بسم الله الرحمن الرحيم
«سايكس بيكو ووعد بلفور»
بعد مئة عام: مخطط جديد لضرب كيان الأمة وأهدافها…
حمد طبيب – بيت المقدس
في مثل هذه الأيام وقبل مئة عام- أثناء الحرب العالمية الأولى – كانت الدول الكبرى الكافرة تتآمر على الأمة الإسلامية، لتحطيمها وتقسيم أوصالها واستعمارها، وتضع الخطط المستقبلية والاتفاقات السرية، لتنفيذ هذه المؤامرة الكبرى، وتطبيقها عملياً في أرض الواقع… وكان من هذه الاتفاقات السرية اتفاقية (سايكس بيكو) التي تمت في سنة 1916م عبر مباحثات حثيثة ومتواصلة؛ جرت في كل من ( لندن وليننغراد وباريس) وكان منها كذلك (وعد بلفور) المشؤوم؛ الذي وقعه وزير خارجية بريطانيا ( آرثر بلفور ) وبعث به إلى المليونير اليهودي (اللورد روتشيلد) سنة 1917م. واليوم تعود الدول الكبرى الكافرة لتضع مخططات جديدة لبلاد المسلمين، فيما يُسمى بــ (سايكس بيكو جديد) تُبقي حالة الضعف والتشرذم والتبعية والعمالة مستمرة؛ وتحافظ على الكيان اليهودي قويًا متماسكًا كي يستمر في خدمة أهداف الغرب ونظرته المستقبلية لبلاد المسلمين..
فكيف عملت هذه الاتفاقات الشريرة الإجرامية على إيجاد هذا الكيان اليهودي الشرير في قلب العالم الإسلامي؟ وما هو دوره المستقبلي في خدمة برامج الغرب لإبقاء التبعية والاستعمار، وإبقاء التشرذم والتمزيق للعالم الإسلامي، والحيلولة دون عودة الأمة لتاريخها وحضارتها العريقة؟ وكيف يعمل الغرب هذه الأيام للمحافظة على هذا الكيان المسخ وتثبيته في قلب العالم الإسلامي من خلال برامجه السياسية وتقسيماته المستقبلية لدول العالم الإسلامي فيما يسمى بـ (سايكس بيكو جديد) ؟!… وللإجابة عن هذه الأسئلة سنتحدث عن هذا الموضوع من عدة زوايا:
الزاوية الأولى: المخطط الغربي الصليبي في بنود اتفاقية (سايكس بيكو ووعد بلفور) لإيجاد وطن قومي لليهود، والخطوات العملية لتنفيذ هذا المخطط الإجرامي في أرض الواقع.
الزاوية الثانية: أهداف الغرب الاستعمارية والعقائدية من إيجاد هذا الكيان الشرير في قلب العالم الإسلامي.
الزاوية الثالثة: كيف يعمل الغرب الصليبي اليوم – من خلال مشروع (سايكس بيكو جديد) – لتثبيت الكيان اليهودي، والمحافظة عليه، وإدخاله ضمن منظومة المنطقة السياسية المستقبلية؟.
وقبل البداية في الحديث عن هذه الزوايا الثلاث نقول: إن الحرب الكافرة على أمة الإسلام استمرت منذ وجدت دعوة الإسلام على وجه الأرض قبل ألف وأربع مائة عام ونيف، وحاولت بأساليب ووسائل متعددة – بداية – أن تحول دون بزوغ فجر الإسلام على وجه الأرض، ثم حاولت هدم كيانه السياسي بعد تشكله في المدينة المنورة أكثر من مرة عبر حروب متعددة؛ (فكرية وسياسية ودموية) – وكان أشد الناس في هذه الحرب على الأمة الإسلامية – بشهادة رب العزة جل جلاله- هم اليهود والنصارى؛ قال تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).. فحاول اليهود بداية في المدينة المنورة هدم كيان الأمة السياسي، وحاول الروم النصارى بكل ما أوتوا من قوة تحقيق هذه الغاية، ثم جاءت الحروب الصليبية من قبل دول أوروبا على بلاد المسلمين، ثم كانت المؤامرة الصليبية الكبرى على كيان الأمة السياسي (الدولة العثمانية) من قبل أوروبا وروسيا وأميركا؛ وانتهت بهدم الدولة الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى، وتمزيق بلاد المسلمين واستعمارها، وإيجاد الوطن القومي لليهود.. وإن هذه الحرب ما زالت مستمرة ولن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) البقرة 217 … وتأخذ هذه الحرب أشكالًا وأبعادًا وأساليب شتى لإزالة هذه الأمة من الوجود، ووأد أهدافها وغاياتها المستقبلية!!..
أما ما يتعلق بالزاوية الأولى: وهو المخطط الغربي الصليبي لإيجاد وطن قومي لليهود؛ فمن خلال مؤامرة (سايكس بيكو ووعد بلفور)، والخطوات العملية لتنفيذ هذا المخطط؛ فقد وضع الغرب أمام ناظريه إنهاء الكيان السياسي للمسلمين (الدولة العثمانية)، بعد الحرب العالمية مباشرة، وخاصة أن ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية قد خسرتا الحرب، وخرجتا مهزومتين، ووضع كذلك مخططات لما بعد هذه المرحلة (نهاية الدولة العثمانية) وكانت معاهدة (سايكس بيكو) بين الدبلوماسي الفرنسي (فرانسوا جورج بيكو) والدبلوماسي البريطاني (مارك سايكس) سنة 1916م إحدى هذه المخططات، التي وضعت لمنطقة ما يسمى بالهلال الخصيب.
جاء في الموسوعة العربية: «…أبرمت اتفاقية سايكس ـ بيكو بين وزير خارجية بريطانيا (مارك سايكس) ووزير خارجية فرنسا (جورج بيكو)، وكانت الاتفاقية تتويجًا لسياسة الأطماع الأوروبية منذ الحروب الصليبية حتى الحرب العالمية الأولى… وهي أساس تجزئة الأمة العربية وشرذمتها… وما كادت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها، حتى دخلت جيوش المنتصرين الولايات العربية، وانتشرت على نحو مدروس في جميع البلدان المشمولة بالاتفاقية، تمهيدًا لتطبيقها فيما بعد على أرض الواقع، فدخل الفرنسيون إلى سورية، والإنكليز إلى العراق وفلسطين، وبدؤوا العمل على وضع حدود إقليمية وفق مصالحهم، ضاربين عرض الحائط بالوعود التي قطعوها للعرب (الحسين بن علي)، وبدأ دخول هذه القوات سنة 1920م وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، مازال المشرق العربي يعاني من تداعياتها حتى اليوم…».
ومن خلال هذا المخطط الشرير (سايكس بيكو) كان لبريطانيا منطقة فلسطين وشرق الأردن؛ فيما يسمى بالانتداب البريطاني، فأرادت بريطانيا أن تكافئ اليهود – حسب زعمهم – على جهودهم التي قدموها لبريطانيا خلال الحرب، وان تنشئ كيانًا في فلسطين يكون خادمًا ومنفذًا لسياستها مستقبلًا؛ والرامية لاستمرارية استعمارها للمنطقة المحيطة، فكان (وعد بلفور) بعد سايكس بيكو مباشرة سنة 1917م، جاء في الموسوعة الفلسطينية: «يرى (اللورد كتشنر) قائد القوات البريطانية، إلى أن التطورات التقنية العسكرية اقتضت احتلال فلسطين، وإبقاءها تحت التاج البريطاني لأغراض الدفاع عن قناة السويس، وادّعى اليهود أنهم خير من يحقق هذا الهدف لإنكلترا؛ بإقامتهم هناك – تابعين مخلصين للاستعمار البريطاني، يسهرون على أمنه وسلامة مواصلاته، وذكر (لويد جورج) أنه أيد إعطاء الوعد (ويعرف بالإنكليزية بوعد بلفور Balfour Declaration) مكافأةً منه لوايزمن على مساهمته العلمية المهمة في صناعة العتاد الحربي أثناء الحرب العالمية…»
وذكرت (الجزيرة نت)؛ بمناسبة مرور مئة عام على سايكس بيكو ووعد بلفور: «… تعتبر الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطانية عام 1917م إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة، والتي عرفت فيما بعد باسم وعد بلفور، أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان لليهود على تراب فلسطين، وقد قطعت فيها الحكومة البريطانية تعهدًا بإقامة دولة لليهود في فلسطين. وفي ما يلي نص الرسالة: «..عزيزي اللورد روتشيلد… يسرني جدًا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته… إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى، وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علمًا بهذا التصريح…».
وفعلًا انتهت الحرب ووضعت أوزارها، وخرجت الدولة العثمانية مهزومة في هذه الحرب، فكانت المرحلة الثانية وهي (إزالة الدولة العثمانية وإنهاؤها ككيان سياسي معادٍ للغرب وسياساته الاستعمارية)، وكان من أدوات ذلك المخطط الإجرامي الصليبي (الشريف حسين بن علي) الذي تآمر مع الإنجليز في فترة الحرب، وإبان وضع المخططات المستقبلية لمنطقة الهلال الخصيب، فيما عرف بعد (برسائل حسين مكماهون). جاء في الموسوعة العالمية تحت عنوان: (مراسلات الحسين مكماهون ): « …هي مجموعة رسائل متبادلة بين (لشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة) مع المندوب السامي البريطاني السير (آرثر هنري مكماهون) للتفاوض حول شكل الدولة العربية، التي ستمنحها بريطانيا للعرب بعد ثورتهم على العثمانيين، ومساعدة بريطانيا في إنهاء الدولة العثمانية… بدأت المراسلات بين الشريف حسين ومكماهون في 14 تموز/يوليو 1915م واستمرت حتى 10 آذار/مارس 1916م، وبلغ مجموع الرسائل المتبادلة فيها عشر رسائل، وكان هدف الإنجليز منها إشعال الثورة ضد الأتراك… ولم تسفر هذه الرسائل عن منح العرب أية مطالب من الوعود الغربية؛ إذ عمدت بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى إلى الاتفاق مع فرنسا على تقاسم الوطن العربي؛ وهو الاتفاق الذي عرف باسم (سايكس بيكو)، وكان نصيب الشريف حسين من ثورته تمجيد القوميين والغربيين له في كتب التاريخ بوصفه قائد الثورة العربية الكبرى!!…»
لقد انتهت الدولة العثمانية بالفعل، بسبب المؤامرات التي حاكها الغرب، وبمساعدة عملائه من العرب والأتراك، ووقعت فلسطين أثناء هذه المرحلة تحت الانتداب البريطاني. وأرادت بريطانيا أن تفي بعهودها ووعدها لليهود؛ في إيجاد وطن قومي لهم على أرض الإسراء والمعراج، بما فيها القدس والمسجد الأقصى المبارك، وأصبحت أرض فلسطين وجهة اليهود الجديدة نحو الهجرة من دول أوروبا، ثم حصل ما حصل من إكمال فصول المؤامرة – في ظل حكّام الضرار – حيث سيطر اليهود على الجزء الأكبر من فلسطين سنة ثمان وأربعين، وقاموا بإعلان قيام ما يسمى بـ (إسرائيل)!!… جاء في الجزيرة نت 2-11-2014م تحت عنوان: «بريطانيا وفلسطين… بين وعدين» ما يلي: «… لقد شهدت فترة الانتداب البريطاني على فلسطين (1920م-1948م) موجات هجرة يهودية مكثفة، منها: موجة الهجرة الثالثة (1919م-1923م)، وقد هاجر إلى فلسطين نحو (35.100) يهودي، والهجرة الرابعة (1924م-1931م) وفيها هُجر نحو (78.898) يهوديًا باتجاه فلسطين، معظمهم من ألمانيا ودول أوروبا الغربية وبولندا، في حين تمت الهجرة الخامسة في الفترة (1932م-1939م)، وتم فيها تهجير نحو (224.784) يهوديًا باتجاه فلسطين، وهي الهجرة الأهم في تاريخ الحركة الصهيونية. وقد استغلت الحركة الصهيونية الظروف الدولية السائدة خاصة في ألمانيا، وجذبت المزيد من اليهود إلى فلسطين عبر إغراءات مختلفة مادية ومعنوية، أما موجة الهجرة السادسة (1940م-1948م) فقد جُذب خلالها (118.300) يهودي إلى فلسطين عبر تمويل المؤسسات والمنظمات اليهودية المنبثقة عن الحركة الصهيونية… وقد رافق التسلل اليهودي إلى فلسطين أثناء فترة الانتداب البريطاني (1922م-1948م)، بناء مزيد من المستعمرات اليهودية، فوصل عدد المستعمرات اليهودية إلى (110) مستعمرات في العام 1927م ما لبث أن ازداد إلى (291) مستعمرة زراعية حتى العام 1948م، وهو العام الذي أعلن فيه عن قيام (إسرائيل) في 15 مايو/أيار…»
وهكذا اكتملت فصول المؤامرة عملياً لاتفاقيات (سايكس بيكو ووعد بلفور)، في إيجاد وطن قومي لليهود ثم إعلان قيام – ما يسمى زورًا بـ (دولة إسرائيل) من خلال تقسيم الهلال الخصيب بعد إنهاء الدولة العثمانية سياسيًا من أرض الواقع!!… واكتملت فصول المؤامرة لتنفيذ وعد بلفور بشكل كامل عندما تآمرت الجيوش العربية مرة أخرى، وعلى رأسها حفيد الحسين بن علي ( الملك حسين بن طلال ) ملك الأردن؛ فتم تسليم باقي أرض فلسطين لليهود حتى نهر الأردن؛ بما فيها المسجد الأقصى المبارك، وما زال هذا الكيان المغتصب الشرير جاثمًا على أرض!!.
ونصل إلى الزاوية الثانية في هذا الموضوع وهي: (أهداف الغرب الصليبي البارزة من إيجاد الكيان اليهودي) في قلب العالم الإسلامي… وحتى ندرك هذه الأهداف جيدًا، يجب أن نسترجع ما قاله وزير خارجية بريطانيا بعد هدم الخلافة «كارزون» في مجلس العموم البريطاني: يقول الأستاذ (جلال العالم) في كتابه «قادة الغرب يقولون: دمّروا الإسلام أبيدوا أهله»: «… ولما وقف كرزون وزير خارجية إنكلترا في مجلس العموم البريطاني يستعرض ما جرى مع تركيا، احتج بعض النواب الإنكليز بعنف على كرزون، واستغربوا كيف اعترفت إنكلترا باستقلال تركيا، التي يمكن أن تجمع حولها الدول الإسلامية مرة أخرى وتهجم على الغرب، فأجاب كرزون: «لقد قضينا على تركيا، التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم… لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة) فصفَّق النواب الإنكليز كلهم وسكتت المعارضة».
فالهدف الذي وضعه الغرب الصليبي بشكل عام هو: (عدم عودة الخلافة مرة أخرى إلى العالم الإسلامي) لأن عودتها تهديد مباشر لحضارته وكياناته السياسية، وعودة مرة أخرى لرؤية جيوش المسلمين على أبواب فيينَّا وباريس وموسكو والنمسا وغيرها.
فيجب الإبقاء على هذا الوضع القائم في العالم الإسلامي من الضعف والتشرذم والتجزئة وعدم الاستقرار السياسي، لذلك لا بد من إيجاد ما يرسخ هذه الحالة السيئة، ومن ذلك زرع الكيان اليهودي في فلسطين – قلب العالم الإسلامي – لإبقاء الصراع مستعرًا بين اليهود والمسلمين، ويبقى هذا الكيان الفاسد المفسد كالجرثومة الموجودة في الجسد السليم تعمل على إمراضه وإضعافه بشكل دائم…
جاء في موسوعة الأديان تحت عنوان «اليهودية وما تفرع عنها»: (… وقد رأت الدول الغربية أنها ستكسب مكسبين عظيمين من إقامة هذا الكيان في جسد الأمة الإسلامية:
أحدهما: أنها تسلم من شرور اليهود وسيطرتهم، وفسادهم وتحكمهم في البلاد وثرواتها.
ثانيهما: أنها تضع في قلب الأمة الإسلامية دولة حليفة لهم، وهي في نفس الوقت علة تستنزف قوى الأمة الإسلامية، وتضع بذور الفرقة والخلاف بين أفرادها، حتى لا تقوم لها قائمة…»
يقول الدكتور(عبد الوهاب المسيري) في كتاب (اليهود واليهودية والصهيونية): «…إن عملية توطين اليهود في فلسطين كان لها بعدها السياسي، فروتشيلد كان مرتبطًا بالمصالح الرأسمالية الإمبريالية الفرنسية، التي كانت تريد توسيع رقعة نفوذها في الشرق، وكانت تفكر بحماس شديد في التركة التي سيتركها رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية)… والمشروع الصهيوني هو في نهاية الأمر جزء من المخطط الإمبريالي لاقتسام الإمبراطورية العثمانية».
ويقول الدكتور (محمد علي الروسان) في كتاب (التحالف البریطاني الصهیوني الطریق إلى اغتصاب فلسطین): «… وجاءت اتجاهات بعض الساسة البريطانيين، بالربط بين أهمية فلـسطين للمـصالح البريطانيـة، وبـين تجميـع اليهـود فيهـا رافـدًا للمـشروع الاسـتيطاني اليهـودي في فلـسطين برعايـة بريطانيـة، باعتبـار أن هـذا الاسـتيطان هـو أفضل من إقامة الجـيش البريطـاني في فلسطين؛ ذلـك أن وجـود قـوة صـديقة للاسـتعمار يمثـل حـصنًا متقـدمًا في الـشرق، يفـصل بين الجزء الأفريقي والجزء الآسيوي للمنطقة العربية…».
أما ما يتعلق بالزاوية الأخيرة في هذا الموضوع؛ وهي: الأعمال والسياسات التي يقوم بها الغرب هذه الأيام – وبعد مرور مئة عام على الاتفاقيات المشؤومة التآمرية في سايكس بيكو وبلفور – من أجل تثبيت هذا الكيان واستمراريته)، ودعمه سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا؛ فإن المرحلة الحالية – وخاصة في ظل الثورات المتواصلة على العالم الإسلامي – قد أفرزت واقعًا أشد إلحاحًا من السابق للمحافظة على التجزئة والتبعية للعالم الإسلامي، وزيادة نار الحروب لإشغال الأمة عن هدفها العظيم (حكم الإسلام)، وإهدار طاقاتها وتحطيم جيوشها، وتقسيم المقسم المتبقي من بلادها حتى لا تستطيع الحركة، وتنشغل بإصلاح أوضاعها المدمرة.
فقد فاجأت الثورات حكام الغرب والعرب على السواء، وجاءت هذه المرحلة من الثورات بعد سنة 2010م بركانًا وزلزالًا مدويًا شديدًا ضد سياسات الغرب وعملائه، وضد كياناته المتصلة به؛ مثل الكيان اليهودي، وصارت الشعوب قاطبة في العالم الإسلامي تطالب بإزالة هؤلاء العملاء، وإزالة كيان اليهود، وإعادة الحكم بالإسلام، كتب المفكر البريطاني (دونالد ماكنتاير) في صحيفة «إندبندنت» 22-1-2012م مقالًا بعنوان «كيف ضبط الربيع العربي الغرب متلبساً».قال فيه: «إن الثورات العربية فاجأت الغرب وأربكته…» ويختم بقوله: «إن الأمر الأكثر أهمية خلف كل هذه الأحداث، هو أن يتعلم الغرب التواضع، فهو لم يصنع هذه الثورات ولا يستطيع إيقافها…».
وأمام هذا الواقع رسم الغرب سياسات عديدة، للمحافظة على سياساته ومناطق نفوذه، وللحيلولة دون عودة الأمة لتاريخها وحضارتها، ومن ذلك الالتفاف على الثورات، ومنه إيجاد الأحلاف العسكرية، ومنه إيجاد الفتن الطائفية والحروب، ومنه إيجاد منظمات عسكرية وأحزاب سياسية باسم الدين تحبط مشاريع الأمة الحقيقية، ومنه ما يتعلق بموضوعنا هذا، وهو تجديد ورسم سايكس بيكو جديد للمنطقة؛ يظهر فيه كيان اليهود (المسمى زورًا وكذبًا) بـ (إسرائيل) أحد الركائز الأساسية في تقسيم هذه المنطقة.
يقول الكاتب البريطاني (جيمس بار) في كتابه «خط في الرمال» واصفًا اتفاقية (سايكس بيكو) بأنها «خط أسود فوق خريطة صماء؛ قسم الشرق الأوسط من منتصفه دون أي اعتبار للتوزيع القبلي والعشائري أو الانتماءات الدينية والعرقية… وأن حلول الذكرى السنوية لمرور 100 عام من العزلة والانقسام، وانتهاء اتفاقية سايكس بيكو سوف تكون تاريخ انتهاء صلاحيتها، وفاتحة نحو عقد معاهدات جديدة لتقسيم المنطقة إلى دويلات جديدة». وأوردت (الجزيرة نت) بمناسبة النكبة 16-5-2016م قالت: «…مثلما أفضت سايكس بيكو الأولى إلى إصدار وعد بلفور الذي أتاح لليهود تأسيس وطن قومي في فلسطين عام 1917م، كانت الدولة الإسرائيلية حاضرة في ترتيبات سايكس-بيكو الجديدة… الناظر لواقعنا العربي يجد أن (إسرائيل) تقود لعبة تغير خارطة المشرق العربي وإعادة هيكلة أوطاننا من جديد، ورسم خارطة جديدة بعد مرور مائة عام على معاهدة سايكس- بيكو، فقد لعبت (إسرائيل) دورًا كبيرًا في تقسيم السودان، ودورًا خفيًا في النزاعات الداخلية في اليمن، كما دعمت الحروب الداخلية في ليبيا، وهي على استعداد لدعم أية حروب عربية داخلية…».
وجاء في مقال للصحفي غسان الشامي تحت عنوان: “إسرائيل ومئوية سايكس بيكو المشؤومة” نشرته وكالة معًا الفلسطينية بتاريخ 26-5-2016م: “… إن خارطة سايكس- بيكو ومن بعدها أفكار الإدارة الأميركية التي حملت عنوان (الشرق الأوسط الجديد)، كلها تصب في مصلحة (إسرائيل)، وتقوي وجود الكيان في قلب العالم العربي، بل إن مصالح الكيان الصهيوني تكمن في تقسيم العالم العربي إربًا إربًا، ودول طائفية متناحرة، بل إن كثرة الجماعات والأحزاب من شأنها أن تضعف وحدة الأمة العربية الإسلامية، وتعمق الخلافات العربية العربية…».
فهل سينجح الغرب الصليبي، والصهيونية العالمية؛ ممثلة بهذا الكيان المسخ في الحيلولة دون الأمة وأهدافها وغاياتها؛ وفي إعادة وحدة الأمة الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية ؟!
لقد عمل الكفار سابقًا للحيلولة دون بزوغ فجر الإسلام، وحاولوا طمسه بعد بزوغه وانتشاره، وقادوا حروبًا متواصلة في فارس والروم ثم حروب الصليب ثم المغول، ثم الحرب على الدولة العثمانية، ثم فترة الاستعمار الأول … كل ذلك ليحطموا عقيدة هذه الأمة وتطلعاتها من أجل بناء حضارتها ودولتها، لكن جهودهم هذه كلها باءت بالفشل الذريع، وهذا باعتراف قادتهم وزعمائهم وكبار السياسيين عندهم.
يقول الأستاذ (محمد علي جريشي) في كتابه «أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي»: «… وكان فشل الصليبيين في حملاتهم المتوالية على الشرق… فانتهت بالفشل والهزيمة ووقوع «لويس» في أسر المصريين في مدينة المنصورة، وقد بذل الملك لويس فدية عظيمة للخلاص من الأسر، وبعد أن عاد إلى فرنسا.».
لقد انقلب السحر على الساحر في إيجاد وطن قومي لليهود وجعله قاعدة متقدمة للكفار في بلاد المسلمين، حيث تنبَّهت مشاعر المسلمين في كل الأرض لخطر اليهود، وتنبَّهوا كذلك إلى مسألة عقائدية تخص أقدس مقدساتهم في الأرض المباركة وهو المسجد الأقصى المبارك وأولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين، حيث ثار أهل بيت المقدس أكثر من مرة ضد اليهود المغتصبين للقدس وما حولها، ومن قبل ضد الإنجليز، وتحركت مشاعر المسلمين في عمليات بطولية ضد هذا المغتصب وسيده؛ ابتداء من ثورة القسام، والثورات التي أعقبت ذلك ثورة سنة 26، وثورة البراق وثورة الخليل…
يقول البروفسور «ستيفان وولت» من جامعة (هارفارد) في كتابه (اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية): «… إن إسرائيل – من خلال سياساتها في المنطقة – تمثل عبئًا استراتيجيًا كبيرًا على الولايات المتحدة».
والشيء الأهم الذي لم يكن في حسبان الغرب الصليبي هو تنبه المسلمين إلى مسألة الخلافة وارتباطها بفلسطين، حيث برز من أرض بيت المقدس – بعد اغتصابها مباشرة من قبل اليهود وإعلان دولتهم سنة ثمان وأربعين- برز حزب سياسي إسلامي هو حزب التحرير؛ حيث جعل من فلسطين قضية مركزية من قضايا الأمة الإسلامية، وجعل الخلافة الإسلامية قضية مصيرية محورية؛ ترتبط بها كل القضايا لأمة الإسلام بما فيها قضية ضياع فلسطين في يد المغتصب الشرير الكيان اليهودي – وكبر هذا الحزب شيئًا فشيئًا، وانطلق من أرض بيت المقدس إلى خارجها، ثم كبر واشتد عوده إلى أن أصبح حزبًا عالميًا يعمل في القارات الخمس لاستئناف الحياة الإسلامية في احد أقطار العالم الإسلامي أو مجموعة فيها، ثم ضم باقي أقطار المسلمين أو مجموعة منها، لإعلان الخلافة لينقض بعد ذلك على هذا المغتصب الشرير المجرم المتغطرس، ويحرر أولى القبلتين وثالث المسجدين وما حوله من أرض الإسراء والمعراج، ويعيدها إلى حظيرة الإسلام في ظل دولة الإسلام…
إن أمة الإسلام اليوم تحاول جاهدة تجاوز (مرحلة الحكم الجبري) المتمثل بحكم عملاء الاستعمار في العالم الإسلامي قاطبة، وقد جاءت مرحلة الثورات هذه تعبيرًا صادقًا عن مشاعر الأمة الإسلامية، في سعيها للتحرر من الظلم والكبت والتسلط؛ حيث انطلقت الأمة من (تونس الخضراء) في ثورات عظيمة، ثم امتدت مشاعر الغضب عند الأمة إلى ليبيا ومصر الكنانة وسوريا الشام ويمن الحكمة… وغيرها من بلاد تتطلع إلى الثورة على أوضاعها قاطبة؛ تطالب حكامها بالتنحي، وقدمت الأمة تضحيات عظيمة وخاصة في ثورة الشام، وقد واكب ثورات الأمة محاولات عديدة لوأد هذه الثورات والتوجهات للتخلص من مرحلة الحكام الجبريين، فحاولت دول الغرب (أميركا وأوروبا) حرف الأمة عن الهدف الأسمي إلى أهداف جانبية مثل المناداة بدولة مدنية بدل الدكتاتوريات، وحاولت إيجاد حكومات إسلامية صورية لامتصاص مشاعر الأمة الإسلامية، واستخدمت كذلك القوى والحرب العسكرية الشريرة في المناطق التي صعب عليها حرفها وتضليلها؛ مثل اليمن والشام.
لقد عادت الأمة بعد مئة عام من مؤامرات سايكس بيكو ووعد بلفور، وبعد خمسة وتسعين عاماً من هدم الخلافة، وأكثر من نصف قرن من رحيل الاستعمار العسكري… عادت الأمة اليوم تطالب بعودة حضارتها السامية وتاريخها الوضاء، وأبطلت كل المؤامرات التي حصلت – وما زالت تحصل- وهي اليوم على أبواب إعلان الخلافة الراشدة على منهاج النبوة لتوحد بلاد المسلمين في دولة واحدة هي دولة الخلافة، وتحرر الأمة فكريًا وسياسيًا وعسكريًا، وتطهر بلاد المسلمين من القوى المغتصبة أمثال اليهود والأميركان، ثم تستأنف هذه الأمة رسالتها العظيمة لتكون شاهدًا على الناس في أمانة وحي السماء؛ مصداقًا لقوله عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)؛ لتقف على أبواب أوروبا من جديد وتحقق بشارة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في فتح المدينة الثانية روما؛ مصداقاً لحديثه صلى الله عليه وسلم عندما سئل: «أي المدينتين تفتح أولاً يا رسول الله، قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً، يعني قسطنطينية» رواه الإمام أحمد. يقول الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الحديث: «فتح القسطنطينية المبشَّر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه الله عز وجل، وهو الفتح الصحيح لها حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه» ثم ينتشر هذا الدين على كل الأرض مصداقاً لوعد الله عز وجل 🙁 يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )، وبشارة رسوله عليه الصلاة والسلام في بلوغ حكم الإسلام كل الأرض؛ مصداقاً لحديثه صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين؛ بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل الله به الكفر» أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
نسأله تعالى أن يكون ذلك قريبًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.