الجنوب أفريقي ديزموند توتو (Desmond Tutu) الحائز على جائز نوبل، واصفاً الوضع في فلسطين، فيما نشرته صحيفة الغارديان اللندنية في عددها الصادر يوم الاثنين 29/4/2002م تحت عنوان: (التمييز العنصري في الأرض المقدّسة) (Apartheid in the Holy Land): «… لقد صعقت وأصابتني الكآبة لدى زيارتي للأرض المقدسة. لقد ذكرني ما رأيت بما عانيناه نحن السود في جنوب أفريقيا. شهدت بأم عيني الإذلال الذي يتعرّض له الفلسطينيون على نقاط التفتيش والحواجز، وهم يتعرضون للذل والمهانة، ويعانون مثلنا عندما كان رجال الشرطة البيض الشبان يحولون دون تجولنا وخروجنا من بيوتنا…».
ثانياً: إنّ معاداة السامية تتعلّق بالعرق، أي معاداة اليهود لأنّهم يهود. وأمّا نقد التصرّفات اليهودية، وفضح أفكار بعضهم الهدّامة، وأفعالهم الخبيثة في عرف البشر قاطبة، فإنّه لا يتعلّق بالعرق، ولا يشمل دعوة انتقاص منهم، أو نظرة دون إليهم لأنهم من عرق غير عرق الآخر.
فألفاظ تستعمل عند المسلمين مثل، اليهود قوم بهت، وقتلة الأنبياء، ومفسدون في الأرض، ويخونون العهد ولا يوفون بالذمة، كلّها تتعلّق بوصف أفعال اليهود الباطلة وتصرّفاتهم الخبيثة التي قاموا بها ولا زالوا يقومون بها. فهي لا تتعلّق بعرق اليهود، ولا تستنكره، ولا تحقّره، ولا تنتقص منه، وأنّى يكون ذلك وعلماء الأنثروبولوجيا يجعلون العرب واليهود من أصل واحد، والإسلام يحرّم التمييز العنصري.
وقد بيّن القرآن الكريم أنّ السبب في غضب الله تعالى على اليهود أفعالهم، من ذلك قوله تعالى: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) [البقرة 61] وقوله: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) [المائدة 64].
وقد حوى الإنجيل والتوراة ألفاظا وعبارات تصف اليهود بالأفاعي، وبيت المردة، وقتلة الأنبياء، وغير ذلك من العبارات التي لو ذكرها مسلم لحوكم بتهمة معاداة السامية. ونذكر جملة من الأقوال مما ورد في التوراة في وصف اليهود ليتدبّر فيها كلّ عاقل ونزيه:
1- استمعي أيتها السماوات، وأنصتي أيتها الأرض، فإن الرب قد تكلم. إني ربيت بنين وكبَّرتهم لكنهم تمردوا عليَّ، عرف الثور مالكه، والحمار علف صاحبه، لكن إسرائيل لم يعرف وشعبي لم يفهم، ويل للأمة الخاطئة الشعب المثقل بالآثام، ذرية أشرار وبنين فاسدين، إنهم تركوا الرب واستهانوا بقدُّوس إسرائيل وارتدوا على أعقابهم.
علام تُضرَبون أيضاً إذا ازددتم تمرداً ؟ الرأس كله مريض والقلب كله سقيم. من أخمص القدم إلى الرأس، لا صحة فيه بل جروح ورضوض وقروح مفتوحة لم تعالج ولم تعصب ولم تُلَيَّن بدهن). [أشعياء 1 : 1- 6]
2- كيف صارت المدينة الأمينة [القدس] زانية ؟ لقد كانت مملوءة عدلاً، وفيها كان بيت الرب، أما الآن فإنما فيها قَتَلة. فِضَّتك صارت خبثاً، وشرابك مزج بماء. رؤساؤك عصاة وشركاء للسراقين، كل يحب الرشوة ويسعى وراء الهدايا ، لا ينصفون اليتيم، ودعوى الأرملة لا تبلغ إليهم،فلذلك قال السيد رب القوات عزيز إسرائيل: لأثأرن من خصومي وأنتقمن من أعدائي. وأرد يدي عليك، وأحرِقَ خبثك كما بالحرض وأنزع نفاياتك كلها). [أشعياء 1: 21-25].
