العدد 456 -

السنة التاسعة و الثلاثون،  محرم 1446هـ الموافق آب 2024م

الهجرة النبوية كانت ثمرة طلب النصرة وبيعة العقبة الثانية وحصيلتها كانت إقامة دولة الإسلام

شكلت الهجرة النبوية مفصلًا خطيرًا في طريق الدعوة، عرف المسلمون والكفار معًا آنئذٍ مدى خطورتها، وتعامل كل منهما على مستوى هذه الخطورة.

فالهجرة كانت ثمرة طلب النصرة الذي طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت النصرة تعني عند الرسول صلى الله عليه وسلم البحث عمن يؤمن بدعوته ويحميه وينصره من خارج مكة بعد أن أوصد زعماؤها الأبواب في وجهه. وكانت تعني عند هؤلاء الكفار أن الرسول صلى الله عليه وسلم يفتش عن مكان آخر ليقيم فيه كيانًا جديدًا قائمًا على الإيمان، وبالتالي سيشكل هذا خطرًا على وجودهم وعلى مكانتهم في الجزيرة؛ ولذلك حين حدد الرسول صلى الله عليه وسلم الموعد (زمانًا ومكانًا) لوفد المدينة من المؤمنين من أجل بيعته بيعة العقبة الثانية، وحتى لا يتسرب خبر الاجتماع بهم إلى كفار قريش، قال لهم: “لا توقظوا نائمًا ولا تنتظروا غائبًا” أما هؤلاء الزعماء فقد كانت ردة فعلهم على تسرب خبر بيعة العقبة الثانية عنيفة جدًّا. وكذلك كان تصرفهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه عندما تحقَّقوا من حصولها أنهم اجتمعوا على قتله لمنعه من إقامة دولة الإسلام في المدينة؛ إذًا كفار قريش كانوا يعرفون خطر الهجرة وأرادوا منعها بقوة لارتباطها بإقامة الدولة الإسلامية في المدينة.

والهجرة كما كانت آخر الأعمال في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة الإسلام في مكة، فقد كانت في الوقت نفسه أول الأعمال التي سيستهل بها الرسول صلى الله عليه وسلم مرحلة الدعوة في المدينة، فقد كانت جموع المسلمين تنتظره على أحر من الجمر، وهم استقبلوه استقبالًا يليق بمكانة الرسول ومكانة الدعوة. وهو صلى الله عليه وسلم منذ أول وصوله إلى المدينة تصرف تصرُّف الرسول القائد الحاكم الراعي السائس الذي يقيم المسجد، والسوق، ويؤاخي بين الأنصار والمهاجرين، ويؤلف السرايا ويوجهها في مختلف الاتجاهات، ويبرم وثيقة المدينة، ويحكم في خلافات الناس وفي شؤون حياتهم.  

إن ارتباط الهجرة بالنصرة وبالبيعة بإقامة الدولة الإسلامية هو ارتباط موضوع واحد، وعلى من يريد أن يقف على معاني الهجرة، أن يتناول ما كان يقوم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب النصرة، وكيف تحوَّل معها واقع المسلمين من أفراد مستضعفين في مجتمع كافر يحاربهم إلى أصحاب دولة ناشئة يعملون عن طريقها على استكمال الدين بإقامة حياة المسلمين على الإسلام، ونشره بالدعوة والجهاد؛ من هنا كان تعريف الهجرة لدى المسلمين أنها كانت تعني الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ حيث يحكم المسلمون بالإسلام، ويكون السلطان فيها للمسلمين… وفي قوله تعالى: (وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡقٖ وَأَخۡرِجۡنِي مُخۡرَجَ صِدۡقٖ وَٱجۡعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا ٨٠) [الإسراء: 80] يذكر ابن قيم الجوزية في زاد المعاد عن قتادة قوله: «أخرجه الله من مكة إلى المدينة مُخرج صدق، ونبي الله يعلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل الله سلطانًا نصيرًا، وأراه الله عز وجل دار هجرته وهو بمكة فقال: أريت دار هجرتكم بسبخة ذات نخل بين لابتين»… وكذلك ذكر ابن القيم في زاد المعاد عن ابن عباس قال: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكنّ، فأنزل الله عز وجل: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩) [الحج: 39]. وهي أول آية نزلت في القتال، وإسناده على شرط الصحيحين، ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال: (وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠)[البقرة: 190].

هذه المعاني في الهجرة نراها غائبة اليوم عن أذهان المسلمين وعلمائهم إلا من رحم الله؛ ولذلك اقتصروا على إحيائها باحتفالات، وبإرسال التهنئات والتبريكات، وبكتابة مقالات، والاكتفاء بسرد تفاصيلها بشكل قصصي، لا بشكل تشريعي من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير بما تتطلبه هذه المناسبة من تكليف شرعي عليهم واجب القيام به. ونحن لو عدنا إلى ما كتبه الأوائل في هذه المناسبة لعرفنا كيف أنهم قد أنزلوها منزلتها، ومن ذلك:

* قال البخاري في حديث عن ابن عباس: بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث فيها ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقد كانت هجرته صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم، وذلك يوم الاثنين كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ولد نبيكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ونبِّئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين…». وهذا أيضًا ما ذكره ابن سعد في طبقاته، مع بعض الاختلافات كما أخرج الحديث مسلم في صحيحه.

* لم يكن للتأريخ الهجري وجود في بداية الإسلام، إلا أنه ظهر عقب حادثة حصلت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي يعدُّ أول من استخدم التاريخ الهجري، فقد وصل في سنة 17 من الهجرة خطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مؤرخ في شعبان، وبدوره أرسل للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستفسره عن الكتب التي تصل مؤرخة بالأشهر دون ذكر السنوات، وهو ما من شأنه أن يحدث خلطًا بين الرسائل، فجمع عمر الصحابة للبحث عن حل، فاختلفوا بين من يرى اعتماد تاريخ مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن يرى اعتماد تاريخ وفاته، وبعضهم اقترح العمل بتأريخ الفرس أو الروم، وخلصت مداولات الصحابة إلى إقرار تاريخ الهجرة النبوية الشريفة، بوصفها حدثًا مهمًا في تاريخ الدولة الإسلامية، وفي ذلك قال عمر رضي الله عنه إن “الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل، فأرِّخوا بها”.

* أما كيف تعامل كبار كفار قريش مع حدث بيعة العقبة الثانية، فقد كان بحذر بالغ خوفًا مما سيعقبها من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى المدينة لإقامة دولة الإسلام، فإنهم لما وصلهم خبر اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم مع وفد المدينة إلى الحج جاءهم عدد من كبار قريش، فقالوا لهم: “قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم الحرب منكم، فحلف من هناك – من مشركي أهل يثرب الذين لم يحضروا البيعة وكانوا الأكثر، يزيدون عن خمسمائة – أنه ما كان من هذا الأمر شيء وما علمناه، وصدَقوا؛ فهم لم يعلموا فعلًا، والمسلمون ينظر بعضهم إلى بعض وهم سكوت، وعاد الوفد إلى يثرب، وعلمت قريش بعد ذلك أن عددًا من أهل يثرب أسلموا، فتأكدت شكوكهم، فاشتدُّوا على المسلمين إيذاءً واضطهادًا، وحاولوا إدراك أهل يثرب، إلا أنهم كانوا قد غادروا مكة”.

