بسم الله الرحمن الرحيم
أين وصلت الثورة في مصر؟
شريف زايد
برغم المؤامرات التي قام بها الغرب لهدم الخلافة، والتي تكللت بنجاحهم أيما نجاح في القضاء عليها وتفتيت وحدة الأمة الإسلامية إلى مزق وكيانات هزيلة تسمى دولًا، وبرغم المؤمرات التي قام ويقوم بها الغرب لتشويه فكرة الخلافة في أذهان المسلمين، وبرغم الجهود الجبارة التي بذلها ويبذلها أذناب الغرب في بلادنا لضرب فكرة الخلافة ليس آخرها استغلال ما أعلن عن قيام خلافة مشوَّهة يفر الناس من أمامها بدلًا من أن يهرعوا إليها زرافات زرافات، إلا أن الأمة بفضل الله، ثم بفضل الجهود الجبارة التي بذلها ويبذلها شباب حزب التحرير، باتت تدرك أن الخلافة على منهاج النبوة هي النظام الذي يجب أن يُحكموا به، وأن النظام الجمهوري أو الملكي أو غيرهما من الأنظمة التي يسمونها بالحديثة هي أنظمة كفر لا تمت إلى الإسلام بصلة، وأنها _أي الأمة_ قد اكتوت بنار تلك الأنظمة الطاغوتية لما يقرب من قرن ضاعت فيها كرامتها، وسلبت من خلالها ثرواتها، وطمع فيها الطامعون، وصرنا فيها أيتامًا على مأدبة اللئام؛ ذلك لأن حكام تلك الدول المزق باعوا أنفسهم رخيصة لأعداء الأمة، ورضوا أن يكونوا مجرد أدوات في يد أعداء الأمة.
ولقد استطاع هؤلاء الرويبضات أن يدجنوا الأمة لعقود خلت وقاموا بعملية تضليلية كبيرة جعلت الكثير من أيناء الأمة ينظر لهؤلاء الرويبضات وكأنهم زعماء ومناضلون، في حين أننا نسمع منهم ضجيجًا ولكن لا نرى طحنًا. لقد رأينا كيف جعلوا من عبد الناصر زعيمًا للأمة، ومن عرفات مجاهدًا عظيمًا، ومن القذافي مناهضًا للإمبريالية، وغيرهم الكثير. وفي لحظة من اللحظات ظن البعض أن هذه الأمة قد تُوُدِّع منها، وأنها قد ماتت والسلام، ولن تقوم لها قائمة مرة أخرى، وأن لا أحد يجرؤ على الحراك لإزالتهم وزلزلة عروشهم، ولقد تفاجأ الغرب والشرق بالثورات التي هبَّت جوَّالة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وإنه وإن كان الغرب بتآمره وأزلامه على الثورة في تونس ومصر واليمن وليبيا قد نجح في حرف تلك الثورات عن أهدافها، بل وأكثر من ذلك قد أعاد رجالات الأنظمة التي ثار عليها الناس إلى الحكم مرة ثانية، إلا أنه لم يستطع حتى الآن أن يفعل الشيء نفسه في سوريا، وما زالت الثورة هناك عصيَّة على الكسر.
وفي مصر، وبرغم القمع الذي يمارسه النظام الحالي الذي يدعي كذبًا أنه نتاج ثورتين، لا تزال الأمور تراوح مكانها، ولم تحسم بعد لما يمكن أن نسميه ثورة مضادة، فالحراك لم يتوقف بعد، والنظام برغم الدعاية الإعلامية والدعم اللا محدود من النظامين السعودي والإماراتي، وكذلك الدعم الغربي لزعيم النظام رجلهم في الحرب المزعومة على الإرهاب، برغم كل هذا الدعم فإنه لم يقنع الكثير من أبناء الأمة في مصر أنه يختلف عما سبقه من أنظمة؛ فما الفارق بينه وبين نظام مبارك أو السادات أو عبد الناصر، فالكل سواء في رهن البلاد والعباد في يد أميركا سيدتهم جميعًا، والتي تقاتل لآخر نفس؛ من أجل الحفاظ عل مصر الجائزة الكبرى والكنز الاستراتيجي لها ولربيبتها يهود.
