الفكر المالي في الإسلام مقارنة مع الفكر المالي الرأسمالي والاشتراكي(1)
8 ساعات مضت
المقالات
40 زيارة
أحمد الأمين – العراق
يعبر النظام المالي الاقتصادي عن فلسفة الدولة أي المبدأ الذي تؤمن به الدولة، وقد عرف العالم مبدأين أساسيين هما الرأسمالية والاشتراكية، وقد تبنت بعض الدول الفكر الاشتراكي، ودول أخر تبنت الفكر الرأسمالي، فصار لكل دولة نظامها المالي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي الخاص بها والمنبثق من أحد هذين الفكرين، وكما هو معروف فإن هدف هذه الأفكار هو إيجاد الحلول لمشكلات الحياة الإنسانية ومعالجتها، بما في ذلك المشكلات الاقتصادية والمالية، بغية تحقيق السعادة والرفاهية للمجتمعات، وكل حسب طريقته.
وتعد أهم سمة للحل الرأسمالي هي الأخذ بالملكية الفردية والحرية الفردية والعمل بنظام السوق الحرة. وقد مرت الرأسمالية بمراحل عدة وواجهت تحديات كبيرة، كأزمة عام 1929 المسماة بأزمة الكساد الكبير، والتي قوضت أساسيات هذا النظام آنذاك والقائم على أساس عدم تدخل الدولة حسب النظرية التقليدية، والتي سقطت في هذا الاختبار، فنتج عن ذلك تحول الفكر المالي التقليدي إلى نظرية الدولة المتدخلة. أما النظام الاشتراكي فإنه يتسم باعتماد الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج وتدخل الدولة إلى حدٍ كبير والأخذ بالتخطيط المركزي الشامل، وقد فشل هذا النظام بعد سبعين سنة من تطبيقه وذلك بانهيار المعسكر الاشتراكي وانهيار الاتحاد السوفيتي ما بين عامي 1989-1991.
تطـــور الفكــر المالـــي
يعبّر النظام المالي للدولة عن فلسفتها السياسية التي تؤمن بها وما يحيط بها من فلسفات اقتصادية واجتماعية. وتقوم فلسفة الدولة على أساس موقف معين تجاه الحياة الإنسانية فتحدد الدولة قواعد العمل والإطار السلوكي والاجتماعي والقانوني والاقتصادي للمجتمع.
ويعد النظام المالي أحد أدوات الدولة التي تحقق بها أهدافاً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولهذا يختلف النظام المالي أو المالية العامة من دولة إلى أخرى، وحتى في الدولة ذاتها من حقبة إلى أخرى حسب أوضاع الدولة الاقتصادية، ويرتبط الفكر المالي بالفكر الاقتصادي باعتباره جزءاً منه، ما يعني أن لها مراحل التطور نفسها، وقد مرا بمراحل، كل مرحلة منها تقابلها مرحلة من مراحل تطور الدولة بما يعكس فلسفتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهذه المراحل هي:
1- الفكر المالي التقليدي أو نظرية الدولة المحايدة أو الحارسة.
2- الفكر المالي الحديث.
المطلب الأول
الفكر المالي التقليدي – نظرية الدولة المحايدة أو الحارسة
لا بد أن نتحدث عن النظرية الاقتصادية التقليدية قبل الحديث عن الفكر المالي الذي هو انعكاس لها.
تقوم النظرية التقليدية على أساس حرية التملك حرية تامة وحرية الإنتاج وحرية الاستهلاك، وقيام جهاز الأسعار بتحقيق التوازن بين العرض والطلب([1]).
فيتمتع الأفراد بحرية تملك سلع الاستهلاك وسلع الإنتاج والانتفاع بهذا التملك كيفما يشاؤون. كما أن أصحاب رؤوس الأموال هم أحرار في طرق استثمارهم للأموال وفي إنتاجهم للسلع والخدمات والشروط التي يشترون على أساسها ما يحتاجون إليه من الآلات أو مواد عمل. فحرية الإنتاج تقابلها حرية الاستهلاك، فلا يمنع فرد من التصرف في دخله كما يشاء أو اختيار نوع السلع التي ينفق عليها هذا الدخل، ويتنافس الأفراد بينهم سعياً وراء الكسب المادي، فالمنتجون يتنافسون في زيادة الإنتاج وتحسينه وابتكار أفضل الوسائل للإنتاج وكسب الأسواق، وكذلك يتنافس المستهلكون ليفوزوا بالسلع التي يحتاجون إليها([2]) .
