الإعلام دعامة من دعامات الدول
8 ساعات مضت
كلمات الأعداد
35 زيارة
أبو سليم الحسن – فلسطين
كان للإعلام منذ القدم أثر واضح في صناعة الوعي العام وتوجيهه وجهة ترضي الدولة عنه، وفي بلورة رأي عام للشعوب حول قضية أو فكرة معينة يراد إبرازها أو التصدي لها. وكان الشعر عند العرب قديماً وسيلة إعلام واسعة التأثير وذات مكانة عالية بين الناس، وكان لكبار الشعراء مكانة اجتماعية طيبة لما لهم من تأثير يطمع فيه أناس ويخشاه آخرون.
كم خامل سما به إلى العلا بيت مديح من بليغ ذلق
مثل بني الأنف ومثل هرم وكالذي يعرف بالمحلق
وكم وكم حط الهجا من ماجد ذي رتبة قعساً وقدرٍ سمق
مثل الرَّبيع وبني العجلان مع بني نمير جَمَرَات الحَدَق
وكانت العرب تُكبر القبلية أيما إكبار، وقلّ منهم من كان لا يعتز ببني أبيه لسبّة فيهم أو عار عُيّروا به، كبني أنف الناقة حتى رفعهم شاعر فارتفعوا، فقال:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الذنبَ
أو كما حط جرير من نمير وكانت محل فخر من ينتسب إليها، فقال:
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلاباً
وقد كان للقادة من العرب قبل الإسلام شعراؤهم الذين يعظمون أعمالهم وقوتهم وسلطانهم في مديحهم في شعرهم، ويقبحون عدوهم ويصغرونه ويضعفونه في هجائهم، فيطير شعرهم بين الناس، وهذا ما كانت تريده الملوك، فيكرمهم الملوك والقادة إكراماً كبيراً يناسب فعالهم.
وكان حسان بن ثابت منهم، فقد كان يرِد على ملوك الغساسنة، فينفعهم بشعره وينتفع من مالهم، حتى جاء الإسلام فوضع شعره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يدافع به عن الإسلام وينشره ويهجو به عدو الإسلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهجوا قريشاً، فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل». فأرسل إلى ابن رواحة. فقال: «اهجهم»، فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك. ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً حتى يلخص لك نسبي»، فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله، قد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسلّنك منهم كما تسلّ الشعرة من العجين. قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: «إن روح القدس لا زال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله»، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هجاهم حسان فشفى واشتفى». رواه مسلم
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أناس من الكفار كانوا يقولون الشعر لأثرهم في الناس على المسلمين، منهم كعب بن الأشرف والقينتان في مكة يوم الفتح فيمن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتلهم.
وقد أظلّنا في زماننا تسارع التكنولوجيا، فقد كانت وسائل الإعلام في بداية هذا العصر من زمن التكنولوجيا الحديثة هي وسائل إعلام الدولة الرسمية، لكل دولة إذاعتها وتلفازها وصحفها، سواء كانت رسمية أو شبه رسمية. ثم تغير الأمر فأصبحت الحاجة ملحة إلى وسائل إعلام (مستقلة) ترعاها دول، ثم نافس ذلك كله وسائل التواصل الاجتماعي، وسائلُ إعلام قوية متفلّتة من كل قيد، وأحياناً موجهة.
فأصبح أمام الدول تحدٍ للسيطرة على هذا الكم الكبير والمتشعب من وسائل الإعلام، وقد انتهجت الدول في منطقة المسلمين نهجاً شبه واحد في إبقاء وسائل الإعلام الحكومية على قيد الحياة أمام منافسة قوية لها من قنوات التلفزة الأخرى ومن المنصات على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا شك أن وسائل الإعلام الحكومية أصابها ضعف شديد، أو ظهرت ضعيفة في هذه المنافسة، فقد مر عليها زمان في القديم يكاد لا توجد وسيلة إعلام متاحة للناس غيرها، فكانت قوية لأجل ذلك، فقد كانت الخيار الوحيد أو شبه الوحيد للمشاهد أو السامع أو القارئ. وقد أصبحت هذه الدول تعلم مع عنايتها بمؤسساتها الإعلامية الحكومية أن هذه المؤسسات لن تتجاوز سقفاً معيناً في التأثير في الجماهير، وكان هذا السقف منخفضاً لعلم القائمين على هذه الدول أن المنافسة قوية وأن هذه المؤسسات يحكمها الجمود والتعقيد الحكومي في العمل إضافة لنصيب هذه المؤسسات من الفساد المالي والإداري وتدهور القبول الشعبي لقادة هذه الدول.
فكانت الخطوة التالية، وهي إخراج وسائل إعلام (مستقلة) للعلن عبر قوانين جديدة تتيح المجال بهامش في العمل الإعلامي وبرجال من الوسط السياسي وغيرهم، وجعل وسائل الإعلام هذه مربوطة برباط لا يراه الناس بالدولة، ويعطى لها مساحة (حرية) في العمل الإعلامي بحيث تظهر أمام الناس بشكل لا يشبه على الإطلاق المؤسسات الإعلامية الحكومية.
فتكون نشراتها الإخبارية أقل اهتماماً بعمل الرئيس والحكومة من المؤسسة الإعلامية الحكومية، وتكون برامجها أكثر جرأة، وضيوفها في برامجها من أطياف شتى، ومراسلوها أكثر (مهنية) وانفتاحاً على مصادر المعلومة الإعلامية، هذا إذا كانت وسيلة الإعلام إخبارية. وإذا كانت للمنوعات والترفيه فتكون أكثر انفتاحاً (انفلاتاً من قيود الأخلاق) في برامجها الحوارية وفي الشخصيات الذين تستضيفهم والمسلسلات والأغاني والأفلام التي تعرضها في الإعلانات التجارية.
وإن كانت دينية فتُظهر الجانب المحافظ على الدين في مقدمي البرامج ومادته، أو في الضيوف، أو فيما تعرضه من مادة جاهزة معدة مسبقاً، سواء أكانت وثائقية أم قصصية أم ترفيهية.
وعلى أي لون تكون هذه الوسائل، فإنها تسعى إلى حصول أفراد في المؤسسة على الشهرة حتى خارج القناة، إما عبر استضافة قنوات إقليمية أو دولية لها، أو حضورهم ندوات أو مهرجانات إعلامية، ويفضلون أن يكونوا فيها محاضرين، أو غير ذلك من أسباب الشهرة، فإن هذا يجعل قبول الشارع المحلي لهم أكبر.
وعلى أي لون كانت هذه الوسيلة الإعلامية فإن رجالها من الراضين عن نظام الحكم في البلد، ولو كان منهم من يقول إنه غير راضٍ عن أداء القائمين على النظام، ولكن الجميع راضٍ عن النظام ولا يفكر خارج إطاره، ولن نفاجَأ إن علمنا أن أجهزة في الدولة لها اتصالات وثيقة مع كل وسائل الإعلام هذه لتضبط لها أداءها بما يخدم التوجه العام للدولة.
وإن تمكنت دولة من هذه الدول من دفع هذا القطاع من الإعلام ليكون مجال عمل مؤسسة من مؤسساته إقليمياً، بحيث يكون جمهورها في الإقليم – وليس داخل الدولة فقط- تكون هذه الدولة قد حققت اختراقاً مهماً يُحسب لها إقليمياً، وتكون حجزت لنفسها مكانة إقليمية عند سادتها في الغرب.
بقي عمل وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه قد دخلت كل بيت، وأصبحت محل اهتمام الجميع. فقد حازت على اهتمام عامة الناس بإقبال كبير، وبالتالي أصبحت محل اهتمام كل جهة تطمح للتأثير في الناس، فأنشأت هذه الجهات منصات ومؤثرين ويتيوبرين وصفحات وغير ذلك. ومن هذه الجهات الأنظمة القائمة على حكم البلدان. وهذه الأنظمة قد اتجهت في تعاملها مع وسائل التواصل أكثر من اتخاذها نوافذ للتأثير في الناس مرتبطة مباشرة بها، بل مدت أذرعها للتواصل مع باقي النوافذ العاملة لكي لا يخرج أي عمل في الناس عن السياسة العامة للنظام في صياغة وعي الناس.
إلا أن وسائل التواصل فيها من الثغرات الأمنية ما يصعب على الأنظمة معالجتها، وهي في اتجاهين:
الأول: في جهات ليست من المؤيدين ولا المعارضين للنظام، ولكنها جهات لا ترضى بوجود النظام وتعمل لتغييره، هذه الجهات لا تستطيع الأنظمة ضبط مخرجات منصاتها للعامة، لأنها تعمل في جزء من تأثيرها في الناس لهدم ما تبنيه الدول القائمة من الوعي الجمعي عند الجماهير، وبناء اتجاه جديد في الوعي العام للجمهور. لذلك كانت أبرز مجهودات الدول لمعالجة تأثير هذه المواقع في الناس حجب مواقعها، وإن كان هذا ذا تأثير ضعيف عليها.
ثانياً: صفحات ومواقع الناس، وهذه يعبر الناس فيها عما يجول في خواطرهم، ومنهم أفراد يتبعون تلك الجهات التي لا ترضى عن وجود أنظمة الحكم الحالية، وقد أصبح عامة الناس أكثر جرأة في الحديث والكتابة عبر صفحاتهم، وهذا شكّل تحديا كبيرا لأنظمة هذه الدول، وقد سلكت هذه الأنظمة إجراءات أمنية لإخافة الناس، لعلها تعالج هذه الفجوة في المسألة الإعلامية، منها سن قوانين (الجرائم الإلكترونية) والملاحقة الأمنية وغيرها.
بكل هذه الإجراءات والعلاقات مع وسائل الإعلام والصفحات الفاعلة على مواقع التواصل الاجتماعي بَنَت هذه الأنظمة في بلادنا منظومة إعلامية متماسكة، للسيطرة على اتجاه الوعي العام عند الناس، وتوجيه مشاعرهم وُجهة لا تؤذي الأنظمة في الأزمات، وصناعة ثقافة معينة تخدم توجهات الأنظمة الحاكمة ودوام رعايتها، وتحارب أي ثقافة أخرى تراها هادمة لأنظمتها، وغير ذلك. وقد ظهر أثر منظومة الإعلام هذه في حرب غزة (طوفان الأقصى)، وقد انقسمت وسائل الإعلام إلى قسمين:
قسم يتبنى عمل المقاومة في غزة، أو انحاز في التغطية إليها، وقسم آخر تبنى وجهة نظر معاكسة ولو بشكل غير صريح، وقد أدى نفور الجمهور من القسم الثاني لتعلقه بالقسم الأول من وسائل الإعلام، سواء كانت محلية أو إقليمية. وقد عمل القسمان وخاصة القسم الأول من وسائل الإعلام هذه على:
تصوير المجهود العسكري للمجاهدين في غزة على أنه مجهود كبير قادر على الوقوف في وجه المجهود العسكري ليهود وليس بحاجة إلا لجبهات إسناد تشاغل العدو ولا تدخل معه في حرب، مع أن يهود ألقوا بثقل عسكري كبير في حربهم على غزة واستصرخوا لأنفسهم أمريكا وأوروبا وأنظمة المنطقة العربية وغير العربية، فساندوهم بالعتاد والمؤونة والرجال أحياناً. فأصبح المشاهد ينتظر من أهل غزة انتصارا على يهود وسحقاً لجيشه في الميدان، فلما طالت الحرب وكثر القتل والدمار تسلل شيء من اليأس لقلوب الناس.
