ثورة الشام علامة فارقة في تاريخ الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية
2016/04/25م
المقالات
2,512 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
ثورة الشام علامة فارقة في تاريخ الصراع
بين الحضارتين الإسلامية والغربية
عبد الحميد عبد الحميد
في خضم بحر الحضارات المتصارعة على وجه الكرة الأرضية تبرز للمراقب حضارتان متمايزتان متنافرتان، شغل الصراع بينهما حيزًا من التاريخ الوسيط والحديث، هو الأكبر أثرًا والأكثر لفتًا للنظر، مقارنةً بجميع الصراعات الأخرى التي قامت على مجمل مساحة المشهد السياسي العالمي. هاتان الحضارتان هما الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.
وقد بقيت الغلبة لأصحاب الحضارة الإسلامية زمنًا، واستمر توسع دولتها على حساب دول الأوروبيين الكفرة، إلى أن منيت الجيوش الإسلامية بخسارتين فادحتين مثلتا نقطتي تحول خطير في تاريخ هذا الصراع على ما بينهما من زمن، الأولى كانت خسارة الجيش الأموي لمعركة بلاط الشهداء وسط فرنسا في وقت مبكر من تاريخ حضارة الإسلام بعد بداية المائة الهجرية الثانية. والثانية كانت فشل الجيوش العثمانية في اقتحام فيينا عاصمة النمسا بعد أن وصلت إلى أسوارها لمرتين، وكانت الثانية منهما قرب نهاية القرن الحادي عشر للهجرة.
لقد أنبأنا هذان الحدثان الهامّان أن تمدّد رقعة دولة الخلافة الإسلامية على حساب البلدان الأوروبية الصليبية قد وصل إلى ذروته في وقتيهما.. وفعلًا فقد بدأ العد التنازلي في المرة الأولى، وأخذت هذه الرقعة بالتقلص في الأندلس إلى أن خسرناها تمامًا بعد بضعة قرون، بعد أن لعبت كثيرٌ من العوامل دورها في تلويث عقلية المسلمين، لعل أهمها كان انشغال قادتهم فيما بينهم من صراعات، ونسيانهم للغاية التي وجدوا من أجلها في هذه الحياة، ألا وهي حكم العالم بالإسلام.
أما بعد الفشل الثاني في اقتحام فيينا فقد اختل ميزان القوى بين أصحاب الحضارتين لصالح الأوروبيين، الذين أعادوا بناء دولهم القومية الحديثة على أسس من الفكر العلماني والحضارة الرأسمالية، بعدما بان لهم زيف أفكار الكنيسة والمـَلَكية والإقطاع، وباتوا يهاجمون دولة الإسلام، وينتقصون من أراضيها الشاسعة جزءًا فجزءًا تاليًا، حتى باتت في الربع الأول من القرن الماضي كل بلاد المسلمين تحت نير الاحتلال أو النفوذ الغربيين.
أما الطامة الكبرى التي قصمت ظهر الأمة الإسلامية في هذا الزمان الصعب، فقد كانت إلغاء نظام الخلافة، الذي بقي على مدى أكثر من اثني عشر قرنًا هو الحامل المعلي للواء الحضارة الإسلامية، والممثل السياسي لأمة الإسلام بين أمم العالم أجمع.. وهكذا ولأول مرة أصبح المسلمون في الأرض رعايا لا رعاة لهم، يسهر على انتهاك حرماتهم أعداؤهم، ويذيقهم مرارة الذل والهوان من كان حكامه بالأمس القريب يتزلفون قرباً من ملوكهم وخلفائهم.
وبعد هيمنة أعدائها على بلدانها وقضائهم على خلافتها، شهدت أمة الإسلام أسوأ حقبة في تاريخها، راح يحكمها أناس من أبنائها، باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، وأصبحوا عبيدًا لأعدائهم وأعداء أمتهم، يظلمون أبناءها وينهبون خيراتها ويدنسون مقدساتها كي يرضى عنهم أسيادهم من الكفار، الذين جعلوا منهم حراسًا على أبناء أمتهم، يمنعونهم بالحديد والنار من العودة بها إلى المكانة الرفيعة التي يجب أن تتبوأها، والمرتقى الشاهق الذي يجب أن تعتليه بين أمم وشعوب الأرض قاطبةً.