فعلى الأفراد أن يكونوا أحراراً في العمل طبقاً لما تمليه عليهم مصالحهم الذاتية، وأن يسمح لهم بمزاولة المهن التي يختارونها، وبالانتقال حيثما يشاؤون، وبالتصرف بممتلكاتهم كما يحلو لهم، وليس للدولة أن تعرقل نشاطهم أو أن تساعدهم، وهذا هو القانون الطبيعي لحقوق الأفراد، وهذا ما يسمى بقانون ساي لآدم سميث (دعهُ يعمل دعهُ يمر، فالعالم يسير من تلقاء نفسه)(([3].وتفترض النظرية التقليدية عالماً يسودهُ التوظيف الكامل وترتكز على ركيزتين أساسيتين هما:
أولاً: العرض يخلق الطلب عليه: أي إن كل عرض يقابلهُ طلب بالقدر نفسه، فكل سلعة تعرض في السوق يختلف الطلب الخاص بها، وكل طلب يتراءى في السوق يُنتج العرض اللازم له.
ويتساوى العرض بصفة مستمرة مع الطلب، وتستند المساواة بين العرض الكلي والطلب الكلي إلى أن الدخل الذي لا ينفق في شراء أموال الاستهلاك ينفق بالضرورة في شراء أموال الاستثمار([4])، بمعنى أن كل ادخار يتحول إلى استثمار، أي أن الادخار يتحول بأكمله تلقائياً إلى إنفاق استثماري ولا يمكن أن يكون سبباً في نشوء قصور في الطلب الكلي، فالنظرية تفرض عالماً متحركاً لا تلعب النقود فيه دوراً تلقائياً، فهي فقط وسيلة للتبادل، ويقل المستوى العام للأسعار، ولا وجود للمخاطر العامة التي تأتي من تغيّر قيمة النقود، ونتيجة لهذا لا وجود للميل للاكتناز، فيتحول كل ادخار إلى استثمار([5]).
ثانياً: تؤمن النظرية التقليدية بحالة التشغيل أو التوظيف الكامل، حيث إن العرض يتجه نحو التشغيل الكامل، فالبطالة تحدث بين العمال عندما يزداد عرض العمال عن الطلب عليهم، ما يؤدي إلى التنافس بينهم فتنخفض الأجور الحقيقية وتزيد أرباح المنتجين، وهذه الزيادة تؤدي إلى زيادة الطلب على العمال وتنافس المنتجين في الحصول عليهم.
وهكذا يستوعب النشاط الاقتصادي جميع العمال، فالبطالة حسب هذه النظرية هي بطالة عارضة ومؤقتة وسرعان ما تزول بفضل خفض مستوى الأجور([6])، وعند مستوى التشغيل الكامل يتحقق التوازن تلقائياً في الاقتصاد القومي ([7]).
وخلاصة النظرية الاقتصادية الكلاسيكية أو التقليدية هي:
1- ضرورة عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية ما دام القطاع الخاص وحدهُ كافياً لزيادة التقدم الاقتصادي، لأن تدخل الدولة سيؤدي إلى الإضرار بالتوازن الاقتصادي.
2- في ظل الدولة الحارسة يكون دور الدولة مقتصراً على تحقيق الأمن الخارجي، وكذلك توفير الأمن الداخلي، والقيام بالمشروعات والأعمال التي لا يقدم القطاع الخاص على القيام بها.
3- ضمان مرونة الأجور والأسعار، بما فيها سعر الربا لأنهُ يعمل على تحقيق التوازن في الادخار والاستثمار في المجتمع.
فإذا زادت المدخرات فالقوى الاقتصادية تقلل سعر الربا، وهذا بدوره سيقلل من الحافز على الادخار، لأن الربا حسب النظرية الكلاسيكية هو جزء من الادخار، كذلك فإن ضمان مرونة الأجور من خلال عدم تدخل الدولة أو التنظيمات التقليدية يعمل على حد البطالة في حالة وجودها من طريق خفض مستويات الأجور([8]) .