إن الناس الذين خرجوا على نظام المخلوع مبارك وظنوا أنهم أسقطوه بعد البيان الذي ألقاه المقبور عمر سليمان بينما هم لم يفعلوا ذلك؛ فقد اكتفوا بدحرجة رأسه فقط، هم أيضًا من أعطوا مرسي أصواتهم ظنًا منهم أنه سيطبق الإسلام الذي طالما رفع شعاره جماعته باعتباره حلًا لكل مشاكل الأمة، بينما لم يلتزم مرسي بتنفيذ هذا الشعار وما يحمله من مطلب للأمة جمعاء، ليس في مصر فحسب بل في العالم الإسلامي كله، وهم أيضًا الذين باتوا يدركون الآن أن القضية ليست في شخص الحاكم بقدر ما هي في نظام الحكم، فهذا النظام يحمل في طياته بذور الفساد والإفساد، فالقول بأن الشعب هو من يحكم من خلال نوابه الذين يختارهم بالانتخاب الحر هو أكبر كذبة في التاريخ. فالذي يحكم هم أصحاب الأموال الطائلة وأصحاب النفوذ الذي يشترون الأصوات بالمال، وأكبر دليل على ذلك هذا المجلس الذي حاكته أيدي المخابرات وأموال رجال الأعمال كنجيب ساويرس وأمثاله.
لقد انطلقت هذه الثورة المباركة من رحم الأمة ولم تكن مصطنعة بل كانت عفوية، فقد تحرك الشعب ضد القهر والظلم والاستبداد الذي جثم على صدره لعقود. ولقد استطاعت هذه الثورات كسر حاجز الخوف الذي كان يُكَبِّل الأمة ويمنعها عن الحركة، ومباغتة السياسة الأميركية التي فاجأها هذا الحراك الثوري في الأمة.
ومع وجود الهيمنة الأميركية على مصر طوال العقود السابقة، وتركز هذه الهيمنة بشكل فج في عهد المخلوع، كان من غير الممكن تصور أن تسمح أميركا بسهولة أن تنعتق مصر من تبعيتها، وبخاصة أن مصر لها ثقلها في المنطقة سياسيًا وجغرافيًا وبشريًا واقتصاديًا. لقد تم إسقاط مبارك في وقت قياسي؛ لأن اللاعب الرئيس في مصر هو أميركا ولا ينازعها أحد، فأميركا بيدها أقطاب النظام في مصر والجيش والمعارضة العلمانية، كما كانت على اتصالات وثيقة بقيادات ما يسمى بالإسلام المعتدل، فلم تخشَ أن تنفلت الأمور من يدها بسقوط مبارك، بل عجَّلت بإسقاطه لاحتواء غضب الشارع قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة.
لقد اضطُرت أميركا للتعامل مع التيار الإسلامي المعتدل مرحليًا، ثم عادت وانقلبت عليه، وهذا للأسباب التالية:
1- لأن الإسلام بات المحرك الأساس للشارع في البلاد الإسلامية ومنها مصر.
2- لقطع الطريق على الإسلام الحقيقي الذي يسعى إلى التغيير الجذري الشامل، والإطاحة الكاملة بالنفوذ الغربي في المنطقة بما فيه الكيان الصهيوني.
3- الإخوان كانوا حينها هم القوة الفاعلة على الساحة في مصر والأكثر تنظيمًا.
4- براغماتية الإخوان وقبولهم بالشروط الأميركية التي برزت في احترام اتفاقية السلام، والحفاظ على الخريطة السياسية الاستعمارية للمنطقة، أي خريطة سايكس بيكو، والقبول باستقلالية الدول فيها وعدم السعي لتوحيدها في دولة واحدة، والقبول والترويج للدولة المدنية الديمقراطية وعدم الحديث عن الدولة الإسلامية، والتأكيد على علاقات مميزة مع أميركا.
5- الالتفاف على الثورة ومحاولة إجهاضها من خلال إظهار عدم قدرة الإسلاميين على الحكم، فيعرض الناس في ظن أميركا عن المشروع الإسلامي. وقد استطاعت أميركا أن تُظهر فشل الإخوان في وقت قياسي، ومن ثم حركت رجالها الموثوق بهم عندها، والذين تم صناعتهم على عين بصيرة ليعود المجلس العسكري للواجهة مرة أخرى ليكون اليد القوية التي تضرب بها أميركا التيار الإسلامي.
إن أميركا كانت تتمسك بالمؤسسة العسكرية كضامن لعدم خروج الوضع عن السيطرة، ولكن استمرار الثوار في الاعتصامات والاضطرابات جعل أميركا تضطر للتخلي عن المشير طنطاوي والفريق عنان، ولإدراكها أن البلاد لا يمكن أن تسير برأسين، فللحفاظ على هيبة المؤسسة العسكرية وعدم تعريضها لنقمة الناس تم سحبها عن تصدر الموقف السياسي لتكون النقمة موجهة لحكومة الإخوان ورئيسهم محمد مرسي. فالمؤسسة العسكرية هي حائط الصد الأخير لأميركا، وصمام الأمان الذي يحفظ لها نفوذها في مصر، لذلك عملت أميركا على ترسيخ الدور القوي للمؤسسة العسكرية.
