بســـم اللـــه الرحمـــن الرحيـــم
«عَينٌ على عَينِ جالوت»
الأخت أنفال
الحمدُ لِلَّهِ القَوِيِّ العزيز، جَعَلَ رَمَضانَ شَهرَ نصرٍ وتَمكينٍ وتَعزيز، أَعَزَّ جُندَهُ وعَزَّزَ عِبادَهُ في عَينِ جالوتَ وتَعزَّزَ بِسُلطانِهِ على جُرذَانِ جَانكيز، فكانت صَيحةُ وَاإِسلاماهُ صَيحَةَ صِدقٍ وتَحفيز، وَيومَئِذٍ فَرِحَ المؤمنونَ بِنَصرِ اللَّهِ ينصُرُ مَن يشاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العزيز .
أربعونَ سَنَةً مَرَّت على المـسلِمينَ في القَرنِ السابِعِ الهِجرِيِّ، كَأَنَّها الدَّهرُ من هَولِها ومَرارَتِها، بَدَأَت بِتَدميرِ مدينتَي بُخارى وسَمرقَندَ وذبحِ مَن فِيهِما، واستَمَرَّت حتى وَضَعَ التَّتارُ السَّيفَ في أَهلِ بغدادَ حاضِنَةِ العَبَّاسِيِّين، إِلى أَن استَقَرَّت حامِياتُهم بِغَزَّةَ هاشِمٍ على أَبوابِ مِصرَ الكِنانة، فَأَرسَلَ هُولاكو إِلى السُّلطانِ المظَفَّرِ قُطُزِ رِسالَةَ تَهديدٍ وَوعيد، فَرَدَّ عَليهِ الغَضَنفَرُ بِجَيشٍ خَرَجَ على رَأسِهِ صَوبَ عِينِ جالوت.
وَفي صَبيحةِ الخَامِسِ والعِشرينَ من رَمضانَ سَنَةَ سِتِّمِئَةٍ وَثَمانٍ وخَمسين للهِجرة، دَخَلت عَساكِرُ المغولِ سَهلَ عَينِ جالوتَ يَتَقَدَّمُهُم النَّصرانِيُّ «كاتبُوغا» لِيُدَوِّنَ التاريخُ مَلحَمةً أُختًا للغزواتِ النَّبَوِيَّة، والوَقَعاتِ الصِدِّيقِيَّةِ وَالغَدواتِ العُمَرِيَّة… نَزَلتْ عساكِرُ الإِسلامِ على نَغَماتِ دَقَّاتِ الطُّبولِ والصُّنوجِ النُّحاسِيَة، كَتيبَةٌ تَزَيَّنت بِالأَحمَرِ وَالأَبيَض، وَكتِيبَةٌ تَزَيَّنت بِالأَصفَرِ، وَأُخرى بِالأسود وهكذا … في مَشهَدٍ يُلقي الجَلالَ وَالوَقارَ على الجُندِيِّ المسلِم، رَاغِباً بِمَوعودِ اللَّهِ النصرِ أَوِ الشهادة… أَمَّا الرِّعديدُ قائِدُ المغول «كاتبوغا» فقد بُهِتَ مِن رَوعَةِ المنظَرِ ورَهبةِ المظهر.
ارتَطَمتِ الفِئَتانِ، فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبيلِ اللَّهِ، وأُخرى كافِرةٌ تُقاتِلُ في سَبيلِ الطاغوت… صالتِ الأَبطالُ وجالتِ الرِّجال، وَتَطايَرَتِ الأَيادي وَالأرجُلُ بل وَالرُّؤوسُ على شَفَراتِ السُّيوف، انهَمَرَت عَساكِرُ الإِسلامِ على جَيشِ التَّتارِ من كُلِّ ناحِية، وثارَ النَّقْعُ وارتَفَعت أَصواتُ التَّكبيرِ في العَشرِ الأَواخِرِ مِنَ الشَّهرِ الفَضيل، رَفعَ التَّتارُ سُيوفَهُم وَرَفَعَ المسلمونَ سُيوفَهُم، وَتُلِيت آياتُ الأَنفالِ حَربًا ونِزالًا وَضَربًا فَوقَ الأَعناق… ضَغَطَ المغولُ كَأَمواجِ البَحرِ الهائِجِ وَهُم مِن كُلِّ نَاحِيَةٍ يَنسِلون، حتى شَقَّ الأَمرُ على المسلمين، تساقَطَ الشُّهداءُ وتناثرتِ الأَشلاءُ، وَبَدا لِلناظِرِ أَنَّ كَفَّةَ التَّتارِ رَاجِحة، كُلُّ هذا يَحدُثُ وَالقائِدُ المظَفَّرُ محمودُ بنُ ممدودٍ قُطُزُ ينظُرُ ويَرقُبُ مِن أَعلى التِّلال، فَلما رأَى مُعاناةَ جُنودِهِ وَما هُم فيهِ من بَلاء؛ خَلَعَ خُوذَتَهُ وَأَلقى بِها على الأَرضِ وَاعتَلى جَوادَهُ وأَطلَقَ صَيحَتَه : وَاإِسلاماه … وَاإِسلاماه، فَلما رَأَى جُندُ الإِسلامِ قَائِدَهُم يُقاتِلُ كَما يُقاتِلون، ويَتَأَلَّمُ كَما يَتَأَلَّمون؛ هانَت الدُّنيا في عُيونِهِم، واصْطَفُّوا لِلمَوتِ كَأَنَّما هُم في صَلاة، ثُمَّ حَمَلوا على المغولِ حَملَةَ رَجُلٍ وَاحِد، فَتَساقَطَ التَّتارُ فَرسى مُجَندَلينَ تَحتَ نِعالِ المسلمين… اللَّهُ أَكبَرُ والعِزَّةُ لِلَّه … اللَّهُ أَكبَرُ وَالعاقِبَةُ لِلمُتقين الصابِرين… هَنيئًا لَكُمُ النَّصرُ أَيُّها السُّلطانُ المظَفَّرُ قُطُز، هَنيئًا لَكمُ النَّصرُ يا جُندَ الله ، هَنيئًا لَكُمُ الشَّهادةُ أَيُّها المغاوير، وَالحمدُ لِلَّهِ القائِل: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
أَيُّها المسلِمون: إِنَّنا إِذ نَستَرجِعُ صَفحةَ عِزٍّ من تَارِيخِنا العَظيم، فَإِنَّنا اليومَ نَقْرَؤها بِعَيْنٍ بَكَتِ الدَّمَ قَبلَ الدُّموعِ على أُمَّةِ الإِسلام، التي صارَت نَهبًا لِكُلِّ طامِعٍ وَمَرتعًا لِكُلِّ رَاتِع … نَرنو لِيَومٍ كَيَومِ عَينِ جالوتَ، نَعتِقُ فِيهِ أُمَّتَنا مِن قَبضَةِ أَنظِمَةِ الضِّرارِ وتَسَلُّطِ الكُفَّار، نَرمُقُ خِلافَةً تَجمَعُ شَتاتَ الأُمَّةِ تَحتَ رَايَةِ التَّوحيدِ التي نُصِرَ المسلِمونَ تَحتَها في عَينِ جالوت… هَذِهِ رِسالَتي إِلَيكُم يا إِخوة العقيدَةِ، يا أَبناءَ خَيرِ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلناس، في شَهرِ الرحمةِ والمغفِرةِ والعِتقِ مِنَ النَّار، في شَهرِ بَدرٍ وَفتحِ مَكَّةَ والبُوَيبِ وَفَتحِ عَمُّورِيَّةَ وَالمنصورةِ وَعينِ جالوتَ، والقائِمةُ تطول… وَأَنا البِنتُ التي نَهَضَت على هَذِهِ الدُّنيا لِترى أُمَّةً مَكسورَةَ الجناحِ، تَداعَت عَلَيها الأُمَمُ وَالشُّعوبُ تَنهشُ لَحمَها وتَنهَبُ ثَرواتِها وَتَستَبيحُ حُرُماتِها!
أَنا بِنتُ الأَرضِ المبارَكَةِ فِلَسطين، أَرضِ عَينِ جالوتَ وَبَيسانَ وَحِطِّين، ضِقتُ ذَرعًا بِاليهودِ الغاصِبين، أَنامُ على أَزيزِ رَصاصِهِم وأَصحو على هَديرِ طَيَرانِهِم، تَتوقُ نَفسي لِسَجدةٍ آمِنةٍ في المسجِدِ الأَقصى في شَهرِ رَمضانَ فلا أَجِدُها، ولا أَتَلَذَّذُ بِها… ضِقتُ بالحواجِزِ العسكَرِيَّةِ والاقتِحاماتِ الليلِيَّة، ولا أَجِدُ نفسي اليَومَ إِلا صارِخةً كما صاحَ المظَفَّرُ قُطُز: واإِسلاماه… واإِسلاماه… واإِسلاماه، أَصيحُ وَظَنِّي أَن تُلامِسَ صَيحَتي آذانًا صاغِيةً وعُيونًا على أَوجاعِنا واعِية ، فتُثيرُ في أُمَّتِنا الهِمَمَ والحِمَم ، الهِمَمَ التي تُعيدُ أُمَّتَنا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلناس… والحِمَمَ التي تَهوي بِها هَذهِ الأُمَّةُ على تِلكَ القصورِ الملعونة، على تِلكَ العُروشِ التي نَخَرَ في جُدرانِها السوس، فَتَنقُضُها حَجَرًا حَجرًا لا تُبقي لِلمُلكِ الجَبرِيِّ أَثرًا، وتُقيمُ على أَنقاضِ هؤلاءِ النَّكراتِ دولةَ الخلافةِ الإِسلاميةِ الثانيةِ على مِنهاجِ النُّبُوَّة، عِندَها وَحَسب، نُكَحِّلُ أَعيُنَنا بِعينِ جالوتَ ثانيَةٍ ، تُدَمِّرُ على يَهودَ بُنيانَهُم، وتَهُدُّ عليهِم أَركانَهُم، وتفتَحُ روما وتغزو أميركا في عُقرِ دارِها فَهَل مِن قُطُزٍ جديد؟