بسم الله الرحمن الرحيم
حزب التحرير دعوةٌ واعية صادقة
تتمنى على الله أن يُـؤتيها شرفَ إقامة دولةِ الخلافة
صالح عبد الرحيم – الجزائر
1- مشكلة العالم الإسلامي وحقيقةُ الصراع في بلاد المسلمين:
لقد أرسل الله سيدنا محمداً رسولَ الله ليقيم به وبأمته الحجةَ على كافة البشر إلى يوم الدين. قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾. وإنه لا يصح ولا يعقل أن يختلف مسلمان في أن مشكلةَ أمة الإسلام اليومَ مع أعدائها إنما هي فكرية-سياسيةٌ، وتقتضي من أبنائها أن يفهموا أن وجودَهم وحضورَهم في معترك السياسة الدولية واجب وجوباً شرعياً؛ وذلك ليتمكنوا كما فعل أسلافُهم من حمل رسالتهم إلى العالم. وإلا فما معنى أن يكونوا شهداء على الناس، كما جاء في الآية الكريمة؟!. كما تقتضي الآيةُ أن يفهموا أيضاً أن ذلك مرهون باستعادة دولتِهم وكيانهم السياسي الذي هدمه الكفار قبل عقود، والذي بدونه سيبقى المسلمون في كافة أنحاء المعمورة خارجَ الحلبة يجرعهم أعداؤهم الذلَّ والهوانَ والقهر والاستضعافَ في عقر دارهم، ومنها التفريق المذهبي والعرقي والطائفي، والتشتيت الجغرافي والسياسي… كما هو حاصل اليوم. لا بل وصل الأمر إلى ما هو أخطر على المسلمين، ألا وهو التمزيق الفكري والسياسي، حيث صار الأعداءُ يفسرون لنا ديننا و يصنِّفوننا وفق ذلك بـ (الإسلام المعتدل، الإسلام المتطرف… ). كما دأب الأعداء بشكل مقصود على أن يوجدوا لكل واحدةٍ من هذه التصنيفات عند المسلمين مدلولاً وفق الحاجة، وقد حدث كل ذلك في غياب مَن يُقرِّر في شأن هذه الأمة الإسلامية الكريمة، وفق مبدئها وعقيدتها، ألا وهو خليفةُ المسلمين ودولةُ المسلمين؛ ولهذا بات اليومَ جلياً أن قطار المسلمين خرج عن السكة عندما ترك المسلمون الإسلامَ عملياً بتفريطهم في دولتهم ووِحدتهم؛ وذلك بزوال الخلافة الإسلامية وإلغائها من الوجود في بداية القرن الماضي (1924م). وصارت العودةُ إلى الإسلام تعني بالضرورة إقامةَ الدولة الإسلامية، وباتت مسألة العودةِ إلى الإسلام واستئنافِ الحياة الإسلامية هي الشغل الشاغل لأبناء الأمة الذين دبَّ فيهم الوعي. وباتت مسألةُ طريقة وكيفية الوصول إلى ذلك الهدف محلَّ البحث والنظرِ منذ أمد غيرِ قصير، على اعتبار أن في الشريعة الإسلامية من القرآن والسنةِ وإجماع الصحابة المعالجة الصحيحة للمشكلة القائمة، وهي مسألة كيفية إقامة الدين من منهج الصادقِ الأمين.
ولا يخفى من حال المسلمين ما ترتَّب على إسقاط الدولة العثمانية وهدمِ دولة الخلافة من احتلالِ وسقوطِ بقية الأقطار في جُلِّ البلاد الإسلامية ومنها العربية في يد المستعمِر، كما لا يخفى ما ترتَّب على ذهابها وإزالتها من تقسيمٍ للبلاد الإسلامية تقسيماً سياسياً وجغرافياً جديداً وفق المنظور الغربي (الأوروبي) الذي لم يسبق له مثيل، ومن بسطٍ لهيمنة الكافر المستعمرِ على كل شيءٍ فيها، ومن تقاسمٍ للنفوذ في كافة أرجائها. وقد سارعت هذه القوى الاستعماريةُ المتوحشة بعد ذلك إلى وضع الخطط المحكمة لتثبيت سيطرتها وبقائها في الأمة الإسلامية، وإدامة قبضتِها عليها والحيلولة دون تحررها بعودتها إلى دينها ووحدتها وقوتها.
ولقد قامت ثورات في العالم الإسلامي في وجه الاستعمار والاحتلال الأجنبي قبل وبعد إلغاء دولة المسلمين من الوجود لاسترداد سلطان المسلمين ودحر مخططات الكفارِ المستعمرين. ثم جاءت هذه الثورات الأخيرة والانتفاضات الشعبية التي اجتاحت المنطقة العربية مؤخراً فيما سمي “الربيع العربي” أو الثورات العربية لتبرهن بكل وضوح أن للوعي السياسي دوراً حاسماً في الصراع على كافة الأصعدة بين أمة الإسلام وأعدائها؛ لذا كان لا بد من فهم الواقعِ السياسي في بلاد المسلمين فهماً صحيحاً، ولا بد من علمٍ شرعي منضبطٍ بالطريقة الشرعيةِ في استنباط الأحكام، أي في الاجتهاد من الكتاب والسنة، وفي فهم السيرة النبوية العطرة، لتحديد معنى وكيفيةِ العودة إلى الإسلام في هذا الزمان، ولا بد أن يتخذ العاملون وحمَلةُ الدعوة الإسلامية معياراً دقيقاً في تبني الأفكار والمفاهيم ذاتِ الصلةِ بكيفية إنهاضِ الأمة وإقامة الدولة. ولا بد من عملٍ جاد ومنضبطٍ وفق ذلك يُبتغى من ورائه الاستجابةُ لأمر الله والسيرُ على منهج رسول الله ابتغاءً لمرضاة الله.
وإذا كان للإسلام معالم لا يتيه عنها كل ذي عقل سليم، منها أن القرآن والسنة وسيرةَ النبيِّ والصحابةِ معه ومن بعده هي وحدها مصادر فهمه الفهم الصحيح، مهما اختلفت العصور إلى يوم القيامة؛ فإن من أبرز معالمه أيضاً أن الأمرَ كله فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو الصراع بين الحق والباطل، وإن هذه الحياة الدنيا كانت وستبقى دوماً محل صدام بين الإيمان والكفر إلى قيام الساعة. حتى إنَّ كل ما جاء في كتاب الله على سبيل القَصص من أخبار الرسل عليهم الصلاة والسلام قبل الإسلام يُرى فيه جلياً الصراعُ بين أهل الإيمان من جهة وبين طواغيت الأرض ومن تبعهم وسار معهم في التصدي لرسالة الهدى والحق الذي جاءت به الرسلُ من عند الله من جهة أخرى. ولْيعلمْ كل مسلم أن حظه من الآخرة سيكون حقاً وعدلاً بما كان له في هذه الحياة الدنيا من حظ في الوقوف والمجابهةِ والمجاهدة في هذه المعركة الأبدية بين الإسلام دينِ الرسل جميعاً وخاتمهم أخيراً وبين أعداء الله. قال الله تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. فمَن لي بهؤلاء المسلمين الذين انسحبوا اليومَ كلياً من ساحة الصراع، إلا فريقاً من المؤمنين، مع أن الجميع مسلمون أي منقادون لأمر لله وحده في كل شؤون حياتهم. لقد اختاروا من الإسلام ما هو سهل وفردي في التطبيق مما لا يمنعهم منه الكفارُ وأعوانـُهم من الحكام الظلَمة والطواغيت. قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾. ولقد كان من نتائج انسحابِ المسلمين من ساحة الصراع العالمي هذا التغوُّل وهذه الوحشية وهذا التكالب من الغرب الاستعماري ومن جميع أمم الأرض على الأمة الإسلامية، وهذا السعار الذي نراه اليوم تحديداً من أميركا تجاه البلاد الإسلامية. وكان أيضاً من نتائج غيابِ الوعي السياسي وتأثرِ المسلمين بمفاهيم الغربِ عن الحياة أن ظهر مِن بينهم مِن الحركات والدعوات مَن يفهم الإسلام على الطريقة الغربية، ولا يفهمه فهماً صحيحاً، لا من حيث الدعوة له، ولا من حيث تطبيق أحكامه، ولا من حيث كيفية العمل لاستئناف الحياة الإسلامية وإيجاد الدولة. وليس ذلك إلا بسبب عدم انضباط مثل هذه الدعوات المفتوحة بما ورد في الشريعة… وكل هذا يدل دلالة واضحةً على أن المسلمين باتوا اليومَ في أمسِّ الحاجة إلى الانضباط بمفاهيم دينهم وأحكامِ شريعتهم، إلى جانب فهمِ مجريات الأحداث في مواطن الصراع فهماً صحيحاً. ومع هذا فإنه يُتوقع أن يزداد الغرب الحاقد وحشيةً وشراسةً في قابل الأيامِ كلما اقتربت لحظةُ انعتاق أمةِ الإسلام من قبضته الاستعمارية!!
2- نظرة سريعةٌ في مناهج أصحابِ الدعوات المفتوحة غيرِ المنضبطة بالشرع
عند بحث قضية المسلمين المصيرية وبحث كيفية العودة بالإسلام إلى واقع الحياة ومنه الحكم، لا بد بدايةً من التقديم بالقول إن ضياع دولةِ الإسلام هو من التفريط بالدين وعدمِ التمسك به. وإن العملَ لإقامتها والحفاظ عليها هو من جنس إقامة الدين. ولا بد من التذكير أنه بِذهاب دولة الإسلام تَضاعفَ سوءُ فهم الإسلام لدى أكثر المسلمين في أرجاء المعمورة، وبالتالي ابتعادُهم عن أحكامه، واستُبيح المسلمون من كل جانب، وتفرقت جماعتُهم، وزادت مِحنهم، واشتد كربُهم، وذهبت وحدتهم وعزتهم وقوتُهم وحلت مكانها أضدادُها، ولا عجب في كل ذلك. ولا بد من التأكيد بكلام سريع أن إصلاح حالِ الأمة يكون أولاً بتفهُّم الإسلام وما يلزم منه لإقامة الدين تفهماً صحيحاً ومركزاً من قِبل المسلمين، وما يستوجب ذلك من إقامة تكتل سياسي يستهدف أخذَ الحكم، ثم مباشرة إقامة الدولة على أساس الإسلام في بلاد المسلمين، وهو ما سوف يعالج أمورَهم من جذورها، ويُصلحُ حالهم جميعاً جملةً واحدةً في الكليات والجزئيات! وهذا هو معنى استئناف الحياة الإسلامية.
بينما يرى من لا يتفقون مع هذا التشخيص أن حال الأمةِ ساءت في الأصل بسبب عدم التمسك بالإسلام، وليس من ذلك في أذهانهم التفريطُ في الدولة، رغم أنها، أي الدولة، من أمهات أحكام الشريعة الإسلامية، والتي بضياعها تتعطل الكثرة الكاثرة من أحكام الشريعة. وهذا الفهم ببساطة أتى من كون الدولة في أذهانهم مفصولة عن الدين، وهذا أتى من تأثرهم (من حيث يدرون أو لا يدرون) بالثقافة الغربية التي ركَّزها الاستعمارُ الغربي في أعماقهم؛ لذلك لم تدخل الدولة في حساباتهم. إلا أنها لما شكلت مطلباً عاماً عند المسلمين لأن حقيقة وجودها في تاريخهم كانت ناصعة، فإنها شكلت ضغطاً عليهم، وهذا ما جعلها ترد في تصورهم، ولكنها أتت في المرحلة الأخيرة من تسلسل النتائج والأسباب فيما يُرى من تراجع المسلمين بين الأمم ومن خراب ديار المسلمين، ومن تأخرهم في كافة المجالات وضياعهم على جميع الأصعدة! فكان العلاج في نظرهم أولاً عودة الأفراد إلى الإسلام ـ وليس من ذلك كما أسلفنا لا في تصوراتهم ولا في أعمالهم الاستهدافُ المباشر لإيجاد الدولة، ولا جزء واحد من ألف جزء من ذلك. بل ما تعنيه هذه العودة إلى الإسلام عندهم (بطبيعة تأثرهم بفكرة فصل الدين عن الدولة) إنما هو تربية آحاد الناس واستقامة الأفراد بالعبادات والأخلاق، ثم تأتي الدولة في نظرهم طبيعياً في مرحلة ثانية أو ثالثة أو عاشرة لاحقاً! فكأنها ليست من الإسلام ابتداءً. ولهذا نجد طبيعياً أنهم يضعون مسألةَ قيامِ الدولة أو إقامتِها في مؤخرة أولويات العمل، بل هي ليست منها، لأنها تتقدمها مراحل (غير منتهية في حقيقتها)، منها إعداد أفراد المسلمين بالكثرة المطلوبة واستقامتُهم بوصفهم أفراداً ليتكوَّن من مجموعهم المجتمعُ الصالح، وليس من ذلك كما قلنا حملُهم على إيجاد دولة الإسلام والعملُ على إعادة الخلافة سريعاً بشكل لا يقبل التأجيل ولا الانتظار!!!
