الأرض المباركة بين ضياع الخلافة، ووجوب عودتها
2024/03/26م
المقالات
1,046 زيارة
حمد طبيب
بيت المقدس
الأرض المباركة فلسطين لها مكانة عظيمة عند أمة الإسلام؛ فهي أرض عزيزة عند الله عزَّ وجلَّ، بشَّر بفتحها من فوق سبع طباق في سورة الإسراء؛ وكانت بشارة فتحها طمأنينة للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في فترة عصيبة من حمل الدعوة، في مكة المكرمة قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة، وأسري بالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم إليها في ليلة الإسراء، قبل فتحها بحوالى أحد عشر عامًا تقريبًا، وأمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الأنبياء جميعًا في ساحة المسجد الأقصى المبارك، وجهَّز الرسول صلى الله عليه وسلم جيشًا جرَّارًا لفتحها قبل وفاته بأيام قليلة، بقيادة الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنه. وأوصى صلى الله عليه وسلم، وهو على فراش الموت، أن ينفذَ بعثُ أسامة بن زيد إلى أرض الشام؛ ومنها الأرض المباركة والمسجد الأقصى المبارك.
وجاء خلفاؤه من بعده فأنفذوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتحت الأرض المباركة، ومنها المسجد الأقصى المبارك، في عهد الخليفة الفاروق رضي الله عنه، وبقيادة أمين هذه الأمة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وأصبح المسجد الأقصى المبارك وأرضه المباركة من حوله أرضًا إسلامية خراجية؛ منذ ذلك التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وظلت أمة الإسلام تحافظ على الأرض المباركة في ظل الخلافة التي فتحتها، وتذود عنها بدمائها جيلًا بعد جيل، حتى وقعت تحت احتلال الكفار البريطانيين سنة 1914م، ثم ما سُمي الانتداب البريطاني بعد ذلك سنة 1920م، وظلت كذلك حتى مكَّن البريطانيون لليهود باغتصابها في ظل هذا الانتداب، ومن ثم أعلنوا قيام كيان يهود سنة 1948م. وما زالت الأرض المباركة تحت اغتصاب اليهود منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا؛ تعاني ما تعاني من ظلم اليهود واعتداءاتهم المتواصلة على أهلها، وعلى مسجدها الأقصى المبارك، وعلى كل مقدِّراتها ومقدَّساتها في كافة الأرجاء.
إن هذه الأرض المباركة هي محلُّ أطماعٍ عند ملة الكفر منذ فتحها في عهد الفاروق رضي الله عنه وإلى يومنا هذا؛ فقد غزاها الصليبيون في حملات متتابعة، واغتصبوها أكثر من مرة منذ الحملة الأولى التي أطلقها البابا أوربان الثاني سنة 1095م، إلى الحملة الصليبية السابعة التي شنَّها الصليبيون سنة 1249م على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا. ثم جاء المغول واغتصبوا أرضها في حملاتهم المتتالية التي عاثت في ديار الإسلام فسادًا وإفسادًا؛ من آسيا الوسطى حتى أرض الشام، ومنها الأرض المباركة (المسجد الأقصى المبارك وما حوله). وقبل الاستعمار البريطاني كانت هناك محاولات متكررة من قبل الحركة الصهيونية؛ لأخذ جزء منها؛ لإقامة وطن قومي لليهود عليها، إلا أنها باءت جميعًا بالفشل في عهد الخلافة.
لقد كانت الخلافة في كافة مراحلها عبر التاريخ درعًا وحارسًا أمينًا على هذه الأرض المباركة، وحتى في أكثر الفترات ضعفًا لم تفرّط الخلافة بهذه الأرض، ودافعت عنها ضد المغتصبين الغزاة. فدافع السلطان عبد الحميد الثاني عنها ضد أطماع هرتزل والحركة الصهيونية. ثم دافعت عنها الخلافة ضد الجيش البريطاني الذي خرج من مصر لغزوها سنة 1914م.
إن الأرض المباركة اليوم تعاني ما تعاني من ظلم اليهود، وقهر اليهود، وتسلط اليهود على رقاب أبنائها. وكان آخر هذا الظلم والقهر والتسلط ما يحدث في غزة هاشم، وفي كافة الأرض المباركة؛ من قتل وتشريد وحصار اقتصادي خانق، ومن هدم وردم، وتخريب للممتلكات والمزارع، ومن اعتداءات على المسجد الأقصى المبارك، ومنع أهله من أداء الصلاة فيه، ومن هدم لمساجد كثيرة وتخريبها وحرقها وبالجملة، قال تعالى: (وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ١١٤) فلقد أفسد اليهود في الأرض، وأكثروا فيها الفساد، وقال سبحانه (وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ )..