وفي الثالث من تموز/يوليو 2013م، أطاح الجيش بحكم الإخوان المسلمين من خلال ترتيب مُحكم أظهر للناس في الداخل والخارج وكأن هناك حراكًا شعبيًا ضد الإخوان دفع الجيش دفعًا للوقوف معه وإسقاط حكم مرسي، ويبدو أن هذا كان هو الشرط الأميركي لقبول نظام ما بعد مرسي، أن لا يظهر الأمر وكأنه انقلاب عسكري، بل لا بد من دفع الناس دفعًا للنزول إلى الشوارع ورفع شعارات رافضة لحكم الإخوان، وهذا ما حدث بالضبط لكن مع المبالغة الكبيرة في أعداد المتظاهرين. ثم ادّعى العسكر أنهم قضوا على حكم الإخوان الذين رهنوا البلاد لأميركا، وراهنوا عليها في استمرار حكمهم لمصر، ومن ثم حاولوا أن يظهروا في ثوب من يحارب النفوذ الأميركي في البلاد، ولكنهم لم يستطيعوا أن يستمروا طويلًا على هذه الرواية الهزلية، فقد ظهر بشكل واضح ليس فقط الرضا الأميركي بتلك الحركة الانقلابية، بل الترتيب والتنسيق لها منذ شهور مضت، ثم ما لبثنا أن رأينا هذا التنسيق الأمني المهم مع كيان يهود الذي سمح بتحركات عسكرية مصرية في سيناء.
وبرغم أن نظام السيسي يعتمد بشكل كبير على الدعم الغربي بسبب رفعه لشعار الحرب على الإرهاب، إلا أنه هذا الدعم لن ينفعه في تثبيت أركان حكمه المعوج كما لم ينفع مبارك خاصة في ظل حالة التردي الاقتصادي وتدهور سعر صرف الجنيه المصري، وأخيرًا تنازل النظام عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية التي تصب في خانة مصالح كيان يهود. وبرغم ممارسة النظام لأقصى أنواع الاضهاد والاعتقال التعسفي وامتلاء السجون بأعداد كبيرة من المعتقلين وصلت لأكثر من 50000 معتقل، إلا أن الشارع المصري لم يفقد زخمه وسعيه لإسقاط النظام، وإن كان يحتاج إلى نوع من الترشيد والوعي على الهدف الذي يجب أن يسعى إليه، وهو ليس فقط إسقاط النظام، بل وإقامة الخلافة على منهاج النبوة مكانه.
وأخيرًا لا بد من إدراك أن الحل في مصر وغيرِها من بلاد المسلمين، هو أن يأخذ المسلمون الحكمَ كاملًا غير منقوص ولا مشروط، بعد أن تصبحَ المطالبة بالحكم بالإسلام في خلافةٍ راشدة على منهاج النبوة رأيًا عامًا قويًا لا يتحداه أحد، وبعد أن تتحد إرادة الأمة بإرادة ونصرة جيشِها القوي، الذي يوصلها إلى تطبيقِ الإسلام بكامله، دون تمييعٍ ولا مسايرة ولا مداهنةٍ لعملاء الغرب؛ من الحكام والسياسيين والإعلاميين، وكل الأوساط السياسية الفاسدة التي يجب أن تُزال من المشهد السياسي.
ليس أمام المخلصين من أبناء الأمة في مصر من خيار سوى التصدي بقوة لهذا المشروع وتقويض أركانه، ومن ثم إسقاطه وإسقاط الهيمنة الأميركية على مصر من خلال عمل دؤوب يركز على محوري الأمة والجيش على حد سواء، فالأمة تحتاج إلى مجهود جبار لإحداث الوعي الكافي عندها على مشروع الخلافة المنقذ لها، وهذا لا يقدر عليه سوى الحزب المبدئي الذي يحدد غايته بشكل واضح، ويعرف طريقه للوصول لتلك الغاية، والجيش هو مصدر القوة والمنَعَة التي يجب العمل على كسبها، لتنحاز وبقوة لمشروع الخلافة العظيم وتتبناه وتعمل لقلع نفوذ أميركا من مصر نهائيًا، وتقضي عليه بالضربة القاضية. فالصراع بين الحق الذي تحمله الأمة والباطل الذي تروج له أميركا صراع حتمي، وسيكون النصر فيه للأمة في نهاية المطاف.
قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ).