بسم الله الرحمن الرحيم
مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) ).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
يُبَيِّن الله في هذه الآيات ما يلي:
-
أن أحبار اليهود والنصارى ورهبانهم يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي الموعود في كتبهم، وهم على يقين كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك فإنَّ فريقاً منهم يكتمون هذا الحق ولا يظهرونه عناداً ومكابرةً.
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) المـراد به أحبـارهم ورهـبـانهم أي علماؤهم بقرينة ( يَعْرِفُونَهُ ) فالمـعـرفة اسـتـدلال بما في كتبهم وهي قرينة على أن المراد بـ( آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) الذين يعلمونه وهم علماؤهم، فهؤلاء معرفتهم حقيقية، أما عوامهم فالمعرفة تقليدية لأحبارهم ورهبانهم.
-
وهنا يذكر الله سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم أن ما يكتمونه هو الحق من ربك، أي معرفتهم بك كما يعرفون أبناءهم – وهو الذي يكتمونه – هو الحق من ربك، فاستمِرَّ موقناً بهذا الحق في كونهم يكفرون بك عنادا أو مكابرة وليس لأنهم لا يعرفونك، فهذا مسطور في كتبهم.
( فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) أي استمِرَّ على كونك من غير الممترين؛ وذلك لأن النهي في اللغة عن أمر ليس عند صاحبه يعني الاستمرار على الحالة التي هو عليها لإفادة التأكيد. فإذا قيل للمتعلم (لا تكن أمياً) فإن هذا يعني تأكيدك عليه أن يستمر على كونه متعلماً، ولا يعني أنه أمي وأنت تدعوه للتعلم.
فالحالة التي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النهي هي (أنه ليس من الممترين) وعليه فالنهي يفيد أن يستمر الرسول صلى الله عليه وسلم على الحالة التي هو عليها وهي كونه صلى الله عليه وسلم ليس من الممترين أي ليس من الشاكِّين.
وهـذا على نحو قولـه سبحـانـه مخـاطبـاً رسـوله صلى الله عليه وسلم ( فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ) القصص/آية86 وكذلك ( وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) القصص/آية87 أي استمر على كونك غير ظهير للكافرين، واستمر على كونك لست من المشركين؛ لأن الحالة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النهي هي كونه ليس ظهيراً للكافرين وكونه ليس من المشركين.
-
ثم يخبرنا الله سبحانه أن كلاًّ من اليهود والنصارى والمسلمين له قبلة يتوجه إليها. ويدعونا سبحانه للتنافس في الخيرات. وتبين الآية كذلك أن لا أحد خارج قدرة الله سبحانه، فالجميع، أينما يكونوا، يجمعهم الله يوم القيامة فيجزيهم بما صبروا، فالله سبحانه لا يعجزه شيء فهو على كل شيء قدير.
( أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ) ( أَيْنَ ) ظرف مكان تضمن معنى الشرط، ( تَكُونُوا يَأْتِ ) فعل وجواب الشرط والمعنى أن الله سبحانه يأتي بكم من أي موضع تكونون فيه لا يعجزه شيء.
-
ثم يؤكد الله سبحانه في الآيتين الأخيرتين التوجه إلى القبلة الجديدة – البيت الحرام – في الإقامة والسفر.
( وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ ) ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ) وهذا التأكيد المتكرر هو لإزالة ما يمكن أن يكون في النفس من أثر بسبب نسخ القبلة الأولى بعد الصلاة نحوها مدة، وبذلك تطمئن النفس وتتوجه حيث أمر الله سبحانه، وتعلم أنه الحق، وأن الله سبحانه يجازيها على كلّ فعل، فهو سبحانه لا يغفل عن شيء بل يحصيه كله ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) آل عمران/آية30 فلا يغفل الله سبحانه عن شيء ( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) البقرة/آية74.
-
كما بينا في الآية السابقة ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ) فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعـو الله سبحانه أن يوجهه إلى الكعبة بدل بيت المقدس ليقطع ما يثيره العرب المشركون، وبخاصة أهل مكة، واليهود من حجج، فقد كان العرب يقولون إن هذا النبي يخالف قبلة أبيه إبراهيم وقومه، وكان اليهود يقولون إن النبي الموعود قبلته الكعبة لا بيت المقدس، وقد استجاب الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وجعل القبلة هي الكعبة ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ).
لقد فرض الله سبحانه القبلة الأولى نحو بيت المقدس، ثم بعد سنين جعلها إلى الكعبة لحكمة يعلمها الله سبحانه، ويمكن أن نلحظ شيئاً منها بتدبر هذه الآيات العظيمة وبخاصة (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ )، وكذلك الآية ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ). فنلحظ بتدبرهما أمرين من هذه الحكمة.
الأمر الأول، وهو: من جانب، ينكشف حال ضعاف الإيمان الذين يجد الشيطان طريقاً إليهم بالإيحاء لهم بأن هذا التغيير في القبلة دليل على عدم صدق هذا النبي فيضطرب إيمان هؤلاء وينكشف حالهم. ومن جانب آخر، يتميز المؤمنون الصادقون، فيطيعون أمر الله مطمئنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الله سبحانه هو صاحب الأمر، وأمره الحق، فتوجههم إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة هو بأمر الله سبحانه، وأمره الحق بلا شك ولا ريب.
هذا أول أمر من الحكمة نلحظه.
وأما الأمر الثاني فهو إظهار حقيقة قول أولئك الكفار من مشركين ويهود، بأنهم لَم يقولوه إلا جدلاً ومكابرةً وليس طلباً للحق، بدليل استمرارهم في التقولات حتى بعد التحويل إلى الكعبة. وهذا ما ذكِر في الآية الكريمة ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) فهؤلاء الظالمون من اليهود والعرب المشركون الذين قالوا الحجج الأولى عادوا يبحثون عن حجج واهية أخرى للعناد المحض، فعاد اليهود بعد تحويل القبلة للقول (ما تحول للكعبة إلا ميلاً لدين قومه وحباً لبلده وليس طاعةً لربه)، وعاد العرب يقولون (إنه علم أن قبلته الأولى خطأ وها هو عاد إلى قبلة آبائه).
هذه جوانب من الحكمة نلحظها بتدبر آيات تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وجوانب أخرى عظيمة علمها عند الله سبحانه.
و(الظالمون) هم الذين يضـعـون الأمـور في غير محلها، ولذلك فهم يحتجون بما لا تقوم به حجة لأجل المحاجة فقط. ويسـمى (حجة) كلّ ما ساقه الخصم على طريق الاحتجاج سواء أكان صحيحاً أم باطلاً على نحو قوله سبحانه: ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)) الشورى/آية16 ونحو قوله سبحانه: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)) آل عمران/آية65، ولذلك أدخلت أقوالهم الواهية تلك في مسمى الحجج لأنهم ساقوها على طريق الاحتجاج.
ثم يختم الله سبحانه الآية بأن لا نخشى أولئك الذين يبحثون عن حجج واهية يسوقونها لمجرد المعاندة، بل نخشى الله سبحانه فهو صاحب الفضل والنعمة، فقد جَعَلنا على الحق المبين في قبلتنا وشريعتنا، وقَطَع ألسنة المتقولين على الإسلام وقبلته فأتم نعمته علينا وهدانا إلى الصراط المستقيم ( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ).
( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) ).
-
إن الله سبحانه قد تفضل على هذه الأمة بما بينه لها من توجه نحو البيت الحرام لقطع الحجة من الكـفار المعاندين، وجـعل ذلك من تمام النعمة عليها مثلما أنعم عليها بإرسال رسول لها منها – محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم – يتلو آيات الله على أمته ويطهرهم من الشرك ويعلمهم القرآن والسنة مبيناً لهم كل ما لا يمكنهم معرفته إلا بوحي من الله سبحانه.
( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا ) متصل بما قبله، والكاف للتشبيه. أي أنعمنا عليكم بالقبلة وقطع محاجة الكفار المعاندين، كما أنعمنا عليكم بإرسال رسول فيكم.
( وَيُزَكِّيكُمْ ) يطهركم من الشرك.
-
وفي الآية الأخيرة يأمر الله عباده أن يذكروه سبحانه بكلّ أنواع الذكر باللسان والقلب والجوارح، وهو يعني الدعوة إلى الإسلام بكلّ ما يرضي الله سبحانه فيجازيهم بالثواب العظيم، وفي الصحيحين “من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه“[1] وأن يشكروه سبحانه على نعمه ولا يجحدوها لتدوم عليهم ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم/آية7.