لكن الأمم الحية إذا ظُلمت فمن خصائصها أنها بإدراكها لحقوقها المغتصبة، وما هي واقعة فيه من الظلم، وإدراكها لمدى قوتها، وما تستطيع فعله، فلا تلبث طويلًا حتى تثور على ظلّامها، معلنةً بصراحة ماذا تريد، آخذةً في التقدم نحو غايتها بخطوات واثقة، مقدّمةً في سبيل ذلك ما تستطيع تقديمه من التضحيات، وعندئذٍ يجدر بكل أحدٍ أن يبشرها بنصرٍ من الله وفتحٍ قريب.
وهذا بالضبط ما حدث مع أمة الإسلام التي لاحت تباشير قيامها بعد طول الرقود، بما ظهر من تململ أبنائها من واقعهم المزري، فثاروا على حكامهم في أكثر من بلد مسلم، لكن لم تلبث أن اغتيلت ثوراتهم تباعًا بعد هُنيهات قصيرة من قيامها لعدم توافر أسباب النجاح لتلك الثورات، ولعل أهم أسباب فشلها كان عدم إدراك المسلمين من أهلها على من يجب أن يثوروا وينقلبوا، وإلى ماذا يجب أن يهدفوا ويتطلعوا.
وجاء دور الشام، التي هي صفوة الله من أرضه، وفيها صفوته من خلقه وعباده، لتكمل ما بدأته أخواتها، ولتتوّج ثورتها بما يجدر بها أن تتوّجها به، لتكون خير ناطق باسم الأمة، وخير معبر عن أهدافها وطموحاتها، وخير مطالب بأعظم حقّ من حقوقها، ألا وهو تحكيم الشريعة في دولة الخلافة التي بشرنا رسولنا الكريم صلوات الله عليه وسلامه بأنها ستكون على منهاج النبوة، والتي فيها استعادة الأمن وحفظ الكرامة، وفيها حماية المقدسات والذود عن الحرمات، وفيها نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، وفيها العيش بسعادة في الدنيا والعون على دخول الجنة في الآخرة، وفيها العَودُ الأحمدُ إلى حيث كانت الأمة، خيرَ أمة أخرجت للناس.
وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة لحرف بوصلتها وتضليلها عن هدفها، ومحاولات ركوب موجتها من قبل العلمانيين أذناب أعدائها، لم تطل أيام الثورة السورية أبدًا حتى عرفت بالضبط ماذا تريد، وحددت هدفها بدقة، وهو إسقاط النظام المجرم بكل رموزه وأركانه واستبدال نظام الخلافة به.. وهكذا ملأت الرايات الإسلامية أرجاء المدن والقرى الثائرة، فكانت بذلك هذه الثورة هي الأكثر صدقًا في التعبير عما يجول في صدر أبناء الأمة المضطهدين في مشارق الأرض ومغاربها، وعما يجب أن يطمح إليه في الدنيا كل من انتمى إلى هذا الدين القويم.
وبذلك أيضًا كانت هذه الثورة هي الأكثر صراحةً وجرأة في توضيح أهدافها للقريب والبعيد، متجاوزةً جميع الخطوط الحمراء التي رسمها لأمتنا أعداؤها اللئام، سافرةً متحديةً النظام العالمي الظالم القائم على أسس الحضارة الرأسمالية الفاجرة، مستعدة بكلّ كفاءة لما غلب على ظنها أنها ستواجهه من مصاعب وعقبات، غير هيابة من هول بطش الكفار وانتقامهم، عالمةً بأن هنالك ضريبة كبيرة لا بد من دفعها لمن يريد السير في طريق العزة.