صرف أذهان الناس ومشاعرهم باتجاه أن حاجة غزة إنما هي حاجة إنسانية وليست حاجة عسكرية، فانشدّ الناس لما ينقل من مشاهد الدمار وصور الخيام واللجوء ومجاعة الناس والشهداء المتروكين في الشوارع، فكانت صدمة الناس كبيرة لصدق مشاعرهم، وقد أتقن الإعلام هذا في توجيههم لإرسال المساعدات التي لن تصل إلا بأمر المجرمين وإذنهم، وإرسال الدعاء لأهل غزة، بدلا من أن يرسلوا إليهم ما يدفع عنهم شر يهود وأعوانهم، فأخذت وسائل الإعلام هذه الناس إلى علاج أعراض الأزمة ولم تأخذهم لعلاج جذورها.
صرفت وسائل الإعلام هذه الناس عن تحريك الجيوش نصرة لأهل فلسطين، مع أن الأزمة في فلسطين هي أزمة عسكرية، وكان الأولى والأجدر أن يتدخل فيها أهل الاختصاص، وهم العسكريون في المنطقة، ولكن لم يكن هذا هو المطلوب عند أسياد وسائل الإعلام هذه وعند الأنظمة الراعية لهم، بل كان هذا التوجه ممنوعاً، مع أنه كان في أول الحرب خياراً مطروحاً جماهيرياً بقوة، وقد ساعد في الدعوة إلى تدخل الجيوش في حرب غزة صفحات للناس ولجهات غير راضية عن وجود الأنظمة هذه في المنطقة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن تمكنت هذه الأنظمة بمعونة منظومتها الإعلامية من صرف الناس عن هذا الخيار.
ساهمت وسائل الإعلام هذه في تعليق الناس بالحلول السياسية التي يروّج لها، وبالوفود التي تذهب وتجيء في المنطقة، لعلها توقف البلاء الواقع على الناس في غزة وتفرج عنهم، فأصبح للظالمين المجرمين من قادة دول في المنطقة قيمة وشأن، وأُنسيَ الناس أن لا فرج بحق يأتي به ظالم أعان عدوك عليك، وأن لا فرج إلا باتباع أمر الله في حل الأزمات. وقد توجه الناس بالدعاء لله طيلة الحرب، وأقنعهم الظالمون ووسائل إعلامهم بانتظار الفرج من وفود قطر ومصر وأمريكا غيرهم.
لقد كان تعلق الناس في وسائل الإعلام في حرب غزة واضحاً، وانشدادهم لوسائل التواصل الاجتماعي كبيراً، خصوصاً التطبيقات التي تؤمّن لهم أكبر قدر من المشاهد الحية والأخبار العاجلة، وكان ضعف المؤسسة الإعلامية الحكومية واضحاً.
وهذا درس ذو قيمة عالية للعاملين للتغيير في المنطقة لأثر وسائل الإعلام في الناس لا يجوز أن يغفلوه. ففي الدولة الإسلامية القادمة قريبا إن شاء الله يجب إطلاق يد المؤسسة الإعلامية الرسمية في العمل الإعلامي، تحت إدارة جديدة من السياسيين العالمين بالإعلام، مع إعادة هيكلة المؤسسة بشكل يخدم الأهداف العامة القائمة على تطبيق الإسلام ونشره، وإعادة نظم باقي وسائل الإعلام العاملة في مجال سلطان الدولة الناشئة حديثاً بنظام الإسلام، بإطلاعهم على السياسات العامة للدولة والقوانين الناظمة للإعلام والمظهر العام الذي سيظهر به المجتمع حينها، مع رفع الرقابة الدائمة عنها والاتصال المباشر بين أجهزة الدولة وخصوصاً الأمنية بالإعلام، مع التنبه لصرامة القوانين والانضباط بالسياسة العامة لدولة الإسلام.
إن منطقة الشرق الأوسط تعيش اضطراباً كبيراً، نسأل الله العظيم أن ينجلي بقيام دولة الإسلام العظيم، الخلافة الراشدة، ويعين القائمين عليها، فإن كل زاوية من حياة الناس بحاجة لإعادة ضبط، بما فيها الإعلام.
1447-01-06