بسم الله الرحمن الرحيم
هل يفاجئ أصحاب القوة في سوريا العالم بإعطاء النصرة،
وتحويل الدولة إلى خلافة على منهاج النبوة؟
عصام الشيخ غانم
إننا نعيش على أبواب مرحلة فاصلة في تاريخ المسلمين يتم في نهايتها بناء صرح الإسلام العظيم، فالأمة تمر بحالة نادرة قد أصبحت فيها الثورة ورفض الواقع عنوانها العريض، وهي حالة في منتهى الجد تقدم فيها الأمة شهداءها أفواجاً من أجل التخلص من عصر التبعية للغرب وأذنابه. والثورة في سوريا ربما كانت من أطول الثورات عبر التاريخ، ورغم دخولها عامها الخامس إلا أن زخمها لا يزال دافقاً هادراً، وقد دقت ناقوس الخطر في كافة عواصم دول الكفر، إذ أصبحت مؤشراً رهيباً للكفار على ما في الإسلام من طاقة لا تنضب، وتضحية لا تعرف الوهن أو الضعف، وكل ذلك لأن دافعها الأساسي هو إيمان المسلمين في سوريا بربهم ووعيهم على حقيقة دينهم ورؤيتهم بأن دولة الإسلام العظيمة، دولة الخلافة، قد آن أوانها، وهم يرجون من الله تعالى أن يكونوا أصحابها، لا سيما بعدما رأوا كيف استطاع الغرب بنفسه وبعملائه المحليين والإقليميين تخريب ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وإعادتها إلى المربع الأول. فرأوا كيف انتكست الثورة في مصر شر انتكاسة؛ فتحولت إلى يد طغمة حاكمة جديدة يقودها مارقون يريدون أن يبدلوا كلمات الله، وإلغاء النصوص المقدسة من دين الله، وحرق الكتب الإسلامية في المدارس، وأخيراً الدعوة لخلع الحجاب في ميدان التحرير… مع كل ما يرافق ذلك من تقتيل للمسلمين، كل ذلك لأنهم أسلموا أمر ثورتهم للغرب الكافر، فقد كان الثوار ومرسي لا يرون بأساً بالتنسيق مع الغرب فراحوا ينسقون معه وكأنه سيوصلهم إلى بر الأمان، ولكن خاب من ظن يوماً أن للثعلب ديناً.
وفي سوريا، يشاهد الثوار أنهم بين خيارين، الخيار الأول: هو الخيار الموصل إلى الوضع المصري واليمني والليبي، وهو خيار القبول بدور الغرب ومنه دور دول الخليج ودور تركيا التي يوجهها الغرب للنفاذ إلى الثورة السورية وإعادتها إلى ذات المربع كما في مصر وليبيا واليمن، وهو اقتتال تلو اقتتال لا ينتهي إلا عند استسلام الجميع لإرادة الغرب. والمسلمون في سوريا يجدون في هذا الطريق إبليس الغرب الذي يعدهم ويمنيهم بأموال وسلاح وحكومة انتقالية وانتخابات وتعددية كما يعد الشيطان من يغويهم بالغرور. وهذه الوعود هي الطريقة لإسقاطهم في النفوذ الأميركي-الأوروبي من جديد بعد أن ثاروا عليه وعلى رموزه المحليين. ولأن النار محفوفة بالشهوات ومنها شهوات المال والحكم والراحة؛ فإن إبليس لا ينقطع أمله لا سيما في الثوار الضعفاء من الناحية المادية. وأما الخيار الثاني: فهو طريق الله العظيم، طريق موصل إلى جنة نعيم، طريق لا يرى فيه كثيرون متعاً وشهوة مال وشهوة حكم ولا مجالس فنادق في إسطنبول. هذا الطريق يدعو اليه أهل الله وأولياؤه من الصالحين، يدعون إليه وهم واثقون بنصر الله لا سيما وهم يرون أن أمتهم قد شدت مئزرها وعرفت طريقها وتصلبت عزيمتها من أجل الخروج من مستنقع الغرب الذي وقعت فيه منذ قرابة القرن، وأخذت تبحث عن طريقها في زحام كبير من أبالسة العرب والعجم الذين راحوا ينعتون لها طريق أولياء الله بالتطرف، ويصورون لها أن تطبيق دين الله فتنة، وأن معارضة النظام الدولي لا يقوى عليه أهل سوريا.