والحقيقة التي يجب أن يتم إدراكها في هذا المسألة، هي أن إعادةَ دولة الإسلام إلى الوجود ليست في حقيقة الأمر في برنامج العمل عند من يحمل هذا الفهم إلا وهماً، وذلك بسبب دهاء وفطنة مصممي هذه المناهج والدعوات المفتوحة والمقلوبة والمغلوطة، الذين أمعنوا في إيهامهم أنهم بمناهجهم هذه يكونون قد أخذوا بشمولية الإسلام، الذي هو عندهم دين ودولة، فكأن الدولة ليست من الدين ابتداءً! فصار البدء عندهم بما يرونه من الدين عاجلاً، والانتهاء بالدولة لاحقاً، وهما مرحلتان مختلفتان منفصلتان في أذهانهم وفي ممارساتهم. والحقيقة أن الأولى غيرُ منتهية أبداً، وهو ما يعني تأجيلَ قيامِ الدولة إلى أبعد نقطة في الزمن، وهو المطلوب عند الأعداء!! ولهذا لا نجد أشطَّ وأبعدَ عن الحق، مما طغى من مفاهيم مغلوطة في هذا الشأن، مِن خطأ التماسِ صلاح حال الأمة من خلال تقويم آحادها عند المطالبة بالعودة إلى الإسلام. فهذا من أظهر المناهج بطلاناً من بين محاولات معالجةِ أوضاع الأمة الإسلامية وإصلاح شؤونها وتصحيح مسارها.
وإذا كانت العودة إلى الإسلام على مستوى الفرد تعني بناءَ الفرد عَقَدياً بناءً سليماً، أي بناءَه إيمانياً بغرس العقيدة الإسلامية عميقاً في عقله وقلبه (قناعةً واطمئناناً)، وإذا كانت تعني كذلك التزامَه بتفاصيل الشريعة بحيث يُرى أثرُ ذلك في سلوكه، فإنه بالتدقيق يُرى جلياً أنه ليس بإمكان هذا الفرد أن يتجاوز في درجة الالتزام بالإسلام – بغية إصلاحِ نفسه وتربيتها وتهذيبها – ما جاء في الوحي مما هو متعلق بتقويم الأفراد ولا يتعداه! وهو ما لا يكاد يخرج على العموم (فيما هو من الأحكام الشرعية) عن دائرة العبادات والأخلاق والمطعومات والملبوسات. وليس من ذلك شيء مما يعالج حال الأمة بوصفها كلاًّ، ولا مما يُقوِّم علاقاتِ الناس فيما بينهم وأحوالَهم مع غيرهم داخلياً وخارجياً بوصفهم مجتمعاً ودولةً… والسببُ في ذلك يعود إلى ما تركز في أذهانهم من نظرة مقلوبةٍ لتركيبة المجتمع جراء ما وفد إلى ديار المسلمين (على الأقل خلال قرنين من الزمن) من سموم فكريةٍ وثقافة غربيةٍ، قلَبتْ كلَّ التصورات والمفاهيم لدى معظم المسلمين، وأبعدت الدولةَ عن الأذهان، وفعلت فعلها في عقولهم وقلوبهم، بما في ذلك علماؤهم. حتى صارت العودةُ إلى الإسلام في هذا الزمان معضلةً حقيقيةً!!.
3- رؤية حزب التحرير: وجوبُ وجود دولةِ الخلافة في حياة الأمة.
إن من أهم الأمور التي تبين عظمةَ الشريعة الإسلامية، وتتجلى فيها قدرةُ الله الخالق العليم الخبير أن نصوص الوحي، وإن كانت جاءت مربوطةً بأسباب نزوله خلال حياة رسول الله بعد بعثته صلى الله عليه وسلم ، أي نزلت مربوطةً بأحداث وحوادثَ في حياة البشر وقتئذ وفيهم رسولُ الله، إلا أنها في حقيقة الأمر جاءت لتعالج مشاكلَ الإنسان فرداً أو مجتمعاً إلى قيام الساعة، بغض النظر عن ظرف الزمان والمكان وجميع الملابسات والأحوال؛ لذا كان لا غنىً للمجتهد، زيادة على وجوب فقه الواقعِ المزري الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليومَ، عن دراسة وفقهِ سيرةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم على وجه التحديد، وذلك من أجل التأسي بفعل الرسولِ لمعالجة هذا الواقع بإقامة دولة الخلافة.
هذا وقد انبرى لهذا الأمرِ ثلةٌ من علماء هذه الأمة الكريمة، كان من أبرزهم العلامة المجتهد الشيخ تقي الدين النبهاني (رحمه الله)، الذي أبصر الطريقَ عندما أنشأ حزبَ التحرير منذ ما يربو على ستة عقود. وكان محورُ الدعوة في هذا الحزب منذ أول يوم هو إعادة دولة الخلافة إلى الوجود، مهما كلَّف ذلك من جهود، استجابةً لأمر الله في الآية الكريمة ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ التي استنبط منها وجوبَ إقامة تكتل سياسي يستهدف الحكمَ ويهدف إلى أن تكون الرعايةُ العامة في الأمة وفقَ أحكام الشريـعة؛ وذلك أن أعظم معروف هو إقامة دولة الخلافة، وأعظم منكر هو تعطيلها من طرف الحاكم؛ إذ هو صاحب الولاية العامة على الناس. وهذا يُلزم شرعاً أن يكون اهتمامُ التكتل أو الحزب شاملاً نواحي الحياة جميعاً. ولا يصح أن يكون مقتصراً على جانبٍ من حياة الأمة دون آخر، كأن يكون مثلاً تكتلاً خيرياً أو تعليمياً أو أخلاقياً أو غير ذلك مما يعالج أو يسعى لمعالجة بعضِ المفاسد المترتبةِ على إبعاد الإسلامِ ككلٍّ عن الحكم. ومنذ ذلك الحين بدأ العملُ الجاد في الأمة لإخراجها من محنتها، وبدأ صراعُ الأمة مع الغرب لإخراجه من البلاد الإسلامية ولإخراج نفوذه من جميع أوساطها، وإنهاء وجوده من كل الأقطار في شتى المجالات وكافة شؤون الحياة، الثقافية منها والسياسية والاقتصادية والعسكرية. ولن يتحقق ذلك فيما يرى حزبُ التحرير إلا باستعادة دولة الخلافة من جديد، لتتمكن الأمة الإسلاميةُ من استئناف حمل رسالةِ الحق والهدى والنورِ إلى العالمين… نعم، إنه باستعادة الخلافة الإسلامية تعود كل أمور المسلمين إلى نصابها، وتأخذ الأمة الإسلاميةُ دورها في الحياة.