* إن الهجرة كانت نبأً عظيمًا، ويجب أن يعيه المسلمون على مدار تاريخهم، ولا ينسون ما يحويه من معانٍ وما يتطلبه من التزام… ولو عدنا إلى تفاصيل أحداثه لتبيَّن لنا أنه يقع في صميم الدعوة إلى الله، وأن الوحي كان قريبًا من أحداثه مشاركًا في تشكيلها. ينقل ابن كثير في “البداية والنهاية، الفصل الثالث: تحت عنوان: “باب الهجرة من مكة إلى المدينة” أن الهجرة وتسمية موطنها كان بوحي من الله: “قال الزهري: عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ بمكة، للمسلمين: «قد أريت دار هجرتكم، أُريتُ سَبخة ذات نخل بين لابتين«، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين، رواه البخاري. وقال أبو موسى: عن النبي صلى الله عليه وسلم: »رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب«.

 وفي فصل (سبب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة) يذكر  يذكر ابن كثير التفاصيل المليئة بالأحداث التي تكشف أن كل خاطرة وكل خطوة كان الشرع هو من يهدي إليها؛ وهذا ما يدفع المسلمون اليوم إلى التعامل مع أحداثها بكل جدية ومسؤولية، واستمداد التأسِي بها منها… ومما ذكره رحمه الله (بتصرف):

(- روى أحمد بن حنبل عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأُمر بالهجرة وأُنزل عليه: (وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡقٖ وَأَخۡرِجۡنِي مُخۡرَجَ صِدۡقٖ وَٱجۡعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا٨٠) [الإسراء: 80] قال قتادة: أدخلني مدخل صدق: المدينة، وأخرجني مخرج صدق: الهجرة من مكة، واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيًرا: كتاب الله وفرائضه وحدوده.

– قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه بمكة إلا من حُبس أو افتُتن، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما، وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له: «لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبًا» فيطمع أبو بكر أن يكون.

– فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأَوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارًا وأصابوا منهم منعة… فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمع أشراف قريش في دار الندوة – وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها – يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه. وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ، فلما رأَوه واقفًا على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اتَّعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا. فأُدخل معهم… فتشاوروا، وتعددت آراؤهم، وكان الشيخ النجدي هو من يدير الرأي فيه حتى قرَّ قرارهم على رأي أشار إليه أبو جهل بن هشام حيث قال: نأخذ من كل قبيلة فتىً شابًّا جليدًا نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرَّق دمه في القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا. فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم، قال: يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل هذا الرأي، ولا رأي غيره. فتفرَّق القوم على ذلك وهم مجمعون له… فأتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنتَ تبيت عليه. قال: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: «نَمْ على فراشي وتسجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنمْ فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم». فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده، وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: (يسٓ١ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ ٢ إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٣ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ٤)إلى قوله:(وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ ٩) [يس: 1-9] ولم يبقَ منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب. قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قوله تعالى: (وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠)[الأنفال:30] وقوله: (أَمۡ يَقُولُونَ شَاعِرٞ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَيۡبَ ٱلۡمَنُونِ ٣٠ قُلۡ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُتَرَبِّصِينَ ٣١) [الطور: 30] قال ابن إسحاق: فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عند ذلك بالهجرة…) انتهى الاقتباس (بتصرف) من ابن كثير.

هذا ما كان من تصرف الكفار تجاه الهجرة، وما كانت تحمله من حذر وخوف على أنفسهم من هذا الذي أقدم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهم لم يكونوا يتعاملون معه إلا على أساس أنه بالنصرة والبيعة والهجرة إنما يريد صلى الله عليه وسلم إقامة دولة، فلاحقوه، وضيَّقوا عليه حتى وصلوا إلى باب الغار الذي كان فيه، ثم صرفهم الله عنه، ورصدوا له لمن ينال منه الجوائز حتى وصل إليه سراقة؛ ولكن الله سبحانه وتعالى صرفه عنه. وهنا يُذكر أن وعد الرسول صلى الله عليه وسلم لسراقة بسواري كسرى، بعد أن منع الله سبحانه رسوله منه، كان له مغزاه ويختصر المشهد كله، فقد تكلم معه صلى الله عليه وسلم كلام رسول ورئيس دولة حين وعده بسواري كسرى، وهذا يكشف أن حقيقة الصراع في هذا المشهد يدور حول محاولة قريش منع الرسول صلى الله عليه وسلم من إقامة الدولة الإسلامية، ويكشف أن الإسلام ستكون له دولته التي هي أكبر من إمبراطورية كسرى، وسيكون له جيشه الذي يهزم جيشها ويقتل حاكمها، وسيكون الإسلام هو وارثها.