وفعلًا فها هي الشام اليوم تتحمل تبعات هذا الموقف العظيم، وتقدّم في سبيل ما نادت به أغلى ما لديها من أرواح أبنائها وفلذات أكبادها وقد بلغوا إلى الآن مئات الآلاف، متلقيةً بصدور أبطالها كل ما تفتقت عنه عبقرية الغرب الإجرامية من صنوف القتل ووسائل الإبادة والتدمير، بدءًا من الصواريخ الفراغية وبراميل الموت وليس انتهاءً بالأسلحة الكيماوية والقذائف العنقودية، لتكون الشام بحقّ رأس حربة الإسلام، كما كانت بحقّ عقر دار الإسلام، ولتستحق فعلًا تسنّم مركز قيادة الأمة في صراعها الحضاري العنيف مع أعداء الله.
لقد كشفت ثورة الشام أوّل ما كشفت أسماءً «إسلامية» كانت كبيرة، وشخصياتٍ ذات عمائم ولحى كانت بارزة، بل وجماعاتٍ «إسلامية» بحالها، طالما كان الناس يحسنون الظن برجالاتها، وفجأة إذا بهم يرونهم في الخندق الآخر، خندق العلمانيين أزلام المستعمرين، ينافحون عن العلمانية والدولة المدنية منافحة المستميت، يعملون لأجلها ويحملون رموزها ويعادون في سبيل الغرب من عاداها، حتى باتوا لا يُنزلون خطاهم إلا على ضرب إيقاع الكافرين، ولا ينفخون إلا في كير الفتنة بين شباب المسلمين.
وكشفت ثورة الشام المشهد السياسي العالمي على حقيقته وفضحته، رغم كل ما ينتهجه أسياده الغربيون من أساليب الكذب والمكر والخداع والتحايل والتضليل، ولم تترك لهم ما يغطّون به سوءاتهم وسوءات نظامهم الدولي المجرم.. فقد أظهرت للعالم أجمع كذب فكرة حقوق الإنسان التي ادّعت الدول الغربية أنها قامت على أساسها بعد الثورة الفرنسية، وكشفت متاجرة الغرب بها، وأنها ليست إلا شعارًا براقًا اتخذه وسيلة لمصّ دماء الشعوب المسحوقة، والتحكم بمقدراتها وإمكاناتها، وتسخيرها لخدمة الأسياد الغربيين.
وكشفت كذلك أن سيدة دول العالم اليوم هي أميركا بلا منازع، وأن كل دول العالم إما تبعٌ لأميركا، وإما تدور في فلكها وتسير معها لتحقيق بعض مصالحها بعد إرضائها.. وتبقى بعض الدول الكبرى الاستعمارية التي ينصبّ جل اهتمامها على المحافظة على نفوذها في مستعمراتها السابقة ضد الهجمة الأميركية، وبعض الدول المستقلة غير ذات الشأن في السياسة الدولية… وعلى ذلك لا تكون إيران وروسيا إلا بعضًا من أوراق أميركا، تستخدمهما في الشام لإتمام لعبتها القذرة، وليس كل ما يقال عن منافسة روسيا أو إيران لأميركا في الشام إلا ذرًا للرماد في العيون.
ولقد فضحت الثورة السورية حقيقة منظمة الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها ومبعوثيها الدوليين متعددي الألوان والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكشفت أنها جميعًا ليست إلا أدوات سياسية دنيئة في يد سيدتهم أميركا، تستخدمهم لتحقيق أهدافها في العالم، وإبقاء منطقتنا الإسلامية تحت النفوذ والهيمنة الأميركيين.
وكشفت كذلك ثورة الشام وعرّت جميع حكام المسلمين بدون استثناء، وأخصّ منهم حكام تركيا والسعودية الذين ابتليت الثورة بجماعات من الناس فيها يهيمون حبًا بكل منهما، ويظنون أن النصر لن يَقدُم إلا من بَسْط راحتيهما.. فقد فضحت الثورة خيانتهم لأبناء أمتهم على رؤوس الأشهاد، وتواطؤهم مع الأعداء علانية لقتل العزة النامية في نفوس المسلمين، وأظهرتهم على حقيقتهم البشعة، وهي أنهم ليسوا إلا أُجراء أذلّاء يستعملهم أسيادهم الغربيون لتحقيق مصالحهم، حتى إذا ما انتهت صلاحية أحدهم استخدموه في تنظيف قذاراتهم، وألقوه بعدها في غياهب الإهمال.
وطالما عرف هؤلاء الحكام أن هذا هو واقعهم، وأدركوا أنه بانتصار الثورة في سوريا سيزول ملكهم وستتطاير عروشهم، فلم يعقدوا العزم على خذلان أهل الشام الثائرين فحسب، بل ومحاربتهم بأشدّ ما تكون المحاربة.. ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يمثلون دور الداعم الحريص عليهم وعلى ثورتهم، وباتوا ينظرون بتشفًّ بالغٍ إلى الجرائم المرتكبة بحقّهم، وجيوشهم تنتظر رابضةً في ثكناتها كأنها لا علم لديها ولا خبر، ثمّ يتصدقون على المنكوبين بثمن الخيام التي يجب أن يسكنوها بعد أن يُهجّروا، وثمن الأكفان التي يجب أن يتكفنوا بها بعد أن يُقتلوا.
هذه هي ثورة الشام الصادقة الجريئة المـُضحّية الكاشفة الفاضحة.. لذلك فسرعان ما أدرك الغرب أنها بحقّ ثورة الأمة، والتعبير الصارخ عن تطلع أبنائها نحو الانعتاق من ظلم العبودية ونير الاستغلال، وضرورة إعادتها كما كانت أمة الخير والهداية للبشرية المنهكة تحت ضربات الغرب الظالم المتوحش. وأدرك الغرب أنها الآن تخوض معه على أرض الشام آخر حلقة في تاريخ الصراع الآنف الذكر بين حضارتيهما، وأدرك بالتالي أنه إذا ما وصلت الأمة إلى غايتها، وأقامت في الشام نواة دولتها، فسيكون على حضارته الفاسدة السلام، بل ستذهب غير مأسوف عليها، وتُدفن دون أن يصلي عليها أحد.. لهذا كله نرى الغرب الكافر ينزل بثورة الشام جام غضبه، ويصب عليها نار حقده، ويمكر بها مكرًا تزول منه الجبال.
وإن الناظر إلى جميع ما تقوم به أميركا من أفعال لوأد ثورة الشام، وعدم السماح لها بالوصول إلى غايتها، من القصف والتقتيل والتهجير لتركيع الناس تارةً، والكيد والتآمر وإشعال الفتن وشراء الذمم لصناعة العملاء تارة أخرى، إن الناظر إلى جميع هذه الأفعال الأميركية يراها تتمحور حول هدفٍ ثابتٍ واحدٍ هو ما يطلق عليه «الحل السياسي»، الذي يقتضي إنهاء الثورة من قبل الثائرين، ونسيانهم لكل جرائم النظام، وعقدهم معه الهدنة تلو الهدنة، وجلوسهم معه على طاولة المفاوضات، وتقديمهم له التنازل تلو التنازل، والخروج سويةً بحكومة مشتركة، تستمر في حكم البلد تحت وصاية النظام العلماني العميل نفسه، بعد المحافظة عليه من خلال الحفاظ على مؤسستي جيشه وأمنه، مرتكزَي عمالته للولايات المتحدة الأميركية.
وإذا فرضنا جدلًا أنه تمّ للأميركيين ما يخططون فسيكون أهل الشام قد قدموا كل هذه التضحيات الجسام، ولم ينالوا في النهاية سوى تغيير شخص رئيس النظام، هذا إن حصلوا عليه، وسيكونون قد وقعوا بعد طول الممانعة في نفس الشرك الذي وقع فيه إخوانهم في البلدان التي ثارت قبلهم ووئدت ثوراتها بهذه الطريقة الخبيثة، بأن تغيرَ شخص الرئيس فقط وبقي النظام كما هو.
فالصراع القائم اليوم هو بين أمة الإسلام ممثلة في رأس حربتها من أهل الشام الثائرين الصادقين الصامدين من جهة، وبين الغرب الكافر ممثلًا بأميركا والدول المتحالفة معها والأنظمة العميلة لها في بلادنا وأزلامها المرتزقة من ذوي جلدتنا من جهة ثانية. وانتصار أهل الشام يعني فقط القضاء على النظام العميل وقيام نواة دولة الخلافة على أرضهم المباركة وقد تحررت من كل نفوذ أجنبيّ، أما انتصار أميركا فمعناه وصول قافلة «الحل السياسي» إلى غايتها، والقضاء على الثورة، وتشكيل الحكومة المشتركة، والحفاظ على النظام العلماني الخائن الذي لم يترك أحدًا من زناة الأرض إلا وأدخله إلى بلادنا ليعينه على قتلنا.
وعليه نستطيع الجزم أن الحلّ في الشام إذا أراد أهلها أن يكون محققاً لمصالحهم ومصالح من وراءهم من أبناء أمتهم فلن يكون أبدًا مارًا عبر أروقة الأمم المتحدة التي ما وُجدت إلا لتكريس الهيمنة الغربية على بلادهم ومقدراتهم، ولن يكون أبدًا بالاحتكام إلى القانون الدولي الذي ما كتبته أيدي المستعمرين إلا للحفاظ على مصالحهم وشر غاياتهم، ولن يكون أبدًا صادرًا عن حكام بلاد المسلمين الذين ما عادوا يشكلون إلا عناوين للذلّ والصغار في واقعنا، وليسوا إلا رويبضات يتحكمون بأمورنا، ولن يكون هذا الحلّ أبدًا عبر بناء دولة وطنية تقبع ذليلة ضمن حدود سايكس بيكو التي رسمها لنا أعداؤنا؛ لأنها ستكون حينها مشروع دولة عميلة جديدة لأميركا، تنفذ سياساتها وتحقق مصالحها وتبقي على نفوذها قائمًا في بلادنا الطاهرة.
نعم لن يكون هذا الحلّ محققًا لمصلحة المسلمين إلا بإعادة إحياء الممثل السياسي لأمة الإسلام، بإقامة الخلافة الراشدة الثانية، الكيان السياسي الذي يطبق الإسلام كاملًا في واقع حياة المسلمين، ويحمله إلى غيرهم بالجهاد في سبيل الله، ويعيد الأمة المضطهدة إلى دورها الريادي بين الأمم، حاملة لهم حضارة الصدق والعدل والخير والهدى والعفاف.
وهذا الهدف العظيم لم يعد مناله، بفضل الله، بعيدًا أبدًا عن أيدي المخلصين العاملين؛ وذلك لتوافر الأسباب الموجبة لقيامه على أرض الشام، وأهمّ هذه الأسباب توافر القاعدة الشعبية المطلوب تحقيقها في البلد الذي يجب أن تقوم فيه الخلافة، فبعد انقضاء خمس سنوات على بدء الثورة بات الرأي العام على ضرورة تحكيم الشريعة وإقامة الخلافة كاسحًا بين عموم الناس في المناطق المحررة وبين عناصر الفصائل المسلحة، رغم بعض التطبيقات الخاطئة والمجتزأة للشريعة من بعض الفصائل، والتشويه الكبير الذي تتعرض له هذه الفكرة من بعض آخر.
ومنها أن هذا الشعب الحي الذي قاوم القتل والإبادة على مدى السنوات الخمس الماضية لإذلاله وتركيعه، وتصدى لمختلف أنواع الألاعيب والمكائد والمؤامرات السياسية لسرقة ثورته وقطف ثمرة جهاده، فهذا الشعب قد اكتسب من القوة والصلابة ما بات معها من المستحيل قهره وثنيه عن تحقيق أهدافه، واكتسب من الوعي على أعدائه ومخططاتهم ما بات معه من المستحيل أيضًا خداعه وتضليله والتحايل عليه.
ومن هذه الأسباب أيضًا ما يمنحه موقع الشام الاستراتيجي لها من المؤهلات الكبيرة، والذي كان سببًا في جعلها ساحة صراع طويل بين الأمم العظمى على وجه الأرض عبر مرّ العصور، وما تملكه من الإمكانات الاقتصادية الكبيرة، رغم ما تعرّض له قسمٌ منها من تدمير ممنهج في بعض ليالي الثورة المظلمة. هذا إضافةً لما يمكن أن تقدمه أرضها المعطاء من الخير العميم، والتي يجزم المتجول في مناطقها، بين سهولها وتلالها، ما بين شرقها وغربها، يجزم أنه لن يهلك من حصارٍ شعبٌ عاش على الأرض التي بارك الله فيها من فوق سبع سموات، فكيف به إذا توكل على الله وآمن به رازقًا ومنعمًا؟ حاشا لرب العزة جل جلاله أن يخذل من آمن به وتوكل عليه.
يضاف إلى ذلك جميعه وجود حزب التحرير، الفئة السياسية الواعية صاحبة مشروع الخلافة، والذي ما برح شبابه يعملون على تمهيد أرض الشام لاستقبال دولة الخلافة القادمة، رافعين من سوية وعي الناس على ضرورة إقامة دينهم وإعادة عزة أمتهم، مبصّرين إياهم بما يرونه من أخطار محدقة بهم وبثورتهم، كاشفين لهم مؤامرات الكفار وألاعيبهم، داعين إياهم إلى الاعتصام بحبل الله لا بحبائل الغرب، منيرين الطريق لهم نحو المستقبل المشرق، متصورين تمامًا لما يجب أن يكون عليه الوضع في دولة الخلافة القادمة وأجهزتها ومؤسساتها، ومستعدين للإشراف على تنفيذ هذا المشروع الكبير إذا أنيطت بهم صلاحية تنفيذه، وقيادة دفة الأمة بكفاءة في هذا البحر المتلاطم الأمواج من الأمم والدول والتحالفات والصراعات، وإيصالها بعون الله وتوفيقه إلى بر الأمان.
ولا يبقى في النهاية سوى وضع بعض النقاط على بعض الحروف، للوصول بثورتنا المباركة إلى غايتها المرجوة، وهي ضرورة إدراك قادة الثوار والمجاهدين في الشام لطبيعة الصراع في هذه الثورة، وتمييز أصدقائها من أعدائها، وقطع كل الحبال الواصلة بينهم وبين أعدائهم، دول الغرب الكافر والدول العربية والإسلامية التابعة لها، ونبذ القيادات السياسية العلمانية التي اعتلت ظهر الثورة على حين غفلة من قادتها، ونبذ التنافر والاختلاف أو التقاتل الحاصل بينهم، والاجتماع جميعًا حول مشروع دولة الخلافة، والالتفاف حول أصحاب هذا المشروع، والسير معهم وخلف قيادتهم نحو هدفهم القريب، فهم الأهل لهذا المقام، وهم الأمناء على تضحيات أبنائهم، والحريصون على ألا تشكل أشلاء شهدائهم إلا لبنات وضاءة في صرح الخلافة العظيم.
ونحن بدورنا في حزب التحرير سنبقى نطرق أبواب إخواننا وأبناء أمتنا في الشام، عوامّ وقادةً ووجهاء، حتى يفتح الله لنا قلوبهم، ويؤلف على أيدينا بينهم، ويوحد على مشروعنا كلمتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن هنا نقول للأوروبيين والأميركان، لكل أصحاب الحضارة الغربية العفنة: هذه بلادنا، سنقيم عليها خلافتنا، ومنها سنطلق نور حضارتنا، وسنسترجع جميع ما وصلت إليه جحافل جيوش أجدادنا، وسننطلق بعدها إلى بلادكم فاتحين، عامرين هذا الكون بضياء الإسلام، محققين بشرى نبينا الكريم القائل يوماً: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها».
2016-04-25