أما الأسس المالية للفكر التقليدي، ففي مجال النفقات العامة:
فقد تحدد نطاق المالية العامة في الفكر التقليدي بالغرض المالي فقط، أي في الحصول على الإيرادات العامة لمواجهة النفقات العامة، وهذه النفقات العامة يتعين تغطيتها بتوزيع عبئها بين الناس بطريقة عادلة([9])، أي أن يوزع بشكل تكون معهُ تضحية كل فرد مساوية للتضحية المطلوبة من الآخرين. وفكرة الأعباء العامة فصّلها الفكر التقليدي بأنها ثمن للأمن الذي تضمنهُ الدولة للأفراد. ويجب أن تكون النفقات في أضيق الحدود لأن الدولة مدير سيئ التصرف، على عكس الفرد الذي يكون أكثر صلاحيةً منها في تأدية الخدمات والقيام بالإنتاج. وقد أعطى الفكر التقليدي الأولوية للنفقات العامة على الإيرادات العامة في التقدير وفي الاعتماد، وهو يعني أن النفقات العامة هي التي تحدد الإيرادات العامة. وساعد على تطبيق هذا المبدأ سلطة الدولة الواسعة في الحصول على الإيرادات وقلة ما تحتاجهُ من نفقات بسبب دورها الحيادي المقتصر على الأمن الداخلي والخارجي([10]) والقيام ببعض المشروعات التي لا يستطيع الأفراد القيام بها أو يحجمون عنها.
أما ما يتعلق بمبدأ توازن الموازنة:
فيقصد به في الفكر المالي التقليدي تعادل نفقات الدولة مع إيراداتها العادية، ويحصل التوازن بتعادل النفقات بطريقة منتظمة ودورية مع حصيلة الضرائب، وهذا المبدأ هو غاية يجب تحقيقها في كافة الظروف، فهو أداة لحسن إدارة الأموال بصورة واضحة، وهو قيد على توسع نشاط الدولة وعلى زيادة الأعباء على الناس وضمان استمرار التوازن والثقة في مالية الدولة والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والنقدي وزيادة الإنتاج([11]).
أما الإصدار النقدي الجديد فالفكر المالي التقليدي يعارض اللجوء إليه، لأنه يؤدي إلى حالات التضخم، إذ إنه – وهو يمول نفقات استهلاكية- يدفع إلى السوق كميات نقدية إضافية دون أن يقابل تلك الزيادة في الكمية النقدية زيادة متشابهة لها في المعروض من السلع والخدمات، ومن ثم ترتفع الأسعار ارتفاعاً تضخمياً([12])، ولهذا عارض التقليديون العجز في الموازنة وتمويله بالاقتراض أو بالإصدار النقدي الجديد، وعارضوا أيضاً كما قلنا الفائض المتكون في الموازنة العامة، أي ترجيح كفة الإيرادات على كفة النفقات، ما يعني تحويل الأموال عن مجراها الطبيعي وحبسا وتعطيلا لها، وكان من الأفضل تركها في أيدي الأفراد يستثمرونها بطريقة تزيد من الإنتاج ورفاهية المجتمع، ولهذا يجب على الدولة احترام مبدأ التوازن والعمل على تحقيقه بأي ثمن.
أما الضرائب في الفكر التقليدي:
فقد أكد التقليديون على ضرورة عدم تأثير الضريبة على المدخرات، وإنما يجب أن تعمل على زيادتها، وبذلك يجب أن تكون الضريبة ذات معدل منخفض، ولهذا يفضل الفكر التقليدي الضرائب على الاستهلاك، لأنها تؤدي إلى زيادة المدخرات([13]) .
فأكثر الضرائب سوءاً هي التي يكون وعاؤها الدخل أو رأس المال. لأن فرض الضرائب على رأس المال يؤدي إلى تناقصه تدريجيا. فالضريبة في نظر هذا الفكر مجرد أداة مالية لتوزيع الأعباء المالية بين الأفراد، من دون أن يكون لها أي هدف اقتصادي أو اجتماعي.
ولهذا تفضل النظرية الضرائب غير المباشرة، أي تفضل ضرائب الاستهلاك على الضرائب المباشرة، أي ضرائب الادخار([14])، ويجب أن يكون غرض الضريبة الحصول فقط على الإيرادات لتمويل النفقات في أضيق الحدود، وألا يترتب على فرضها تدخل في تلقائية السوق، أي تغيير في مراكز الممولين التي تتحقق حسب قوى السوق، وهذا ما يسمى بمبدأ حياد الضريبة([15])، وهو يرتبط بدور الدولة الحارسة التي حدد لها الفكر التقليدي وظائف لا يجوز لها الخروج عنها، وإلا عُدّ ذلك نقضاً لحيادها وتدخلاً فيما لا يعنيها والإضرار بالمصلحة العامة.
خلاصة القول في النظرية التقليدية:
إن النظرية المالية التقليدية هي انعكاس للنظرية الاقتصادية التقليدية، هذه النظرية التي أنكرت أي دور للدولة في الحياة الاقتصادية للمجتمع، وترتب على ذلك ألا يكون للموازنة العامة أي مضامين اقتصادية أو اجتماعية، وأن تقتصر أهدافها على الجانب المالي فقط.
ولهذا أعطت الأهمية للنفقات العامة على الإيرادات العامة، وأكدت خفض الموازنة العامة والعمل على توازنها، كما فضّلت الضرائب المفروضة على الاستهلاك على الضرائب المفروضة على الادخار، وأكدت مبدأ حياد الضريبة.
لقد واجهت الرأسمالية التقليدية تحديات كبيرة، فقد شهد العالم الرأسمالي أزمات اقتصادية كثيرة خلال القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، فقد مرت إنجلترا بأزمات في السنوات (1788 – 1793 – 1810 – 1819 -1825)، وكذلك حدثت أزمات في أمريكا وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوربية، واستمرت الأزمات بعد ذلك في السنوات (1857 – 1859 – 1866 – 1873). ولكن أكبر تحد واجهته الرأسمالية التقليدية هو الأزمة المالية العالمية 1929، والتي كانت إحدى نتائج الحرب العالمية الأولى حيث تعرض الاقتصاد الرأسمالي لأزمة اقتصادية طاحنة زعزعت دعائمه وحطمت وسائل الإنتاج فيه، ما أدى إلى بطالة هائلة. فبعد اندلاعها في الولايات المتحدة اجتاحت الأزمة جميع البلدان الرأسمالية عدا روسيا واليابان؛ ذلك أن الاشتراكيين في الاتحاد السوفيتي كانوا يتجهون باقتصادهم إلى طريق الاستقرار والنمو السريع بوضع الخطة الخمسية الأولى للأعوام 1928-1932([16]).
لقد أورثت هذه الأزمة في كل مكان هبوطاً في الأسعار وتدنياً في الأعمال وبطالة هائلة وإفلاساً وتخفيضاً في أسعار النقد، فكانت لها انعكاسات عميقة على تنظيم الإنتاج والمبادلات. لقد اتخذت هذه الأزمة حجماً وثقلاً، بحيث لم تكن أزمة مرحلية بسيطة في مجال فائض الإنتاج فحسب أو إحدى الهزات المؤقتة التي توقف النشاط الاقتصادي كل سبع سنوات أو عشر، وإنما أزمة نظم أصابت أسس النظام الرأسمالي التقليدي ومنطلقاته بحد ذاتها([17]).
لهذا اتجهت الأفكار إلى ضرورة تدخل الدولة، للحيلولة دون انهيار النظام الرأسمالي نفسه، فتركت هذه الأفكار أثرها في اتجاه السياسة المالية والاقتصادية لمزيد من التدخل، فاستقر بذلك الدور الاقتصادي والاجتماعي للمالية العامة.
ولقد كان من نتيجة هذه الأزمة العالمية أن تعالت الأصوات المطالبة بتدخل الدولة لمواجهة نتائج الأزمة الكارثية وإنقاذ النظام الرأسمالي من الانهيار الكامل، فكان من الأسباب التي أجبرت الدولة على المشاركة في عملية الإنتاج أن الاقتصاد يميل نحو عدم الاستقرار إذا ما تركت الأمور على حال سبيلها، وأن المنافسة الحرة لا يمكن أن تكون تلقائية من دون تنظيم([18])، كما أن قوانين المدرسة التقليدية لا تؤدي إلى توزيع عادل للدخول والثروات، فطريقة النمو الرأسمالي تؤدي إلى فوارق اجتماعية بالغة.