إن فساد الكفار الغربيين، ومعهم يهود في الأرض المباركة، لم يقف عند حد القتل وسفك الدماء والهدم والردم، والتشريد واغتصاب الأرض، بل إن المؤامرة على الأرض المباركة أبعد من ذلك بكثير؛ فهي تهدف إلى إحكام طوق الخيانة من جميع جوانبها تجاه الأرض المباركة؛ وذلك بجعل اليهود جسمًا مقبولًا في المحيط الإسلامي، وجعل الدول المحيطة به خدمًا وحشمًا وحارسًا أمينًا عليه، وتطويع الشعوب للقبول بفكرة وجود اليهود على جزء من هذه الأرض المباركة بمباركةٍ ورضًا وطمأنينةٍ. واليوم تزداد هذه الحملة شراسة؛ من أجل تمرير هذا المشروع الإجرامي الخياني تجاه الأرض المباركة وأهلها. وقد خطا الغرب الكافر ومعه كيان يهود وحراسه من حكام المسلمين، خطوات تجاه هذا المشروع، إلا أن الأمة الإسلامية وقفت وما زالت تقف سدًّا منيعًا لمنع تنفيذه، وجعله أمرًا واقعًا.
ومن الخطوات التي قام بها الكفار في طريق هذا المشروع التصفوي الخياني:
1- فصل قضية الأرض المباركة عن محيطها الإسلامي؛ حيث اتخذوا قرارًا في هيئة الأمم المتحدة، ثم في الجامعة العربية، أن الممثل الوحيد لأرض فلسطين وأهلها هي منظمة التحرير الفلسطينية ثم السلطة الفلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو وما تبعها 1993م.
2- إقامة مشاريع السلام الكاذبة: وهذه المشاريع هي مقدمات لجعل اليهود أمرًا واقعًا في أرض فلسطين وبموافقة من أهلها الممثل الشرعي الوحيد حسب زعمهم، لتكون هذه المشاريع الكاذبة مقدمات للتطبيع الكامل مع الأنظمة في العالم الإسلامي. وقد بدأت هذه المشاريع باتفاقية كامب ديفيد الخيانية سنة 1978م، واستمرت في أوسلو 1993م، وفي وادي عربة 1994م، وما زالت أمريكا والدول الكافرة تسعى لإيجاد التطبيع الكامل مع كافة الدول وإقامة المشاريع الاقتصادية المشتركة في الممرات المائية والبرية وإيجاد مصادر للطاقة وتحلية المياه وغيرها.
3- الضغط على أبناء المسلمين بالقتل والتشريد: والحقيقة أن مأساة غزة اليوم تمثِّل هذا الأمر بشكل عملي؛ حيث يسعى الكفار بمساعدة الأنظمة العميلة في بلاد المسلمين لتطويع المسلمين في غزة هاشم لقبول فكرة السلام والتطبيع مع كيان يهود، وذلك كمقدمات لإيجاد الاستقرار في كافة المنطقة عبر ما يسمى كذبًا وزورًا بالدولة الفلسطينية وحل الدولتين وإيجاد التطبيع مع السعودية وباقي الدول في بلاد المسلمين.
4- التطبيع مع الأنظمة العميلة: هذا الأمر خطت الدول الكافرة في طريقه خطوات كثيرة مع الأردن ومصر والمغرب والسودان ودول الخليج، وما زالت تسير في خطوات حثيثة من أجل إكمال هذه الدائرة الخيانية؛ وهي تسعى جاهدة اليوم كما ذكرنا، لإيجاد التطبيع مع السعودية لفتح الباب على مصراعيه لدخول باقي دول العالم الإسلامي!!
5- إنشاء منظمات إقليمية ومشاريع مشتركة: فالدول الكافرة على رأسها أمريكا تسعى لإيجاد الشرق الأوسط الجديد وإيجاد منظمة شرق أوسطية، ويكون كيان يهود جزءًا منها لترسيخ وجوده واغتصابه لأرض فلسطين أولًا، ولقبوله وانخراطه ضمن منظومة المنطقة السياسية. وهذا كله مقدمات تصنعها أمريكا لترسيخ هيمنتها على العالم أولًا، وللوقوف في وجه مشاريع الصين وامتداداتها إلى الشرق الأوسط وقطع الطريق عليها.
6- تسخير المنظمات الدولية والهيئات العالمية لهذا العمل الإجرامي عبر قرارات عديدة: وقد بدأت الدول الكافرة ضمن هذه المنظمات العمل لترسيخ كيان يهود وإعطائه الصفة الشرعية عبر قرارات 242، و338، وغيرها من قرارات، ومعاهدات واتفاقات تحت مظلة هذه المنظمات الدولية التي تسخرها الدول الكافرة من أجل ترسيخ هذا الكيان ظلمًا وزورًا وبهتانًا في بلاد المسلمين!!
إن ما يجري اليوم من مأساة تتفطَّر لها الحجارة الصمَّاء على أرض غزة هاشم هو ضمن هذه الخطط والمشاريع الإجرامية لجعل الناس يقبلون بالحلول التصفوية. وتستخدم أمريكا والدول الكافرة بمساعدة حكام المسلمين كل ألوان القهر والتسلُّط والبطش من أجل هذه الغاية الإجرامية الشيطانية. وإن هذا الإجرام ليعيدنا ويذكرنا بالإجرام الأول الذي اقترفته أيدي الإنجليز من سنة 1920م إلى سنة 1948م. ثم تتابع هذا الإجرام في مجازر متعددة ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء هذه الأرض المباركة في سوق حيفا ودير ياسين وكفر قاسم والطنطورة وقبية ويازور وباب العامود… وغيرها المئات من المجازر والمذابح، منها ما عرف ووُثِّق، ومنها بما بقي طيّ الكتمان والمجهول ولم يعرف، والتي حصلت واقتُرفت على أيدي اليهود؛ بمساندة الغرب وحكام المسلمين وسكوتهم لتهجير أهلها منها!!
إن أمة الإسلام ومنها أهل الأرض المباركة ما زالوا يرفضون أي مشروع للتنازل عن شبر واحد من الأرض المباركة؛ ورغم تكرار المحاولات عبر أكثر من سبعين عامًا؛ إلا أن كل محاولاتهم ومؤامراتهم قد باءت بالفشل الذريع. وإن أمة الإسلام اليوم لتتطلع لتحرير هذه الأرض مرة أخرى من دنس اليهود المعتدين؛ لتعود مرة أخرى إلى حاضرة الإسلام، بل لتكون القلب النابض لأمة الإسلام، والمحرك لها ومركز تطلعاتها إلى المسجد الأقصى المبارك عبر عصور طويلة.
لقد كانت الأرض المباركة شعلة التغيير، ومحرك الأمة عبر عصور الإسلام المتتابعة تجاه الغزو الصليبي الأول والثاني، وعبر الغزو المغولي، وعبر فترات الاستعمار الأول في أوائل القرن الماضي وأواسطه. وإن ما يحصل هذه الأيام من فساد عريض في الأرض المباركة لينذر اليهود بقرب نهايتهم، ويبشر أمة الإسلام بعودتها في ظل الخلافة الراشدة الثانية. فقد أنذر الحق تعالى اليهود إن هم أفسدوا في الأرض المباركة بالعقاب الشديد، والتشريد والتتبير، وبخلعهم من هذه الأرض، تمامًا كما حصل في مرات كثيرة في التاريخ، منذ عهد يوشع بن نون رحمه الله، ودخوله الأرض المباركة، وعبر الممالك التي قامت لليهود في هذه الأرض في عهد داود وسليمان وطالوت وزكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام جميعًا.
فالله سبحانه أنذر اليهود بقوله: (عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا ٨)؛ وعدتم هنا في الآية أي عدتم إلى الفساد كما فعلتم في المرات السابقة، فإننا نعود إلى عذابكم بنفس الطريقة؛ بالتشريد والتتبير والخلع من هذه الأرض الطاهرة. وهذه الأحداث التي تحصل اليوم هي قمة الفساد فلا يوجد فساد أكبر من قتل النفس المؤمنة؛ فالله سبحانه وصف هذا العمل بالفساد قال تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥). والرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكر أن زوال الدنيا أهون عند الله تعالى من سفك دم مسلم. والمسلم حرمته أعظم من حرمة البيت الحرام. قال صلى الله عليه وسلم: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» رواه البيهقي.
وفي الختام نقول: إننا مبشرون بعودة الخلافة التي بها يقضى على فساد اليهود؛ وإن فساد اليهود هو إحدى علامات عودتها بإذن الله، وإننا أيضًا مبشَّرون بعودة هذه الأمة خير أمة على وجه الأرض في ظل الخلافة الثانية لتفتح روما، وتنشر الإسلام في كل الأرض، وتنطلق الجيوش من عاصمة الخلافة الثانية؛ ليتحقق بذلك قوله تعالى: (هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ٣٣). وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ» رواه مسلم
نسأله تعالى أن يكرمنا عما قريب بالخلافة الراشدة على منهاج النبوة وأن يكرمنا بشهود تحرير الأرض المباركة كما حرَّرها صلاح الدين والظاهر بيبرس وقطز من قبل، اللهم آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2024-03-26