إن الانضباط بما جاء به الوحي من عند الله مسألة جوهريةٌ في الإسلام، وإن من أسوأ ما قد يقال في هذا الباب أنْ ليس في الشريعة طريقة متعينة لإيجاد المجتمع الإسلامي، لا ابتداءً ولا استئنافاً، على اعتبار أن السيرةَ في نظرهم تجربة تاريخيةٌ يُستأنس بها ولا تلزمنا اليومَ نظراً لتبدل العصور والأزمنة، فضلاً عن أن تكون أحكاماً شرعية ووحياً يُتبع في كل عصر! والأنكى من ذلك أن ينظر هؤلاء إلى مَن يبحثون وينظرون في سيرة النبيّ لاستنباط طريقةِ النهوض بالأمة نظرةَ ازدراء متَّهمين إياهم بالجمود وبالقِدَم والالتصاق بالماضي، علماً أن كل ما يصدر عن النبيّ هو وحي من الله إلا ما استثني بدليل، حيث إن محمداً لم يكن بشراً أيَّ بشرٍ، وإنما كان بشراً رسولاً يوحى إليه. قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴾.
ولهذا كانت سنتُه من مصادر الهدى والتشريع في الإسلام، تماماً كما هو القرآن. ولو كانت حياتـُه صلى الله عليه وسلم كما بات ينظر إليها هؤلاء وأمثالـُهم، لما كان في الشريعة الإسلامية لِلَفظ السُّنة فضلاً عن معناها أيُّ اعتبار، وليس الأمر كذلك باتفاق، إذْ هي صنو الكتاب في شريعة الإسلام ولا ريب. فكان لا بد أن يكون في السنة من سيرة الصادق الأمين منهجُ إقامة الدين، وهو ما ذكرناه في أول الكلام، من وجوب صحيح النظرِ في سيرته صلى الله عليه وسلم ، لاستنباط هديِ خير الأنام لمعالجة حالِ الأمة في هذا الزمان. وهذا ما عني به حزبُ التحرير أيَّما عناية منذ نشأته، فكانت دعوته على بصيرة من الشرع من أول يوم، وكانت منضبطةً إلى حد بعيد بما جاء به الوحي من عند الله، وتقتفي أثرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل نازلة.
ومن ذلك أيضاً جدِّيته ووعيه على مجريات الأحداث السياسية في العالم، وعملُه في الأمة على أعلى مستوى في مصارعة ما يتناقض مع الإسلام، وإدراكُه لأحوال شعوب العالم ودوافع دوله في الصراع العالمي على المصالح والنفوذ، وإدراكُه للأساليب والألاعيب على المستوى الدولي فيما تقوم به الدولُ الفاعلة عالمياً، تماماً كما كان عليه رسول الله وصحابتـُه بوصفهم قادة سياسيين عظاماً، ورجالَ دعوةٍ ودولة بارعين على المستوى الدولي. وهو ما جعله يكتسب خبرة سياسية واسعة في هذا الشأن، حتى صارت ميزته الصدق مع الأمة والنصح للمسلمين والجدية والوعي السياسي، وبات يمتلك اليومَ رجالاً من الطراز الأول في مجال رعاية شؤون الناس والقيام بمهمات تسيير الدول، فكان حقاًّ أن يُرى فيه الجدارةُ في قيادة الأمةِ صوب مكانتها اللائقة بها في المعترك الدولي، وفي حمل رسالة الهدى إلى العالم بكل قوة وتحدٍّ؛ حتى صار اليومَ حيثما ذُكر حزبُ التحرير ذكرت معه دولة الخلافة، وذكر معه الرقي الفكري والوعي السياسي.
وكان من فضل الله وحده أنه تمدَّد اليومَ بفكره وفهمه ودعوته في مجتمعات كافة أقطار البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً على اتساعها، بل وصار له وجود في كافة أنحاء العالم. وهو ما أهَّله ليكون رائدَ هذه الأمة اليومَ في مسألة وجوب استئناف الحياة الإسلامية، وهو ما يعني عنده إيصالَ الإسلام إلى الحكم بإقامة دولة الخلافة، واسترجاع سلطان الأمة من طواغيت الأرض والأعداء الماكرين. فنسأل الله تعالى أن يكرمنا بشرف إيصالِ هذه الأمة إلى هذا المستوى من الرفعة والعز والسؤدد والكرامة في الدنيا وفي الآخرة، كما يرضى ربُّ العالمين لأمة خيرِ المرسلين.
والمدقق في الأمر يجد أن مسألةَ وجوبِ التأسي بفعل الرسول ليست واردةً عند أصحاب المناهج التي لا تنضبط بالشرع البتة، وإنما هي مأخوذة من واقع تسلُّط القيم والمفاهيم الغربية على حياة المسلمين، أي من واقع هيمنةِ الغرب الحاقد عدوِّ المسلمين وهيمنة حضارتِه وقيمه على كل تفاصيل حياةِ الأمة الإسلامية! ولهذا لا يصح أن يقال إنهم اجتهدوا فأخطؤوا. بل كثير منهم بات يرى أن الدولةَ وشكلَها فضلاً عن طريقة إيجادها مسألةٌ ليس للشرع ما يقول فيها. كما يفسر هؤلاء السنة تفسيراً يوافق العصرَ في زمن هيمنةِ الغرب، وذلك بغرض تحريفه أو تمييعه. وليس كل ذلك من الاقتداء برسول الله في شيء. وذلك كما يفعل اليومَ مثلاً من يجتهد لاستنباط مفهوم الدولة المدنية (العلمانية) أو مفهوم المواطنة (المستورد من الغرب) من فعل الرسول أو من الـخُطب التي خطبها في الناس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، أومن العهود والمواثيق التي أبرمها عند وصوله إلى المدينة، عند قيام الدولة الإسلامية الأولى. فصار بذلك هؤلاء أيضاً من أدوات الأنظمةِ في تنفيذ برامج الغربِ وإبعاد المسلمين عن الجادة، كونهم يحملون ثقافةَ الغرب ويروِّجون بين المسلمين مفاهيمَه عن الحياة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
والحقيقة أن قطارَ المسلمين بوصفهم أمةً خرج عن السكة يوم ألغيت دولتُهم من الوجود؛ لأن ذلك إنما يعني تخلِّيهم عن تطبيق الإسلام وحملِ رسالة الإسلام عملياً، فلا شيء في الحقيقة يوقف تدهورَ حالِ المسلمين، ويضمن وجودَ الإسلام حياً في حياتهم، ويضمن وجودَ الإسلام والمسلمين عالمياً، أي يضمن وجودَ الإسلام على المسرح الدولي، سوى طريقته في ضمان كل ذلك، وهي دولة المسلمين، وهي الخلافة. فمِن رحمِ هذه المصيبة خرجت هذه المناهج المقلوبةُ في فهم الإسلام وفي ما تعنيه العودةُ إلى الإسلام؛ ولهذا كانت الحركات الواقعية تُغطي على منابع الفسادِ الحقيقية في المجتمعات، وتنطلي عليها في كل نازلةٍ جميعُ حيل الغرب وأساليبه، فكانت بذلك متواطئة فضلاً عن كونها تسحب إلى الخلف. بل كثيراً ما يُؤتى بها إلى الواجهة مرحلياً (كما حصل مؤخراً في تونس ومصر مثلاً) ويَلجأ إليها الحكامُ ومَن وراءهم في حال الشدة والعسر لإخماد الثوراتِ المزعجة أو حرفها عن مسارها أو كبت أي تحركاتٍ قد تزعزعهم، أو لإطفاء غضب الشعوب واحتواء أي حراك من قِبل الأمة في اتجاه تحررها من قيود الهزيمة والتبعية للغرب. وهو ما جعلهم أربابَ التنازلات والتوفيقات وحلولِ الوسط. وهؤلاء برع الغرب في توظيفهم فكرياً وسياسياً وامتطائهم في عملية تسويق بضاعته وتسهيل ابتلاعِ مفاهيم الحضارةِ الغربية باعتبارها حضارةً إنسانية عالمية تصلح لجميع الناس، وصار يكفي أن تُضاف كلمة «إسلامي» أو «إسلامية» لأي بضاعةٍ أو مفهوم غربي ليتم إدخاله إلى حياة المسلمين ويصبح كأنه من الإسلام! وكان من مثالب هؤلاء أيضاً اعتبارُ أصحاب هذه الدعوات المفتوحة (غير المنضبطة بما جاء عن طريق الوحي) الدولَ التي صنعها الاستعمار في البلاد الإسلامية – على أنقاض الخلافة العثمانية – دولاً إسلامية. فمن هذه الزاوية يثبتُ أيضاً أن إقامَ دولة الإسلام ليس ولم يكن يوماً من برنامج عملهم أصلاً، وهذا ما خلط الأمورَ منذ عقود في أذهان المسلمين، ويخلط الأمورَ اليومَ على أكثر المسلمين في هذا الشأن، إلى درجة عدمِ تبيُّن الليل من النهار. فكان لا بد من العلم الصحيح والفهم العميق المستنير قبل العمل.
4- طريقةُ إيجاد الدولةِ من منهج رسولِ الله
انضبط حزبُ التحرير بما ورد في الوحي من فعل الرسولِ صلى الله عليه وسلم بالطريقة التي اتبعها في سيره وعمله لإقامة الخلافة، ويتبين ذلك من خلال استعراض سريع لأهمَّ معالمها مما جاء في السيرة بصورة مجملة:
– قام رسول الله في بداية الدعوة في مكة، زيادةً على دعوة الناس جميعاً جهاراً إلى قول لا إله إلا الله محمد رسول الله أي إلى الإسلام، قام بالاتصال في السر بمن كان يأنس فيه الاستعدادَ والاستقامةَ والقبول، ومن ثَم إعدادِه صلى الله عليه وسلم للفرد الذي قَبِل الدعوةَ من حيث بناؤه عقدياً (إيمانياً) بالعقيدة الإسلامية، وإعداده عقلياً ونفسياً ليصبح شخصيةً إسلامية متميزةً منسجمةَ التفكير والشعور منصهرةً في تكتل سري (وهي عملية البناء والتثقيف في دار الأرقم). كل ذلك إنما هو من أجل أن يكون ذلك الفرد لبنةً صالحةً في إيجاد كيان التكتل ابتداءً، هذا التكتل الذي سوف يواجه تركيبةَ المجتمع الصعبة والمعقدة بوصفه تكتلاً وحزباً سياسياً. أي من أجل تغيير المجتمع القائم تغييراً جذرياً، علماً أن هذه المرحلة لا يتأتى أبداً للأفراد الاضطلاعُ بأعبائها بوصفهم أفراداً، وإنما هي تتطلب عملاً جماعياً وتكتلاً سياسياً مبدئياً صلباً قائماً على عقيدة مبنيةٍ بناءً صحيحاً، يتوفر على جو إيماني استثنائي يعجُّ في وسطه بالشخصيات الإسلامية الراقية الفكر والمرهفة الحس، والقوية الفكر والشعور والملتهبة الأحاسيس، تُناقض في تصورها وفي سلوكها كلَّ ما في الواقع من حولها مما ألفه الناس، وهو تماماً ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة.
– مع استمرار العملية الإعداديةِ التثقيفية التي لا يُستغنى عنها في كل مراحل العمل، باشر هذا الكيان الذي أنشأه الرسول بوصفه تكتلاً – بعد نموه ونضجه وتمكنه، بمعنى استكمالِ قوته – ضربَ العلاقات القائمة في المجتمع على المصالح التي تحكمها تلك العقائد والأفكار والمشاعر والأنظمةُ والقوانين والأعراف المناقضةُ للإسلام، وكان ذلك امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾، باشره بوصفه حزباً سياسياً سافِراً متحدياً بفكره وثقافته، وكان ذلك مؤذناً ببدء مرحلة جديدة هي مرحلة التفاعل مع المجتمع، والتي تقوم على جعل المسلمين يتبنون فكرَ التكتل وهدفَـه، وهذا عمل شاق لا يطيقه إلا أولو العزم من المؤمنين، وفيه ما فيه من المبادأة والمواجهة والصعاب والمعاناة والصبر على الأذى وغير ذلك، وهو عمل ذو شقين مختلفين هما:
-1الصراع مع الأفكار القائمة في المجتمع والمفاهيمِ السائدة فيه وما يتبع ذلك من مشاعر يحملها الناس في قلوبهم تضبط مع الفكر سلوكَهم في تحقيق مصالحهم.
-2الصراع مع الأنظمة القائمة: داخلياً في مقارعة ومحاسبة الحكام، وتبني المصالح فيما يُطبق من قوانين على الناس، وخارجياً من حيث كشف خطط أعداءِ الأمة وارتباط القائمين على شؤون الناس (أي الحكام) عادةً بالقوى الأجنبية المعادية المتحكمة، وهي في هذا العصر القوى الغربيةُ الرأسمالية الاستعمارية الغاشمة. وهو ما يُطلق عليه في مجمله الكفاح السياسي.
فلا مناص إذاً من التفريق بين طورين اثنين: الأول بناء التكتل، والثاني تصدي التكتل لبنية المجتمع، حيث يحمل التكتلُ في هذا الطور على عاتقه تغييرَ المجتمع بوصفه أفكاراً ومشاعر وأنظمةً تحكم العلاقاتِ القائمة بين الناس في سلوكاتهم وقضاء مصالحهم. وهما طوران مختلفان. جاء في السيرة في باب الجهر بالدعوة:
ثم إن الله عزَّ وجلَّ أمر رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن يباديَ الناسَ بأمره، وأن يدعو إليه (المبادأة والمجاهرة). وكان بين ما أخفى رسولُ الله أمرَه واستتر به إلى أن أمره بإظهار دينه ثلاثُ سنين من مبعثه، ثم قال الله تعالى له: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾.