كذلك أدى تزايد حجم النفقات العامة وتغيير مضمونها إلى البحث عن مزيد من الموارد المالية. فقد كانت الحروب سبب زيادة النفقات وما يقابلها من زيادة حجم الضرائب والقروض، وكشفت نفقات الحروب وما تتطلبه من تمويل الحصيلة الواسعة للضرائب التصاعدية على الدخل والتركات، ومهدت بذلك لاستخدام الضريبة والقروض لتحقيق أهداف اجتماعية([19]).
لقد فشلت النظرية التقليدية في مواجهة هذه الأزمة ووقفت عاجزة عن إعطاء الحلول للخروج من الأزمة الاقتصادية التي واجهتها الأنظمة الرأسمالية في العقد الثاني من القرن الماضي، فنتج عن ذلك ظهور نظرية جديدة في الثلاثينات من القرن الماضي تمثلت بالنظرية الكينزية التي ترى ضرورة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وتطوير دورها وإنهاء حالة الحياد، فظهرت بذلك مرحلة جديدة، هي مرحلة الفكر المالي الحديث أو نظرية الدولة المتدخلة، وهذا ما نتناوله في المطلب الثاني من هذا المبحث.
المطلب الثاني
الفكر الرأسمالي الحديث، نظرية الدولة المتدخلة
ترى نظرية المالية الحديثة ضرورة تدخل الدولة في الاقتصاد وتطوير دورها وإنهاء حالة الحياد الذي قامت عليه النظرية التقليدية إلى عام 1929، لأن التوازن الاقتصادي لا يمكن أن يحدث بصورة تلقائية، ومع أن الاقتصاديين المحدثين أقروا بضرورة تدخل الدولة فإنهم اختلفوا في تحديد مدى هذه التدخل، فنادى البعض – وعلى رأسهم كينز- بتدخل الدولة في مجالات معينة لتقوم بدور الموجه لبقية النشاطات لما تملكه من وسائل مالية واقتصادية، ونادى البعض الآخر من المحدثين بالتخطيط المالي واتساع دور الدولة حتى تصل إلى امتلاك وسائل الإنتاج، وبالتالي توجيه الاقتصاد القومي كله إنتاجاً واستهلاكاً، وأولئك هم دعاة الاشتراكية([20]).
لهذا سنتحدث أولاً على النظرية الكينزية الحديثة، وثانياً عن الفكر المالي في النظام الاشتراكي.
أولاً: النظرية الكينزية:
لقد كشف جون مينارد كينز (1883 – 1946) أن الرأسمالية بدخولها مرحلتها الأخيرة فقدت طبيعتها التنافسية الأصلية، وأنها لا يمكن أن تكون ذاتية التنظيم أو تلقائية التنظيم، لذا فمن الواجب السيطرة عليها وتوجيهها بوعي([21]) ، لقد قضى كينز على فكرة اليد الخفية، ودعا إلى ضرورة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لتحقيق التوازن.
ولا بد أن نتناول فرضيات النظرية الكينزية حتى نتعرّف على أسس الفكر المالي المتدخل.
لقد عارض كينز النظرية التقليدية في ثلاثة أسس هي([22]):
1- القول بأن التوازن العام يحدث بصورة تلقائية وبدون حاجة إلى التدخل الحكومي في الفعاليات الاقتصادية.
2- أن العرض يستطيع تلقائياً أو ذاتياً تحقيق التوازن في أعلى مستويات العمالة الكاملة لكافة عوامل الإنتاج.
3- القول بأن النقود عامل محايد في العمليات الاقتصادية وعليه فهو لا يعكس أي أثر على العمليات نفسها.
وأحدثت النظرية الاقتصادية الكينزية ثورة في عالم الفكر الاقتصادي الرأسمالي وأدّت دورها في مواجهة أزمة عام 1929، وأنهت النظرية التقليدية التي عجزت عن حل الأزمة.
أما أسس الفكر المالي الحديث أو المالية المتدخلة فهي:
الأساس الأول: دور الدولة في النشاط الاقتصادي
كان من نتائج اختلاف النظريتين الاقتصاديتين التقليدية والحديثة أن اختلف الفكر المالي تبعاً لذلك، ونظراً لفشل النظرية التقليدية وعجزها فقد أصبح من الواجب واللازم تدخل الدولة للتأثير في الحياة الاقتصادية وتزايد أهمية الموازنة العامة للدولة وأدواتها من إيرادات ونفقات، حيث قامت بدور إيجابي في جميع المجالات الاقتصادية، فلم يعد تنظيم الإنتاج داخل كل بلد متروكاً للمبادرة الفردية، إذ أخذت الحكومات بالتدخل شيئاً فشيئاً في الحياة الاقتصادية، لا لتنظم شروط العمل وحسب، بل الأسعار أيضاً وقيمة الفائدة وتوزيع المواد الأولية والإنتاج، ولم تتردد الحكومات في الحلول مكان المبادرة الفردية لتأمين إدارة بعض الخدمات الاقتصادية والصناعات الأساسية([23])،فبعد أن أصبح واضحاً عجز جهاز السوق والأثمان عن تحقيق هدف التشغيل الكامل للموارد الاقتصادية وكذلك عجز القرارات الفردية للمنتجين والمستهلكين عن تحقيق الهدف نفسهصار من الضروري تدخل الدولة، باستخدام سياستها المالية لتحريك الطلب الفعلي صعوداً ونزولاً حسب متطلبات الوضع الاقتصادي([24]).
فيمكن للحكومة من خلال سياستها المالية الإنفاقية والضريبية أن تعالج الاختلال في الطلب الفعلي وتحقق التوازن الاقتصادي، فإذا انخفض الطلب الفعلي (حالة الكساد) قامت بتعويض هذا الانخفاض بزيادة الإنفاق الحكومي وتخفيض الضرائب حتى يرتفع الطلب الفعلي إلى مستوى التشغيل الكامل، وأما إذا زاد الطلب الفعلي عن مستوى التشغيل الكامل (حالة التضخم) فتعمد الحكومة إلى تخفيض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب([25])، ولهذا بات من غير الممكن قبول بقاء الدولة على الحياد كما أرادت لها النظرية التقليدية، وهكذا حلت الرأسمالية المتدخلة مكان الرأسمالية التقليدية.
الأساس الثاني: إحلال التوازن الاقتصادي العام بدلاً من توازن الموازنة العامة
ركزت النظرية التقليدية على توازن الموازنة من الناحية الحسابية أي توازن إيرادات الدولة مع نفقاتها، فهي تنظر إلى المشكلات المالية بمعزل عن الحياة الاقتصادية للمجتمع، فقد جعلت من توازن الموازنة هدفاً أساسياً للسياسة المالية لا يحق للدولة وهي محايدة الخروج عنه، أي اللجوء إلى القروض والإصدار النقدي الجديد([26])، لكن مع ظهور الأزمات وسقوط هذه النظرية نتيجة مستجدات الظروف الاقتصادية التي أثبتت أن التوازن الاقتصادي لا يتحقق تلقائياً فقد حل توازن الاقتصاد القومي محل توازن الموازنة العامة والتوازن المالي هدفا للدولة. فقد أثبتت تجربة كينز أن السياسة المالية إنما هي للتوازن الاقتصادي، فالاقتصاد لا يحققالتوازندائماً عند مستوى التشغيل، بل ينخفض الطلب الفعلي عن مستوى التوازن كما في حالة الكساد، فعلى الدولة أن تتخلى عن فكرة توازن الموازنة العامة، وأن تحدث عجزاً مقصوداً، أي بزيادة نفقاتها على إيراداتها وتحويل هذا العجز من طريق القروض العامة أو الإصدار النقدي الجديد لتحقيق توازن التشغيل الكامل، وهذا في حالة الكساد، أما في حالة التضخم أي في حالة ارتفاع الطلب الفعلي عن مستوى التشغيل الكامل فتلجأ الدولة إلى إحداث فائض في الموازنة بزيادة الإيرادات أو خفض النفقات أو كلاهما معا لتحقيق التوازن([27])، فتشغيل الاقتصاد وعودته إلى العمالة الكاملة، أي مستوى التشغيل الكامل، كفيل بإعادة التوازن إلى الموازنة نتيجة لزيادة الضرائب أو تخفيض النفقات، وبهذا لم تبق الموازنة وأدواتها المالية من ضرائب ونفقات مجرد أدوات مالية تستخدم للحصول على إيرادات لتغطية النفقات، وإنما أصبحت بالإضافة إلى ذلك مسؤولة عن تحقيق التوازن؛ اقتصادياً بتحقيق توازن التشغيل الكامل، واجتماعياً في تحقيق الاستقرار والعدالة الاجتماعية برفع مستوى معيشة الطبقات الفقيرة من طريق توزيع الدخل القومي.
ثانياً: الفكر المالي في ظل النظام الاشتراكي
إن تطور الفكر المالي يختلف بتطور الفكر الاقتصادي للمجتمع، ولهذا يختلف النظام المالي باختلاف الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية. وكما هو معروف فإن التطور الذي لحق الفكر المالي هو نتيجة لتطور دور الدولة من الدولة الحارسة إلى الدولة المتدخلة. إلا أن هذا التطور لم يقف عند هذا الحد، بل امتد، لا ليجعل دور الدولة فقط دولة متدخلة تعمل لحفظ التوازن الاقتصادي والاجتماعي، وإنما أصبحت دولة منتجة وموزعة تتولى عملية الإنتاج والتوزيع وفقاً للخطة الاقتصادية.
والاختلافات الجذرية في النظام المالي بين الرأسمالية والاشتراكية تعود إلى الاختلاف في النظام الاقتصادي والسياسي للبلاد، وكذلك لاختلاف طبيعة كل من الدولة الاشتراكية والدولة الرأسمالية ووظيفتهما، حيث يقوم النظام الاقتصادي الاشتراكي على ركيزتين هما([28]):
1- الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج
يقوم النظام الاقتصادي الاشتراكي على الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، وذلك بتصفية الملكية الفردية والقضاء على قوة الطبقة التي تمتلك هذه الوسائل. وتشكل هذه الملكية الاجتماعية الأساس الاقتصادي لسيطرة الفئات الشعبية الكادحة، أي الطبقة العاملة، لتحقيق أهدافها بإيجاد نظام اقتصادي جديد تسوده علاقات اجتماعية لا يستغل فرد فيها فرداً آخر. وتتنوع أشكال الملكية في النظام الاشتراكي؛ فمنها ملكية الدولة (القطاع العام)، والملكية التعاونية، والملكية الخاصة. ونتيجة لهذا الوضع نجد أن المفاتيح الرئيسية المتحكمة في سير الاقتصاد الوطني هي الدولة، فالدولة الاشتراكية تخطط وتقود مجموع عملية الإنتاج والتوزيع والاستهلاك للمنتجات والبضائع والخدمات، بهدف إشباع الحاجات العامة. فهي تنفذ وظيفتها الاقتصادية على أساس الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، وتنسق الاقتصاد الوطني بما يخدم تنفيذ أهدافها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لتأمين حياة سعيدة لجميع فئات الشعب([29]).
2- تنظيم الاقتصاد الوطني والتخطيط المركزي.
يدار الاقتصاد الوطني في الدول الاشتراكية على أساس الخطط الاقتصادية الشاملة، وتحدد هذه الخطط تطور الإنتاج والاستهلاك. ويشمل التخطيط كافة جوانب النشاط الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، ويدخل في عمل جميع الأجهزة الاقتصادية والإدارية، حيث يُجرى تخطيط مسبق للموارد والاستخدامات بالنسبة لكل وحدة من الوحدات الاقتصادية والإدارية. وكما أن هناك خططا اقتصادية قومية لمجموع البلاد هناك أيضاً خطط محلية للمحافظة وخطط فرعية للأجهزة الأخرى([30]).
فهو تخطيط شامل لجميع أوجه حياة المجتمع والتخطيط المركزي، يعني التوجيه والرقابة المركزية لمعدلات التراكم الرأسمالي وللمبادئ العامة المحددة لاتجاهات النمو الاقتصادي([31])، وهو أسلوب لتنظيم النشاط الاقتصادي من أجل تحقيق أهداف محددة في فترة زمنية معينة باستخدام كامل لموارد المجتمع. وتهدف الدول الاشتراكية من أسلوب التخطيط المركزي إلى إحداث تغيرات ضرورية بعيدة المدى في الهيكل الاقتصادي والاجتماعي وإيجاد نظام يحقق العدالة في توزيع الدخول وإتاحة الفرص المتكافئة أمام الناس والحد من رأس المال من حيث هو قوة اقتصادية، وأيضا من حيث هو أداة تأثير في مجرى السياسة العامة للبلاد.
إن الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج والتخطيط المركزي وقيام الدولة بالإنتاج والتوزيع وفقا للخطط القومية قد جعلت مالية الدولة ترتبط ارتباطا وثيقا باقتصادها، وتؤدي دوراً بارزاً في علاقات الإنتاج والتوزيع وفي العمليات الاقتصادية، فلم يعد دور الدولة تحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي كما في الدولة المتدخلة، وإنما أصبح دورها إضافة إلى ذلك القيام بالإنتاج والتوزيع، ولهذا اختلفت أسس النظام المالي للدولة الاشتراكية. يتبع …
[1] د. عبد الجليل هويدي، مبادئ المالية العامة في الشريعة الإسلامية، دراسة مقارنة في النفقات العامة، دار الفكر العربي، القاهرة، بت، ص28.
[2]د. حسين عمر، مبادئ المعرفة الاقتصادية، ط1، ذات السلاسل، الكويت، 1989، ص572.
[3]جورج سول، المذاهب الاقتصادية الكبرى، ترجمة الدكتور راشد البراوي، ط4، مؤسسة فرانكين للطباعة والنشر، القاهرة، 1965، ص58.
[4]د. محمد عبد المنعم عبد القادر عفر، النظام الاقتصادي الإسلامي، دار المجمع العلمي بجدة، 1979، ص171.
[5]د. عادل فليح العلي، اقتصاديات المالية العامة، الكتاب الأول المقدمة في المالية العامة والنفقات العامة، دار الكتب للطباعة والنشر، 1988، ص45.
[6]د. حسين عمر، المصدر السابق، ص573.
[7]د. عبد الكريم صادق بركات، ود. حامد عبد المجيد دراز، مبادئ الاقتصاد العام، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية 1972، ص210.
[8]د. عادل فليح العلي، المصدر السابق، ص47.
[9]د. عبد الكريم صادق بركات، ود. حامد عبد المجيد دراز، المصدر السابق، ص437.
[10]د. عادل فليح العلي، المصدر السابق، ص49.
[11]عبد الكريم صادق بركات، المصدر السابق، ص366.
[12]د. عادل فليح العلي، المصدر السابق، ص51.
[13]د. عبد الجليل هويدي، المصدر السابق، ص28.
[14]د. عادل فليح العلي، المصدر السابق، ص52.
[15]د. عبد الكريم صادق بركات، المصدر السابق، ص62.
[16]د. محمود محمد الحبيب، النظرية الكينزية، بحث مستل من مجلة القانون والاقتصاد، جامعة البصرة، دار الطباعة الحديثة، البصرة، 1970، ص64.
[17]جوزيف لاجوجي، النظم الاقتصادية، ترجمة غسان شديد، المنشورات العربية، بت، ص ص62 – 78.
[18]جون سترا تشي، الرأسمالية المعاصرة، ترجمة عمر الديراوي، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1964، ص37.
[19]د. رفعت المحجوب، الأسس الاقتصادية، ص37، نقلاً عن د. عادل فليح العلي.
[20]هشام محمد صفوت العمري، اقتصاديات المالية العامة والسياسة المالية، ج2، ط2، مطبعة الجامعة، بغداد، 1988، ص442.
[21]جون سترا تشي، المصدر السابق، ص303.
[22]د. محمود محمد الحبيب، المصدر السابق، ص3.
[23] جوزيف لاجوجي، المصدر السابق، ص63.
[24]د. عادل فليح العلي، المصدر السابق، ص66.
[25]د. محمد عبد المنعم عبد القادر عفر، المصدر السابق، ص177.
[26]د. عبد الكريم صادق بركات، المصدر السابق، ص ص372-373.
[27]د. عادل فليح العلي، المصدر السابق، ص66.
[28]د. عبد الكريم صادق بركات، المصدر السابق، ص450.
[29]د. أحمد مراد، النظام المالي في البلدان الاشتراكية، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1973، ص20.
[30]د. أحمد مراد، المصدر السابق، ص37.
[31]د. عادل فليح العلي، المصدر السابق، ص71.
1447-01-06