3- آثامكم فرقت بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم حجبت وجهه عنكم، فلا يسمع لأنّ أكفكم تلطخت بالدم وأصابعكم بالإثم، ليس من مدع بالبر ولا محكم بالصدق، يتكلمون على الخواء وينطقون بالباطل، يحبلون الظلم ويلدون الإثم، ينقفون بيض الحيات وينسجون خيوط العنكبوت. وبيضهم من أكل منه يموت، وما كُسر منه انشق عن أفعى، خيوطهم لا تصير ثوباً ولا يكتسون، بأعمالهم إثم، وفعل العنف في أكفهم، أرجلهم تسعى إلى الشر وتسارع إلى سفك الدم البريء، أفكارهم أفكار الإثم، وفي مسالكهم دمار وتحطيم، لم يعرفوا طريق السلام ولا حق في سبيلهم، قد جعلوا دروبهم معوجة، كل من سلكها لا يعرف السلام، لذلك ابتعد الحق عنا، ولم يدركنا البر، نترقب النور فإذا بالظلام ، والضياء فإذا بنا سائرون في الديجور، نتحسس الحائط كالعميان، وكمن لا عينين له نتحسس، نعثر في الظهيرة كما في العتمة، ونحن بين الأصحاء كأننا أموات…
لأن معاصينا قد كثرت تجاهك، وخطايانا شاهدة علينا، لأن معاصينا معنا وآثامنا. قد عرفنا العصيان والكذب على الرب، والارتداد من وراء إلهنا، والنطق بالظلم والتمرد والحيل بكلام الكذب، والتمتمة به في القلب…
على حسب الأعمال هكذا يجزي، فالغضب بخصومه والانتقام لأعدائه ويجزي الجزر الانتقام. [أشعياء 59 : 2 – 18].
4- يا ابن الإنسان : إني مرسلك إلى بني إسرائيل إلى أناس متمردين قد تمردوا عليّ. فقد عصوني هم وآباؤهم إلى هذا اليوم نفسه. فأرسلك إلى البنين الصلاب الوجوه، القساة القلوب، فلا تخف منهم، ولا تخف من كلامهم، لأنهم يكونون معك عُليقاً وشوكاً، ويكون جلوسك بين العقارب. من كلامهم لا تخف، ومن وجوههم لا ترتعب، فإنهم بيت تمرد [حزقيال 2 : 3].
الجهاد في الإسلام
الجهاد في الإسلام هو “قتال الكافرين لإعلاء كلمة الله”. فليس هو بحرب مقدّسة كما يقول الغربيون عن سوء قصد وتضليل، وذلك لما في كلمة “الحرب المقدّسة” من ذكريات مريرة، ومعان سلبية مغروسة بأعماق الغربيين، تعود إلى القرون الوسطى أيّام سيطرة الكنيسة على الفرد والدولة والمجتمع.
والحرب ظاهرة طبيعية شهدتها كلّ المجتمعات والدول والأزمان. يقول بكيت دي جو فينيل: «إنّ الحرب تبدو وكأنها أمر عارض في نظر ذاك الذي يكتفي بتأمل الزمن الذي يعيش فيه، إنما بالنسبة للإنسان الذي يعيش متأملاً مسار الأزمان جميعاً فسيجدها النشاط الأساسي الذي تمارسه الدول». (نقلاً عن صدى الحداثة ص199 لرضوان جودت زيادة)، والأمر غير الطبيعي هو ما يفعله الغرب بقيادة أميركا من عقد تحالفات، ومحاولة جرّ العالم كلّه للدخول في الحرب، وهو أمر قد يسبب حرباً عالمية ثالثة لا تتحملها البشرية التي عانت ويلات الأولى والثانية.
إنّ الغرب يهاجم الإسلام، لتضمّنه الجهاد الهجومي، حتّى كرّه البشر في الإسلام، وأصبح هذا الدين الحنيف السمح في نظر العالم صنو الإرهاب، والوحشية والبربرية. ولقد تجاهل العالم، أنّه في الوقت الذي تُهاجم فيه فكرة الجهاد في الإسلام، تُطوّر أميركا أسلحة الدمار الشامل، وتحتلّ أرض المسلمين، وفي الوقت الذي يُهاجم فيه القرآن لاحتوائه آيات القتال ينشد الفرنسيس لامارسياز (la Marseillaise) يدعون فيها للقتال، ويتمنون فيها سبع مرّات: أن يتدفق دم غير طاهر في ساحاتهم:
Aux armes citoyens !
Formez vos bataillons !
Marchons, marchons
Qu’un sang impur Abreuve nos sillons !
والحقيقة، أنّ الغرب يريد من المسلمين نزع السلاح، وتسليم البلاد والعباد له. فحتّى القتال من أجل تحرير الأرض يعتبره الغرب من المسلمين إرهاباً. فقتال المسلمين الروس في الشيشان إرهاب. وقتال المسلمين أميركا في أفغانستان إرهاب. وقتال المسلمين الأميركان والإنجليز في العراق إرهاب. وقتال المسلمين اليهود الصهاينة في فلسطين إرهاب. وقتال المسلمين الهندوس في كشمير إرهاب.
فماذا بقي إذن للمسلمين من قتال لا يسمّى في عرف الغرب بالإرهاب. لم يبقَ إلاّ قتالهم لبعضهم بعضاً!
إنّ الجهاد طريقة الإسلام في حمل الدعوة، مثلما الاستعمار الذي منه الاستعمار العسكري طريقة نشر الرأسمالية، أو بالأحرى فإنّ الاستعمار العسكري الترابي هو طريقة الرأسمالية لنهب البشرية واستغلال ثرواتها، وهو ما تسير عليه أميركا الآن.
إنّ المسلمين يعلنون صراحة، ودون خجل أنّ الجهاد بشقّيه الهجومي والدفاعي من الإسلام؛ وذلك لثقتهم بهذا الدين السمح، وبتشريعه العادل. فهل يعلن الغرب أنّ الاستعمار طريقته؟
إنّ الإسلام شرع القتال لإزالة الحواجز المادية التي تمنع الناس من رؤيته في الواقع مطبقاً ينعم الخلق بعدالته. وأمّا قتال الغرب فيعلل بالأمن القومي والمصالح الحيوية ومقاومة الإرهاب. وكلّ ذي عقل يعلم أنّه لحرب الإسلام ولنفط المسلمين.
قال لورنس كورب، مساعد وزير الدفاع في عهد الرئيس السابق لأميركا ريجان، أثناء حرب الخليج في سنة 1991م: «لو كانت الكويت تنتج الجزر لما اكترثنا بالأمر». وقال هاليداي: «ماذا يريد الناس في الغرب؟ الإجابة بسيطة. إنهم يريدون المال. وهذا ما تمثله العولمة. إنها تعني تحويل العالم أجمع الى سوق هائلة ومعمل إنتاج صناعي». (ساعتان هزتا العالم ص99)، والإسلام حين شرع القتال ضبطه بضوابط كثيرة، فيها من السماحة والرحمة ما يبيّن حقيقة القصد منه، الذي هو خير البشرية وليس استعمارها ونهب خيراتها.
عن سليمان بن بريدة، عن أبيه. قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذا أمّر أمير على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً. ثم قال «اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال). فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين. وأخبرهم أنهم، إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم…». (رواه مسلم).
فأوّل شروط القتال الدعوة إلى الإٍسلام بأسلوب بيّن يقيم الحجة والبرهان على من أريد قتالهم. فإن دخلوا في الإسلام بطلت الحرب، فهم من المسلمين لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
فإن أبوا الإسلام ورضوا الجزية، كفّ عنهم وقُبل منهم. والجزية هي قدر رمزي من المال يؤخذ مرة في السنة من الرجال البالغين، ولا يؤخذ من الأطفال، والنساء، والمعسرين، وهي مقابل حمايتهم ودخولهم في أمان الدولة الإسلامية.
فإن أبوا إلاّ القتال قوتلوا. علما أنه ليس القتال لأجل القتال ما يحرّك الجيوش الإسلامية، إنما من أجل أداء الرسالة السمحة التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ لذلك فإنّ الجيوش الإسلامية عبر تاريخها لم تغتصب النساء، كما فعل الصليبيون والروس والفرنسيس والصرب وحلفاء الأميركان في أفغانستان، ولم تقتل الأطفال والنساء والشيوخ والبهائم، ولم تحرق البلاد كما يفعل الغرب اليوم.
ولقد ضرب صلاح الدين الأيوبي المسلم الكردي مثلاً عظيماً في سماحة الإسلام وقوته وعزته، وسيسير على منواله جيش الخلافة القادمة بإذن الله، وهذا، رغم ما فعله الصليبيون في بيت المقدس من قتل واغتصاب وحرق وتدمير.
وهذه شهادة بعض المستشرقين والمؤرخين من الغرب:
يقول استيفن سن: «إن السلطان قد سمح لعدد كبير بالرحيل دون فدية». ويروي أستانلي لين بول: «إن السلطان قد قضى يوماً من أول بزوغ الشمس إلى غروبها وهو فاتح الباب للعجزة والفقراء تخرج من غير أن تدفع الجزية».
ويقول المؤرخ الإنجليزي (مل): «ذهب عدد من المسيحيين الذين غادروا القدس إلى أنطاكية المسيحية فلم يكن نصيبهم من أميرها إلا أن أبى عليهم أن يضيفهم، فطردهم فساروا على وجوههم في بلاد المسلمين، فقوبلوا بكل ترحاب». ولقد خرج البطرك “ستانلي” بأمواله وذخائره الكثيرة دون أن يصرف منها شيئاً في فداء الفقراء والمساكين، فقيل لصلاح الدين «لم لا تصادر هذا فيما يحمل، وتستعمله فيما تقوي به أمر المسلمين؟» فقال: «لا آخذ منه غير العشرة دنانير ولا أغدر به»، وفي ذلك يقول ستانلي لين بول: «قد وصل الأمر إلى أن سلطاناً مسلماً يلقي على راهب مسيحي درساً في معنى البر والإحسان».
إنّ هذه الروح السمحة، والأخلاق النبيلة هي أخلاق الإسلام وآدابه في التعامل مع البشر في السلم والحرب. قال الله سبحانه وتعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) [البقرة 190].
[يتبع]
2006-05-31