إلا أن مسارَ الدعوة في الاحتكاك والتفاعل بهذه الكيفية مع الناس في المجتمع، حكاماً ومحكومين، في عملية تحميلهم الإسلام قد يُفضي إما إلى القبول وإما إلى الرفض. ففي حالة القبول يتحول الرأي العام في المجتمع سريعاً لصالح المبدأ (أي الإسلام) وتقومُ الدولة، وتصير الدولة القائمةُ على العقيدة الإسلامية أمراً واقعاً أمام أعداء الإسلام والمسلمين، وأمام العالم. أما في حالة الرفض وهي عادةً سنةُ المجتمعات الفاسدة (وعلى رأسها حكامُها) إزاء الدعوات الجديدة، خصوصاً تلك التي يحكمها الطواغيت، فإن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم دلَّت على ما من شأنه، بعد استكمال أبرز أعمال دور التفاعل بنجاح، أن يقلب الأمورَ لغير صالح الحكام الذين بسبب تعنُّتهم وهيمنتهم على مجتمعاتهم يُحال بين الناس وبين قبول الدعوة وحصول التحول. وذلك في أن يُعمد إلى غير هؤلاء الحكام (المحاربين للدعوة) ممن يمتلكون القوة الفعليةَ في ذلك المجتمع أو في غيره للتمكين للدعوة وحمايتها، وإعطاء النُّصرة ليتمكن القائمون على التكتل السياسي من تحويل الأجواء سريعاً في اتجاه القبول وإيجادِ الرأي العام والحاضنةِ الشعبية والسند الطبيعي لقيام كيان المسلمين، وهو ما سيضمن حتماً بعد ذلك الاستمراريةَ واكتمال اكتسابِ القوة في وجه أعداء الإسلام الذين سوف يبذلون دون شك كلَّ ما في مقدورهم لإحباط هذه الخطوة في تحول موازين القوى في أوضاع الشعوب والمجتمعات. ففي جميع الحالات يتحقق النصرُ والتمكين لعباد الله المؤمنين وينتصر الحق وتقوم الدولة، شريطة أن يتوفر الإخلاص والعمل الجاد والصدقُ مع الله وحسنُ التأسي والاقتداء والصبر، وإن طال الزمن. قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
ولا شك أن هذه الأعمال أي أعمال طلب النصرة من أهل القوة والمنعة، وإن كانت تُعدُّ من أعمال دور التفاعل، إلا أنها ذات طبيعة مختلفة عما كان يقوم به التكتل مما هو من قبيل الصراع الفكري والكفاح السياسي، وهي بالتأكيد مما يعتبره الحكام عملاً عدائياً بالغ الخطورة تجاههم، إلا أنها جاءت لتضافَ إلى أعمال التكتل في مرحلة التصدي لبنية المجتمع، على خلفية رفض وتحجر المجتمع في وجه الدعوة، والذي يكون عادةً بسبب إعراضِ زعماء القوم ومحاربةِ الحكام للدعوة ومعارضتِهم لأي تحول يزعجهم، أي يزيحهم عن سدة الحكم، خصوصاً إذا ما كان سند منظومةِ الحكم من خارج المجتمعِ الذي يحكمونه بالفعل (أي في حال كون الحكامِ عملاءَ للقوى الأجنبية كما هو حال المسلمين اليوم)، وهذا بلا ريب مما يزيد الأمورَ في وجه استعادة سلطان الأمة تعقيداً. فلينظر المسلمون اليومَ أين تكمن القوةُ الحقيقية الفعلية في مجتمعاتهم، وهذا من معنى الاتباع والتأسي والأخذ من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
إن هذا الفهمَ لطلب النُّصرة المستنبطَ من السيرة هو ما جعل حزبَ التحرير يجزم بأن طلب النصرة من أهل القوة هو من طريقة العمل لإقامة الدولة، وهو من أعظم الأعمال التي دل عليها الوحيُ من فعل الرسول.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لزعماء مكة عندما اجتمعوا إليه ليساوموه بأمر دينه: «نعم، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم». فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشرُ كلمات. فقال: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم إذا كانت، على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبيُّ مرسَل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم عن الله ما بعثه به… فلما أراد الله عزَّ وجلَّ إظهار دينه، وإعزازَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وإنجازَ موعِده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النَّفرُ من الأنصار، فعرضَ نفسَه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة (موقع بين منى ومكة) لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً (وهم ستة نفر) فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدَّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: إنا قد تركنا قومَنا ولا قومَ بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزُّ منك… فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ودعَوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تَبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذِكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم …
فمِن هذا يتبين أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بأعمال طلب النصرة عند نقطة ما من السير بالدعوة، وهي أعمال من أعظم الأعمال السياسية، التي داوم عليها رسول الله، وهو لم يكن يعلم من أين سيأتي الفرَج، حتى جاءت البشرى من المدينة المنورة. فقد بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصحابي مصعب بن عمير لهذه المهمة الجسيمة (في العام التالي) بعدما انصرف عن رسول الله القومُ الذين حضروا بيعةَ العقبة الأولى (وكانوا في ذلك الموسم اثني عشر رجلاً فيما ذُكر في السيرة)، وذلك ليقرئ مَن أسلم من أهل المدينة القرآنَ ويعلمهم الإسلام وليفقههم في الدين، وكان قد أسلم على يدي مصعب من أسلم من زعماء القوم (أوسِهم وخزرجِهم)، وهو ما مهد سريعاً لإيجاد الرأي العام والحاضنة الشعبية لدعوة الإسلام. وكان مما صنع الله لهم وأراده بهم من الخير وأعدَّهم له من نُصرة نبيه وإظهارِ دينه أنَّ هؤلاء الأنصار قدِموا مكة بعد عام آخر، أي في الموسم الذي بايعوا فيه رسول الله بيعةَ العقبة الثانية (وهم أكثر من سبعين)، وقد صلَّوا وفقهوا، وفيهم أشرافهم وكبراؤهم ومَن يمثل القومَ من الأسياد والقادة والزعماء (بالمعنى السياسي والعسكري)، وهم حينئذٍ، بناء على ما أنجزه مصعب رضي الله عنه في المدينة، على أتم استعداد للقيام معه على من خالفه من الناس فيما أمره ربه بتبيينه من هذا الدين وإيصاله إلى الناس، وهو ما كان يعني قيام كيان المسلمين (أي الدولة) ويعني أيضاً الاستعداد للمواجهة والحرب (أي الجهاد)، فكانت تسمى بيعة الحرب.
ماهية الدولة التي ينشدها حزبُ التحرير
من كل ما سبق يتبين أن دولة الخلافة التي يعمل لها حزبُ التحرير منذ عقود دون كلل ولا ملل، وعلى رأسه الآن أميرُه الحالي الشيخ عطاء بن خليل الرشتة، حفظه الله، إنما هي تلك الدولة الإسلامية الحقيقية غير المشوَّهة، والتي تقوم على موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، أي تلك الدولة التي تُعلي كلمةَ الله حقيقةً وتطبق الإسلام تطبيقاً حقيقياً يُنهي نفوذ الغربِ في بلاد المسلمين، ويمنع تغلغلَ نفوذ الأعداء في الأمة مجدداً. هي تلك الدولة التي سوف تجسد وحدةَ المسلمين وتُحسن الرعايةَ وتعيد للأمة عزتها ورفعتها، هي تلك الدولة التي تُذل الكفرَ وأعوانه وتُعز الإسلامَ وأهله. هي تلك الدولة التي تلغي الوطنيات والقوميات وكل الحواجز التي صنعها المستعمِر بين المسلمين في بلادهم. هي تلك الدولة التي ستغير وجهَ العالم إذ لن تقيم وزناً لمنظمة الأمم المتحدة، ولا لصندوق النقد الدولي، ولا لغيره من المؤسسات الاستعمارية الغربية. هي تلك الدولة التي ستُلغي الجامعة العربية، وتزيل الأنظمة العميلة في البلاد الإسلامية. هي تلك الدولة التي سوف تزيل (إسرائيل) وتعيد فلسطين إلى أصالتها جزءاً من الدولة الإسلامية يقع في الصميم، في عقر دار الخلافة. هي تلك الدولة التي سوف تغير الجغرافيا رغم أنف الأعداء، وترفع رؤوسَ المسلمين – جميع المسلمين – في العالم، وتقهر أعداء الله ورسوله. هي تلك الدولة التي تحمل الهدايةَ والنور إلى الناس كافة… هي تلك الدولة التي سوف تُبدع في مجالات العلم والصناعة والزراعة على أعلى مستوى… هي تلك الدولة التي سيكون لها واقع على الأرض من حيث وجود الحاضنة الشعبية وسند الأمة، ومن حيث وجود الرعاية والقوة والمنعة والجغرافيا والجيش… وكل مقومات الدولة.
بهذه الميزات والمواصفات يجب أن يقيس المسلمون اليوم ما يجري في الساحة في بلادهم مع ما تُعلنه التنظيمات والحركاتُ المشبوهة أو المخترَقة. لاسيما تلك التي صُمِّمت خصيصاً لتقدِّم الخدمات المجانية لأعداء الأمة، أو تلك التي تتناغم تحركاتها على الأرض إلى حد بعيد مع ما يريده «المجتمع الدولي» ومع ما تريده أميركا تحديداً. ومن هذه الزاوية أيضاً وجب على المسلمين في هذه الأيام إدراك حقيقةُ الموقف في بلاد المسلمين، وفي بلاد الشام تحديداً، التي تنطق من دون شك بأن إسلاميةَ انتفاضة وثورة الشام باتت تؤرق الغربَ وتخلط حساباتِ «المجتمع الدولي» وأوراقَ كل المتآمرين من جميع الجهات. وبات لزاماً إدراكُ وجود الإسلام كمحرك أساسي في كل أرجاء البلاد الإسلامية اليومَ. ولهذا أيضاً كان واجباً إدراكُ أن حصولَ هذا الفهم لما يجري في الواقع اليوم خصوصاً على أرض الشام، ووصولُه إلى مجموع الأمة مربوطاً بالمبدأ أي بالإسلام، عبر الاتصال الحي بالفاعلين في الأمة في كل مكان، سيَصُب حتماً في مجمله في إيجاد الرأي العام المطلوبِ والمعوَّلِ عليه في احتضان الأمة للقائمين على المشروع، وإيجادِ الحاضنة الشعبيةِ اللازمةِ شرعاً لقيام الدولة، بما يسبق إمكانيةَ حصار دولةِ الخلافة عند قيامها وإعلانها، ويمنع محاولاتِ مواجهتها وضربها، وهذا هو العمل السياسي المطلوب، بما يجعل من الصعب بل من المستحيل على أعداء الإسلام أن يقلِبوا الأوضاعَ لصالحهم في لحظة استجابة أهلِ النصرة وقيامِ الحكم الإسلامي في المكان الذي يهيئه ربُّ السماوات والأرض لهؤلاء الذين آمنوا وصبروا وثبتوا واتبعوا رضوانَه أن يكون نقطةَ ارتكاز لدعوتهم، ويُعوَّل عليها حقيقةً بعد ذلك في ترسيخ وضع مناقضٍ تماماً لما تريده الدولُ الفاعلة على الساحة الدولية المعاديةُ والمحاربةُ كلها للإسلام (تحت مسمى الإرهاب)، أي القوى الغربية الاستعماريةُ الحاضرة اليومَ بشتى أصناف نفوذها (بما في ذلك العسكري) في كل أرجاء البلاد الإسلامية، بذاتها وبأدواتها وعملائها، هذا الوضع الذي يتمثل في جمع كل قدراتِ وطاقات هذه الأمة الإسلامية الكريمةِ العريقةِ (شرقاً وغرباً) تحت راية واحدةٍ وفي كيان واحد هو الخلافة. هذا الكيان الذي سوف يحمل على عاتقه مهمةَ إيصال رسالةِ الإسلام إلى العالمين. وهذا بالضبط هو الطريق الذي سار ويسير عليه حزبُ التحرير على بصيرة في دعوته منذ نشأته في 1953م إلى هذه الساعة. وكان من أبرز ما تحقق من خلال عمله في الأمة على صعيد الفكر والسياسة اتساعُ الهوة بين شعوب الأمة الإسلامية وحكامها العملاء للغرب، إلى درجة احتدام الصراع في بلاد المسلمين بين الأمة والغرب إلى هذا الحد وبهذا الشكل الذي نراه اليوم، وهو ما يعني عودةَ الأمة إلى الإسلام وقُربَـها من لحظة انعتاقها وتحررها. وكان من أبرز النتائج أيضاً تطلعُ المسلمين اليومَ بشكل واضح إلى العودة إلى الإسلام على مستوى الحكم، أي على مستوى الدولة والمجتمع، وهو ما يعتبره الغرب الاستعماري الكافر خطراً محدقاً.
ولهذا، فإن مما لا يجوز أن يختلف فيه المسلمون اليوم، ومما يجب أن لا يغيب عن أذهانهم لحظةً واحدة، أن الصراع في جوهره في بلادهم إنما هو صراع حضاري وسياسي، وهو في حقيقته بين الأمة وبين أعدائها من الكفار الرأسماليين المستعمرين (الأميركيين والأوروبيين وغيرهم…)، إلا أن هؤلاء الأعداء الغربيين، بفعل تنافسهم فيما بينهم على المصالح والنفوذ في البلاد الإسلامية، وبحكم عدائهم الشديد للإسلام والمسلمين، صيَّروه بالخطط والأساليب السياسية الذكية وبالدسائس والمؤامرات الخبيثة الخفية، نزاعاً مذهبياً أو دينياً أو طائفياً أو عرقياً بين مختلف مكونات الأمة، بحسب ما يُمليه إبقاء هيمنتهم على مقدرات الأمة، وجعلوه بفعل ما يمتلكون من سيطرة ونفوذ في أوساط الأمة الإسلامية، صراعاً قومياً أو وطنياً أو حزبياً، بحسب ما تقتضيه مصالحُهم ومآربهم في البلاد الإسلامية، بحيث تُوظف فيه (إلى حد التناحر والتقاتل) كلُّ هذه الانتماءات المتداخلة، وهو ما نراه اليوم رأيَ العين في جميع أقطارها دون استثناء، ولو بشكل من الأشكال، كما هو مشاهد مثلاً في بلاد الشام وفي العراق وفي اليمن هذه الأيام… يحصل كل ذلك في الأمة الآن بشكلٍ خطيرٍ غاية في الخطورة، بحيث لا ولن ينفعَ معه سوى العودة إلى الإسلام في دولة مبدئية يكون فيها الولاء لله ولرسوله، وتذوب فيها جميعُ هذه الانتماءات جملةً واحدة، وهو ما عاشته الأمة الإسلاميةُ العريقة بالفعل خلال قرون عديدة خلت، وطوال أزمنة مديدة مضت، حتى جاء الاستعمارُ، وحلَّت معه الفتنةُ والفرقة والدمارُ.
وبالخلاصة، فإن الدولةَ في الإسلام هي من أعظم الواجبات، فهي حكم شرعي، وطريقة إقامتها كذلك حكم شرعي. والحال في كافة أقطار البلاد الإسلامية اليومَ أن حكامَها دون استثناء عملاء للاستعمار وللغرب. والحاكم العميل إنما هو حالة شاذة من أنماط الحكم في الدنيا، وهو ما نشاهده اليومَ في البلاد الإسلامية كلِّها، فهو يحكم محكوميه بما يريد أسيادُه في الغرب، موهماً محكوميه أنه يحكمهم بما يريدون هم (ديمقراطية الزيف في الواجهة). وفي هذه الحالة يكون هذا الحاكم في وضع منافقٍ شاذ. وهذا الوضع لا يقدر عليه إلا دجَّال مخادع وعدوٌّ مبين لشعبه ومحكوميه، يُسخر جميعَ مقدرات وثرواتِ شعبه للمستعمِر. عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعيةً يموتُ يوم يموت وهو غاش رعيتَه إلا حرم الله عليه الجنة» (متفق عليه).
والحاصل، إنه لما جاء الوحي من عند الله فيما أنزله على رسوله رحمةً بخلقه، جاء معه الهدى والنور، وتبيَّن به الرشدُ من الغي، وجاءت معه منظومةٌ فكرية وسياسية أخرى، وتصورٌ آخر للحياة ولشكل الحكم في عالم البشر، وهو عالم الفكر السياسي الإسلامي، وهو الفكر المتعلق بنمط الحكم ورعاية شؤون الناس من منظور الإسلام، وهذا تماماً ما جاء به حزب التحرير. وهذا هو نفسه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث صار الإعلان معه صريحاً بين الدعوة لحكمين: إما حكم بما جاء به الوحي وهو في شريعة الإسلام نظامُ الخلافة وليس شيئاً آخر مطلقاً (وهو دار الإسلام)، مهما تغير الظرفُ أو الزمان أو المكان، وفيه السعادة في الدنيا وفي الآخرة. وإما هو حكم أهواء البشر وهو حتماً الحكم بغير ما أنزل الله (وهو دار الكفر)، مهما تعددت صُوَره وأشكاله وتسمياته، حتى وإن بقي المسلمون فيه مسلمين كأفراد، كما هو الحال الآن. وعاقبتُه ضياعُ الدنيا في الحال، والإثم والخسران في المآل، إذ لا يحل شرعاً للمسلمين أن يبيتوا ثلاث ليال بدون خليفة، أي بدون كيان سياسي منبثق من عقيدتهم يجمعهم!! نسأل الله السلامةَ والعافية.
ولهذا فإن ما نراه اليوم يجري في بلاد المسلمين من تسلط قوى الكفرِ جميعاً عليهم على نحو غيرِ مسبوق، إنما هو بسبب أن المسلمين غيَّروا وبدلوا وتحولوا عما جاء به الوحي، وتخلَّوا عن حمل رسالة الإسلام بالطريقة الشرعية بعدما فرطوا في دولتهم التي هي من صميم دينهم، فأصابهم ما هو مشاهدٌ من سوء حالهم اليومَ على كثرتهم؛ كونهم، وهم مسلمون بوصفهم أفراداً، تخلوا عن تطبيق الإسلام بوصفهم جماعةً، وتركوا جلَّ أحكام الإسلامِ بوصفهم أمةً، وعن حمل رسالةِ الإسلام إلى العالم بوصفهم دولةً، إلا أن يعودوا إلى ما جاء به الوحي – وهم إن شاء الله عائدون؛ ولهذا كان العمل لإقامة دولةِ الإسلام في هذا الزمان وفق منهج رسول الله المبيَّن أعلاه، من أعظم القُربات عند الله؛ لأنه جامعٌ لمقتضى شريعة الإسلام كلها. وذلك مصداقاً لقوله تعالى فيمن قامت على أكتافهم دولةُ الإسلام العظيمةُ الأولى في المدينة، التي حملت لواءَ الحق ودعوةَ الإسلام إلى العالم أجمع وإلى الناس كافة: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
ولهذا فإن دعوةَ حزبِ التحرير منذ نشأته إلى هذه اللحظة (لا يضره في ذلك من خالفه) التزمت وتلتزم هذا الطريقَ المستنبطَ من السيرة النبوية بفهم قطعي صحيح يستحيل نقضه، سواء في نظرته لوجوب وجود الدولة في حياة الأمة الإسلامية، أو في نظرته لطريقة إقامتِها وكيفية إيجادها. ولهذا أيضاً صارت رؤيته للواقع – وهو يأمل في كل حين أن يفتحَ الله لهذه الأمة على يديه – أنْ لا إسلام في المجتمع بدون دولة تطبق شريعةَ الإسلام ويكون أساسها عقيدة الإسلام. وبهذا يكون معنى عودةِ المسلمين إلى الإسلام اليومَ في هذا الزمان إنما هو بإقامة دولة الإسلام على أساس عقيدة الأمة ولا ريب، وبالطريقة التي جاء بها الوحي ولا بد، إذْ كلُّها أحكام شرعية واجبة في الإسلام، وهو ما ذُكر في أول الكلام. قال تعالى:
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.