لكن الله قد منّ على أهل سوريا بأمر عظيم وهو أن منهم وفيهم من توطدت أركانه على دين الله فلا يحيد عنه، وقد عركت الثورة شعب سوريا، هذا الجزء الأصيل من أمة الإسلام، عركته بالدم والقتل وهدم المنازل والمساجد والمؤسسات؛ فأدرك هذا الشعب الأبي يقيناً أن لا خلاص له إلا بدين الله، وأن إعادة الإسلام إلى الحياة ومنها الحكم هو طريقه للخلاص من تلك الشبكة المخيفة من الأبالسة (الائتلاف ومن والاه، وتركيا ودول الخليج ومن والاها، وأوروبا وأميركا ومن والاها)، واستقر أمره على ذلك محتسباً براميل المجرم بشار في سبيل الله، وواعياً أن سكوت تلك الأبالسة عن المجرم وعن الكيماوي وعن المجازر الرهيبة إنما هو لثني المسلمين عن طريق الله. ووجد شعب سوريا فئة تدعوه لإعطاء النصرة لبناء دين الله في دولة خلافة على منهاج النبوة، والحمد لله أن هذا الحزب ليس قليل العدد فيقال لا نراهم؟ ولا جديد الفكر والطرح فيقال ربما قيل كذا وكذا في فكر لم يمحص! بل هو فئة تعمل في الأمة، وفي سوريا بالذات، منذ خمسينات القرن الماضي، وقد عركتها الأفكار والأحداث فخرجت صافية نقية صلبة تعرف طريقها بكل وضوح وتتسلح بأحكام ربها. وترجو من الله وحده أن يفتح لها أبواب إعطائها النصرة لبناء دولة الخلافة وإعادة أمجاد دين الله في الأرض.
وهنا ترد الأسئلة التالية: هل يقام الدين بالنصرة أم بأي طريق آخر؟ وما هي النصرة؟ وهل هي واجبة أم مباحة؟ فقد رأينا أن نبين الأمر عسى أن يجد فيه المخلصون في سوريا نوراً وهدايةً يوصلهم إلى طريق الله، ويبعدهم عن النار التي يخطط الغرب ويعمل لقذفهم في أتونها كتلك التي يشعلها الغرب في ليبيا ومصر واليمن وبعض قليل من أجزاء سوريا. وسنبين الأمر وفق المحاور التالية:
المحور الأول: كيف بنى الرسول عليه الصلاة والسلام دولة الإسلام؟
انتقل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يثرب حاكماً ونبياً بعد أن لم يكن حاكماً في مكة، وأصبح فيها يجهز الغزوات بعد أن لم يكن له جيش مقاتل، وأصبح يحكم بين الناس ويقضي الخصومات بينهم، وبمعنى آخر أصبحت للإسلام دولة في يثرب التي صارت به مدينةً تشع بنور الإسلام. فكيف كان طريقه عليه الصلاة والسلام في الوصول إلى هذه الدولة؟.
بعد أن بنى الرسول الكريم كتلة الصحابة، انطلق يدعو قريشاً لدين الله، فرفضت قريش دعوته وصدَّته صداً شديداً وأجرت ضده وأصحابه سلسلة من العقوبات: المقاطعة والتعذيب وإبعاد الأتباع وتهديدهم وقتل بعضهم كآل ياسر… وعندها، أي عندما تجمد مجتمع مكة أمام دعوة الإسلام وأصبح المسلمون لا يزيدون وأصبح الكفار يزيد تشددهم ضد الدين، انتقل الرسول الكريم بوحي من الله إلى التماس القوة بين القبائل أو ما تطلق عليه كتب السيرة اسم “طلب النصرة”، وبهذا انتقل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عمل جديد من أعمال الدعوة في المرحلة الثانية عنوانه طلب النصرة من أهل القوة. وهنا لا بد من التفريق بين طلب الرسول الكريم النصرة بمعنى الحماية لشخصه الكريم ليبلغ عن ربه كما كان ينصره عمه أبو طالب ومن بعده المطعم بن عدي، وبين طلبه للنصرة بمعنى طلب الحكم وإقامة الدين حيث طلبها من عدد كبير من القبائل منها هي حسب ما ذكره المقريزي: “ثم عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل ودعاهم إلى الإسلام وهم بنو عامر، وغسان، وفزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وقيس بن الخطيم، وأبو يسر أبو أنس بن رافع” وقد استقصى الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة. وهنا سنقف عند أربعة أمثلة لطلبه عليه الصلاة والسلام النصرة مبينين جوهر طلب الحكم وإقامة الدين فيها:
1- طلب النصرة من الطائف: كانت الطائف تمثل كياناً (دولة) قوياً بجوار قريش، وتبزُّها في المكانة والشرف، وإليها تشير كلمة القريتين في الآية الكريمة (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). جاء في سيرة ابن هشام تحت باب: )سَعْيُ الرّسُولِ إلى ثَقِيفٍ يَطْلُبُ النّصْرَةَ(: “قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنَ الأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمّهِ أَبِي طَالِب، فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطّائِفِ يَلْتَمِسُ النّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ“.
وفي الطائف اجتمع الرسول الكريم بثلاثة من زعماء الطائف هم ثلاثة إخوة: عبد ياليل بن عمرو ومسعود بن عمرو وحبيب بن عمرو. وكان ردهم شديد السوء فمن قائل “أمزق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك رسولاً” إلى قائل منهم “أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟” وبعد رفضهم طلب الرسول الكريم منهم أن يكتموا حديثه ويخفوا أمر مجيئه إليهم عن قومه من قريش. ولكنهم عوضاً عن ذلك أغرَوا به سفهاءهم وعبيدهم وصبيانهم فخرجوا خلفه يسبُّونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة. وموضع الشاهد هنا أن الرسول الكريم طلب النصرة لدين الله من زعماء الطائف أهل القوة فيها الذين يملكون أمرها، فلم تكن زيارته عليه الصلاة والسلام للطائف لمجرد الدعوة على عمومها، بل هي لطلب النصرة لدين الله من زعماء الطائف المالكين للقوة.
2- طلب النصرة من بني عامر بن صعصعة: كانت قبيلة عامر بن صعصعة واحدة من خمسة كيانات منيعة في جزيرة العرب، لم يجرِ عليها سبي ولم تخضع لملك ولم تدفع لأحد إتاوة مثلها مثل قريش والطائف وخزاعة. ويذكر ابن هشام في سيرته أن الرسول الكريم لما أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، قال له رجل منهم يقال له بَيْحَرة بن فِراس: «والله لو أني أخذت هذا الفتى لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال الرسول الكريم: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» قال: فقال له: أَفَنُهدفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه. والشاهد هنا أن العرب كان طلب النصرة منهم واضحاً لهم أنه من أجل الحكم، بدليل طلب هذا الرجل من الرسول الكريم أن يكون لهم الإمارة من بعده، فكانت نظرتهم أن هذا الدين وهذا النبي سيكون له أمر عظيم بين العرب، فهو شرف لمن يأخذه، ففاوضوا الرسول عليه الصلاة والسلام على الإمارة أي الحكم من بعده، وهذا يشير بقوة أن دعوته عليه الصلاة والسلام لهم كانت طلباً للنصرة بمعنى الحكم، ولم تكن دعوة للدين عامة، وكان طلبه صريحاً “أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني” أي أنهم كانوا ينظرون في العرض دفعة واحدة: الإسلام والايمان ونصرة هذا الدين بقيادة هذا النبي. وكثيرة أيضاً هي الأدلة من قبائل أخرى ومفاوضاته عليه الصلاة والسلام معها بالمعنى نفسه. ولعل ما يشير بقوة أيضاً إلى ذلك أن الرسول الكريم كان يصطحب معه أبا بكر وهو عالم بأنساب العرب وأحوالهم، ويسأله عن قوة القبائل، وكانوا لا يدخلون على قبيلة إلا بعد أن يتأكدوا من قوتها ومنعتها، فالمسألة لم تكن أبداً في إطار الدعوة العامة للإسلام، وإنما كانت بحثاً عن أهل النصرة لنصرة دين الله، أي بحثاً عمن يقيم الدين، والضعيف لا يستطيع ذلك. وفي حال لم يكونا متأكدين، كان أبو بكر يسأل القبيلة بشكل مباشر عن قوتها، مثلما حدث مع بني شيبان!
3- طلب النصرة من بني شيبان: ذكر صاحب البداية النهاية في رواية عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال: لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه… إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر، عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلَّم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأبي وأمي، هؤلاء غُرَر الناس، وفيهم مفروق قد غلبهم لساناً وجمالاً، … فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف، ولن تُغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنَّا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى. وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى.
وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى دين الله، وكانت المفاوضات تسير مع ثلاثة من قادتهم هم مفروق وهانئ بن قبيصة صاحب دينهم والمثنى بن حارثة صاحب حربهم، وكان طلبه صريحاً ” أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني” ووجد منهم رداً ينِمُّ عن القبول، وأنهم ربما كانوا بحاجة إلى العودة والتفكير من أجل ترك دينهم واعتناق دين الإسلام، واستمرت المفاوضات بينهم على مدار ثلاثة أيام، وانهارت في اليوم الثالث عندما أصرَّ بنو شيبان على نصرة محمد عليه الصلاة والسلام في ما يلي مياه العرب دون أنهار كسرى، فقال المثنى بن حارثة “وإنَّا إنما نزلنا بين أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنَّا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدِثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا”. فقال لهم الرسول الكريم في نهاية المفاوضات “ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه”.
وهكذا رفض محمد عليه الصلاة والسلام أخذ نصرة بني شيبان منقوصة، أي غير كاملة في نصرة الدين، وانفضَّ عنهم بغضِّ النظر عن قبولهم الإسلام، فقد أسلم منهم المثنى بن حارثة ولم يسلم غيره رغم مفاوضتهم الرسول الكريم على إسلام كل أبناء بني شيبان، والمعنى هنا أن عمل الرسول عليه الصلاة والسلام معهم كان جوهره أخذ النصرة للحكم بالإسلام وليس مجرد الدعوة إلى الدين على عمومها.
4- طلب النصرة من الخزرج والأوس: يعتبر نص بيعة العقبة الثانية والمداولات أثناء البيعة من أوضح ما يكون على أن طلب الرسول الكريم للنصرة من أهل القوة هو الذي أقام دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة. فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول لأهل القوة من الخزرج والأوس في العقبة الثانية “أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم” فيقول أحدهم واعياً معنى طلب النصرة، وهو أبو الهيثم بن التيهان: “يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال –أي اليهود- حبالاً (عهوداً) وإنا لقاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم الرسول الكريم وقال:”بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم”. وزيادةً في تفهيم المبايعين معنى البيعة، يعترض العباس بن عبادة قومه الأنصار قائلاً لهم “يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً، فمن الآن، فهو والله خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون بأنكم وافون له بما دعوتموه اليه، على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فهو والله خير الدنيا والآخرة” فأجابه قومه بنعم، نأخذه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، ثم قالوا: فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ فرد عليهم الرسول الكريم مطمئن النفس قائلاً: “الجنة”.
ومدّوا اليه أيديهم فبسط يده فبايعوه قائلين: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا، ويسرنا، ومكرهنا وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم”. وبهذا تمت البيعة ونجحت عملية طلب النصرة بعد أن تعثرت مرات كثيرة، ذكر منها المؤرخون لسيرة الرسول عليه السلام أربعين طلباً للنصرة من أهل القوة. وأكرم الله تعالى رسوله بهؤلاء الأنصار، وأكرم الأنصار كرامةً لا ينافسهم فيها أحد. وبهذا يتضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد اتخذ طريق طلب النصرة لبناء دولة الإسلام ولم يتخذ غيره. وهذا قطعي لا كلام فيه.
المحور الثاني: هل يجب علينا اتباع محمد عليه الصلاة والسلام في طريقته لبناء دولة الإسلام اليوم؟
بالتأكيد، فقد توفَّرت للرسول عليه الصلاة والسلام طرق أخرى لبناء الإسلام، ولكنه سار في طريق واحد هو طلب النصرة. فقد رفض عروض قريش تقاسم الحكم وإنهاء حالة الصراع بينهم، ورفض طلب أتباعه من الصحابة الكرام باتباع طريق العنف أو الاغتيال لقادة قريش وما شاكل. ومن كل هذا يتبين أن اتباع طريقة الرسول الكريم في إقامة الدين وبناء دولة الإسلام- دولة الخلافة- أقل ما يقال فيه إنه تأسٍ بالرسول الكريم يثاب فاعله، لكن إذا علمنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد كرَّر هذا العمل مرات عديدة وصلت لأربعين مرة أو تزيد، وأن الرسول الكريم قد كابد الأذى كما في الطائف، والردود السيئة كما مع بني حنيفة أهل اليمامة وغيرها من القبائل، ولم يغيِّر طريقه مع عروض الشراكة في الحكم أو الحكم الجزئي من قريش، فكل ذلك في علوم الدين يفهم على أنه قرينة جازمة على وجوب هذا العمل الذي قام به سيدنا محمد بوحي من الله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) يحرم عليه تجاوزه إلى غيره من البدائل المتوفرة.
وهنا قد يرد سؤال: هل يجب علينا في وضعنا الحالي التأسّي بالنبي الكريم واتّباع طريقته في إقامة الدين وبناء دولة الإسلام- دولة الخلافة ؟ وحتى تتيسر لنا الإجابة على هذا السؤال الكبير دعونا نلقي نظرة على واقعنا اليوم من حيث تحقيق مناط هذا الحكم.
عاش المسلمون قروناً طويلة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام وهم يطبقون الإسلام، فكانت دولة الخلافة تملأ الدنيا، وفي القرن العشرين هدم الإنجليز بمساعدة فرنسا آخر دولة إسلامية-دولة الخلافة العثمانية- وبعدها لم يعد للإسلام دولة تطبقه وترعى شؤون المسلمين على أساسه، وهذا لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا. ولا يكاد يختلف اثنان من المسلمين اليوم بأن الإسلام غائب عن حياة الأمة والمجتمع وإن كان موجوداً على مستوى الأفراد. واليوم يتعاون القائمون على أمر المسلمين من حكام وعلمانيين مع الكفار أعداء الدين لضرب الإسلام والمسلمين، وهذا ظاهر وليس بخفي. فالسيادة في ديار الإسلام هي للكفر، بل إن كل من ينادي بالإسلام وإظهاره وتطبيقه ينعت بالتطرف والأصولية. فحكام المسلمين يطبقون الرأسمالية في السياسة والاقتصاد وغيرها، ولم يتركوا للإسلام إلا دائرة صغيرة جداً هي الزواج والطلاق وذلك ليس حباً بالإسلام، وإنما لأن هذه الأحكام من النوع الحساس الذي يستحيل على المسلمين أن يتركوه، فلا يقبل أي مسلم أن يعيش مع امرأة بعلاقة يسميها الحاكم زواجاً مدنياً ويسميها رب الحاكم بالزنا، فمن هذا الباب كان ترك الحكام لشؤون الزواج والطلاق وما شاكلها.
وفي عرف الفقهاء فإن غياب أحكام الدين عن التطبيق تنقل الدار أي الدولة من دار إسلام إلى دار كفر. ودار الإسلام تنتكس إلى دار كفر بتحول أحد شرطين أو كليهما: الأول أن تكون الأحكام والأنظمة المطبقة من غير الإسلام. والثاني أن يكون أمان الدار-أي قواها الأمنية- بيد غير المسلمين. ولعلّ الناظر في ديارنا يجد الأمرين معاً، فلا أحكام الإسلام هي المطبقة، ولا جيوشنا تأتمر بقادة المسلمين، فنفوذ الغرب على هؤلاء الحكام “العملاء” واضح وجلي، وقد جعلهم يشعلون الحروب عندما تأمرهم أميركا أو أوروبا، وليس دفاعاً عن بلادهم وشعوبهم، ولعل ما تشهده سوريا اليوم لهو خير دليل على ذلك. فالجيش السوري قد أنشئ للدفاع عن الوطن، بينما لم يتقدم هذا الجيش لتحرير الجولان المسلوب منذ عام 1967م، ولكن عندما خرج صبية يريدون التغيير على النظام، اعتقلهم وعذبهم وقتلهم شر قِتلة ضارباً أبشع الأمثلة على عداء الحكام لشعوبهم وعمالتهم. والشاهد هنا أن دارنا ليست دار إسلام، وأنه يجب علينا العمل لإقامة دولة الإسلام، وهذا من أهم الأعمال وأعظمها التي يجب أن يقوم بها المسلمون اليوم؛ لأن كل أمر آخر من أمور الدين يتعلق بها ويتوقف على وجودها.
وبذلك فإن عملنا اليوم لبناء دولة الإسلام هو شبيه بعمله عليه الصلاة والسلام لبناء دولة الإسلام وإقامة الدين قبل هجرته إلى المدينة من حيث إن دارنا ليست دار اسلام. ولا يغير من هذا المعنى أن الناس اليوم مسلمون، والرسول الكريم كان يدعو قبائل كافرة، إذ محل النظر هو الحكم والدار كونها دار إسلام أو دار كفر، وليس الأفراد. وما دام الحال أو تحقيق مناط الحكم قد تطابق بيننا وبين ما كان زمن الرسول الكريم، فعليه يكون اتِّباعنا لطريقته في إقامة الدين وبناء دولة الإسلام فرضاً يجب التأسِّي به، ولا خيرة لنا في ذلك، قال تعالى: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا”.
وبهذا يتبين أن أمر إعطاء النصرة واجب عظيم وفرض كبير قد تعلق بمن ملك القوة من المسلمين. فهذا الواجب متعلق بأناس بعينهم وهم أهل القوة من الكتائب والألوية المقاتلة في سوريا، ومتعلق بضباط الجيش المالكين للقوة، وهو غير متعلق بغيرهم ممن لم يملك القوة. وهذا بمعنى أن للإسلام أحكاماً تتعلق بالعبد على قدره، فمثلاً الأحكام المتعلقة بالرجل الأعزب تزيد عند زواجه بإضافة أحكام النفقة والرعاية التي أضيفت اليه بسبب وضعه الجديد وانتقاله من حال إلى أخرى، والرجل الذي يصبح أميراً تتعلق برقبته أحكام أخرى بسبب تغيُّر حاله بالإمارة، ويجب أن يعلم كل من يملك القوة من أبناء المسلمين بأن أحكام إعطاء النصرة في هذا الظرف -غياب الإسلام عن الحكم- قد تعلقت برقبته والله سائله عنها يوم القيامة. ومن يظن بأن المسألة ليست بهذه الجدية فنقول له: ماذا تقولون في رجل يغلق عليه بابه ويضع سلاحه ويشغل نفسه بالنوافل كالصلاة داخل بيته، والعدو يقتل المسلمين من جيرانه ويفتك بهم، وهو يظن بأنه يحسن صنعاً بأنه يصلي لله ويتنفل، أليس على كلٍّ منا أن يقول بأن الواجب عليه هو استعمال السلاح للدفاع عن المسلمين من جيرانه بدل صلاة النافلة، فالدفاع عنهم واجب وصلاة الزيادة نافلة، والواجب يقدم قطعاً على النافلة بسبب امتلاكه السلاح وقدرته على الدفاع.
وهكذا، فإن كل من امتلك القوة من أبناء المسلمين وجب عليه إعطاء النصرة، ووجب عليه أن يبحث بنفسه عن المخلصين العاملين لإقامة الدين الباحثين عن أهل النصرة، وليس مجرد انتظارهم حتى يأتوه، وهذا من علامات الإيمان، وفي الوقت ذاته يجب على هؤلاء القادرين على إقامة الدين الاستمرار في طرق أبواب أهل القوة الذين بدونهم لا يقام الدين ولا تبنى له دولة. ولا يظننَّ أحد من أهل القوة بأنه قادر على أن يأتي الله بحجج هو يعلم بأنها واهية، فمثلاً نصرة الدين تعطى لمن يبحث عن أهل النصرة لبناء دولة الإسلام مخلصاً في ذلك وجهه وعمله لله رب العالمين، والمسلمون اليوم وفي زمن الانكشاف قد بان لهم المخلصون من غير المخلصين، وبان لهم من يريد بناء دولة الإسلام، فهم يعرفونه ويميزونه من أولئك الذين يعلنون أنهم يريدون دولة مدنية أي غير إسلامية، وذلك إرضاءً للغرب الكافر، وكأن الله لا يرقب أعمالهم.
ولربما كان لبعض أهل النصرة حجة قبل (الربيع العربي) وقبل الثورات المباركة بأنه لا يعلم المخلص من غير المخلص، أما الآن فقد ولَّى غير المخلصين وانكشفت ارتباطاتهم بالغرب، فانظروا إلى مثال حديث في تونس: ترفع حركة إسلامية شعارها المعهود “الإسلام هو الحل” وذلك من أجل أن يختارها الناخبون المسلمون وتصل إلى الحكم، فتنجح في الوصول إلى الحكم، وبعدها يعلن زعيمها راشد الغنوشي: بأن تطبيق الإسلام يؤدي إلى فتنة!! الله أكبر ما أعجب ذلك، فلمَ كان ينادي بأن الإسلام هو الحل، ومن ثم وبسرعة وخلال ثلاث سنوات يتحول تطبيق الإسلام إلى فتنة!! أين الإخلاص لله تعالى.
والأمة اليوم ترى المخلصين يعملون بينها وبها للوصول إلى حكم الإسلام، فهؤلاء موجودون بين الأمة وليسوا في فنادق إسطنبول يتسامرون مع السفير الأميركي وينسقون أمورهم مع C.I.A الأميركية والأوروبيين، ومع وكلائهم من حكام الخليج وتركيا الذين لا هم لهم اليوم إلا حرف الثورة في سوريا بالمال السياسي والوعود الكاذبة لإبعاد المخلصين من أهل القوة عن نصرة الإسلام ونصرة العاملين بإخلاص لبناء دولة الإسلام. ومن وظيفة هؤلاء الوكلاء ومعهم الكثير من علماء السلاطين الذين انبعجت جيوبهم بأموال النفط، فصارت الدنيا عندهم أغلى من الدين، فوظيفتهم أن يزينوا للناس الانحراف عن الدين. فتارةً يقولون للثوار يجب أن يكون الهدف بناء دولةٍ دعوية وليس دولة الخلافة، أي إلباس الحق بالباطل والمزج بينهما وإلا فما هي الدولة الدعوية؟ ومن ابتدعها؟ وتارة أخرى يصورون للثوار بأن الدعم سيأتيكم إن ابتعدتم عن حزب التحرير الذي يريد سوريا قاعدة للخلافة الإسلامية العالمية. ويظن البعض بأنه إن نادى بإسلام على مستوى سوريا فقط فقد أفلح، وقد رأينا كيف رفض محمد عليه الصلاة والسلام من بني شيبان النصرة المجتزأة جهة العرب دون جهة الفرس.
وأهل النصرة في الثورة السورية اليوم أمام خيارين:
الأول: خدمة الكفار وأعوانهم من أجهزة استخبارات الخليج وتركيا، وهؤلاء يدعون إلى الدنيا وزينة المناصب الموعودة، ومن تلمسُ أجهزة المخابرات العربية والتركية ومن ورائها الأميركية والأوروبية فيه ضعفاً وقبولاً فإنها تتصل به وتغريه من أجل إخضاعه للفحص قبل أن يوكلوا له أمراً. وهنا لا بد من وقفتين: الوقفة الأولى بأن الموت الذي ينشره الأسد وأعوانه وطائرات أميركا وأعوانها غالباً ما لا تفرق بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة، فكلهم أهداف للقصف، ومن سبقت منيته توبته فقد كان من الخاسرين، ومن كتب الله له عمراً فإن الغرب وأعوانه يدعونهم لقسمة المناصب التي لا يملكونها، لأن هذه ثورة مباركة تسير برعاية الله في بلاد الشام – عقر دار الإسلام -، فمثلاً رأيتم كيف طوت الثورة في سوريا وراءها قائد المجلس الأعلى للثورة ورئيس هيئة الأركان كأنهما لم يكونا؛ حيث انهارا أمام صمود الثورة السورية على إسلامها، فرغم النفخ الإعلامي فلا الثورة أصبحت ملك يمينهما، ولا الغرب استطاع تعويضهما بشيء. وإن لم تسبق توبتهما منيتهما؛ فذلك هو الخسران المبين
والوقفة الثانية، أن الغرب يريد من هؤلاء أن يكونوا بما يملكون من قوة خدماً عنده، فإذا دخل أحدهم الاختبار طُلب منه القتال ضد هذه الجهة أو تلك حتى ينجح عندهم؛ لأن خطة الغرب لهدم الثورة السورية هي الاقتتال بين الجماعات المقاتلة حتى لو بقي منها جماعتان صديقتان فقط، وتحويلها من جماعات مقاتلة إلى جماعات متقاتلة، فإن الغرب يريد منهما الاقتتال لإنهاك الثورة وإفشالها حتى تقوم أميركا بصياغة نظام ما بعد الأسد بالصياغة نفسها التي تمت أو لا تزال جارية في تونس واليمن ومصر وليبيا، ومن أجل ذلك يخترع الغرب مبررات الإرهاب، بل يصنعها صناعةً لتسهيل الدخول في أتون الحرب الداخلية بين الثوار وتخفيف الضغط عن جيش الأسد الذي تسكت أميركا عن مدِّ روسيا وإيران وحزبها في لبنان ونظامها في العراق بكل أسباب الحياة له ولا تَعدُّ ذلك إرهاباً، لأنها هي التي تأمر بذلك، وما روسيا أو إيران أو حزبها في لبنان أو الأتباع في العراق إلا أدوات بيد السياسة الأميركية، وقد انكشف ذلك بشكل قوي بسبب صمود الثورة في سوريا على إسلامها وأهدافها وبسبب رعاية الله لها.
الثاني: على أهل القوة من ثوار سوريا عدمُ الالتفات إلى كافة العروض التي تُلقى في طريقهم من أجهزة المخابرات العربية والدولية التي تقوم بنشاط كبير في زحام هذه الثورة اليتيمة، والعزمُ على السير في طريق الله. وأصحاب هذا الخيار في الثورة قد عرفوا طريقهم ولهم الشوكة بفضل الله، وهم الحاجز الكبير الذي منع ويمنع الثورة من الانحراف، وهم الأداة التي تمنع الاقتتال بين المسلمين، وإن حصل تمنع استشراءه، فبهؤلاء وبأمثالهم تُحفظ هذه الثورة الكريمة من الهبوط مهابط اليمن وليبيا أو النزول منازل تونس ومصر. ومن هؤلاء من رأى أن هذه الثلة المخلصة تعمل لبناء دولة عظيمة لتحافظ على دماء أبنائها لا لسفك دمائهم، دولة يهاجر إليها المؤمنون لعدالتها، لا دولة يهجرها المؤمنون خوفاً على دينهم وحياتهم وأعراضهم، دولة تعمل على إعزاز الدعاة إلى الله لا إلى قتلهم تحت حجج واهية بأنهم لم يبايعوا فلاناً من الناس بالقوة، دولة يبايع فيها أهل البلد وسادتهم خليفة ليحكمهم بشرع الله، لا دولة تبايع فيها جماعةٌ أميرَها ليكون خليفة لغو لا علاقة للأمة بتنصيبه، إن دولة الإسلام العظيمة التي يراد بناؤها لتكون داراً للمؤمنين يعرف الناس دعاتها ويعرفون رجالها وهم منهم وبينهم، وليسوا فيهم نكرة غير معروفين. إن العالم أجمع سيحس بدولة الإسلام العظيمة حال إعلانها لأنها دولة توحد المسلمين، وتجمع قواهم لقتال الكفار لا لقتال المسلمين وزيادة فرقتهم.
وأخيراً، فإنا مطمئنون بأن قوة الله هي الغالبة، وهو ناصر دينه لا محالة، ولكنه يؤجل ذلك حتى يبرز من أهل القوة من يريد أن يكون من أنصار الله كما أمر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) وعندها فإن الله سيؤيد الطائفة المؤمنة فتصبح بإسلامها ظاهرةً على عدوها.
وإنه لمن الغريب وغير المفهوم حقاً، أن يمتنع بعض أهل القوة الذين يملكون نصرة الدين والتمكين لدولة الخلافة عن هذا الخير العظيم لأنفسهم أولاً ثم لأمتهم، وأن لا يعزموا أمرهم ويتخذوا قرارهم ويديروا للكفار وأعوانهم ظهورهم ويلحقوا بإخوة سبقوهم في نصرة هذا الدين، فيحصل من تجمعهم الغلبة والنصرة. غريب على هؤلاء أن لا يحبوا أن تكون آية إيماننا حبهم وآية النفاق فينا بغضهم كما قال الرسول الكريم في الأنصار: «آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ»، أو كما عظَّم أمر أنصار الله في موضع آخر بقوله عليه الصلاة والسلام «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ».
إن هذا الدين سينتصر من جديد بعون الله وتقام للأمة دولة خلافة على منهاج النبوة، ولكن هذا الخير العميم يتنظر مسلماً يملك القوة من كبار ضباط الجيوش في بلاد المسلمين يقرر أن يأخذ المبادرة وينصر العاملين للخلافة لا يريد من الدنيا شيئاً إلا طمعاً في جنة النعيم، متأسياً برجل قد سبقه وتميَّز عن غيره من الصحابة بنصرة الدين هو سعد بن معاذ رضي الله عنه فاهتزَّ عرش الرحمن لموته، فقد روى البخاري عن جَابِرٍ (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: “اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذ“. أما وقد تجمعت كافة عناصر النجاح من أمة يزيد شوقها لبناء إسلامها، وهي تتلهف لمن يخلِّصها من هذه الظلمات التي تتراكم فوق بعضها من قتل ودمار، خاصة وأن دين الله حي فيها، ووجدت الجماعة المقتدية بطريقة رسول الله لإقامة الدين، وتعمل بجدٍ ووعي وإخلاص وترفض أن تحيد عنها؛ فإن أمر نصرة الدين ومبايعة الإمام بيعةً شرعية صحيحة قد صارت قاب قوسين أو أدنى، والأمة تنتظر أن يستجيب للدعوة من أهل النصرة من اتخذ قراره بأن يكون من السابقين إلى الخير، وعقد العزيمة على أن يري الله من نفسه خيراً، (وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)..