هناك سؤال يرد يتطلب الإجابة عليه: من المسؤول عن عدم اهتمام المسلمين بهذه المناسبة على المستوى المطلوب؟ والجواب: هم العلماء. فالمسلمون حقيقة تبع لعلمائهم. فالعلماء جعل الله لهم سلطانًا غير متوَّج على المسلمين باتباعهم لهم فيما يفتونهم به، وعلى الحكام فيما يمكن أن يشكلوا به مع المسلمين من قوة شعبية وضغط عام بتأييدهم لهم على الحكام، وهنا ينطبق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: فيما رواه أبو داود: “كلا والله، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونًّ عن المنكر، ولتأخذنَّ على يد الظالم ولتأطرنَّه على الحق أطرًا، ولتقصرنَّه على الحق قصرًا، أو ليضربنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننَّكم كما لعنهم!”.

وهناك سؤال آخر: لماذا كل هذه المعاني التي لا تغيب تفاصيلها عن العلماء لم تأخذ طريقها إلى التأسي بها عند قراءتها بالرغم من الحاجة إلى ذلك في أيامنا هذه؟!… والجواب هو أنه هناك سبب واحد، وهو أن العلماء هم المسؤولون قبل غيرهم عن هذا التقصير في التعامل مع هذا الموضوع وأمثاله؛ وسببه أنهم قد أخذوا علمهم وتخرَّجوا وفق مناهج التعليم الشرعية التي وضعها الغرب وفرضها على المسلمين، فهؤلاء العلماء تعلَّموا الإسلام على الطريقة الغربية التي تفصل الدين عن الدولة، والتي تجعل المسلمين يقصرون دينهم فقط على  العقيدة والأحكام الفردية. أما أحكام الدولة والجماعة فقد أبعدت عن أذهانهم، وأصبحت لا تتابع من قبلهم، وأصبحت وكأنها خارج مسؤوليتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخرجت من دائرة اهتمامهم. وبالتالي أصبحت لا يسأل عنها العامة، باعتبار أن الناس تبع لعلمائهم؛ وعليه، وصار الحكام يحكمون بغير الإسلام ولا يسألهم عن ذلك لا عالم ولا عامي إلا من رحم الله.

وهناك سؤال آخر: هل في موقف العلماء هذا إنكار منهم لتوسع أحكام الإسلام حتى تشمل جميع العلاقات، والتي منها إقامة دولة إسلامية؟!… إن العلماء لا ينكرون أمرًا من أمور الدين، والدليل هو أنهم يستدلون بالنصوص كلها وبمواقف النبي والخلفاء والصحابة كلها، ويفخرون بتاريخهم والذي منه تاريخ الخلفاء والجهاد والفتوح… ولكنهم باتوا يتعاملون معها على أنه تاريخ يُتلى، ويواجهون واقعهم السيئ بالدعاء وبانتظار أن يمدهم الله سبحانه بالفرج؛ ولذلك صار هؤلاء العلماء هم بحاجة إلى من يدعوهم!!.

نعم، إن الهجرة النبوية كانت مرتبطة بالنصرة وببيعة العقبة الثانية وإقامة الدولة الإسلامية، وتعامل معها كفار قريش على هذا الفهم الصحيح، وعلى المسلمين اليوم، علمائهم قبل عامتهم، أن يستفيقوا من غفلتهم عن هذه المعاني التي لا تخدم إلا أعداءهم، وعليهم أن يكونوا على ما كان عليه أوائلهم في فهم الدين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *