بسم الله الرحمن الرحيم
ثابت بن قيس الأنصاري رضي الله عنه
ما أجيزت وصية امرئ أوصى بها
بعد موته وصية ثابت بن قيس
ثابتُ بن قيسٍ الأنصاريُّ سيِّد من ساداتِ الخزرجِ (قبيلة يمنية الأصل ارتحلت إلى المدينة واستقرت وكانت هي والأوس تكوِّنان جمهرة الأنصار ) المرموقينَ، ووجهٌ من وجوهِ يثربَ المَعدودين.
وكان إلى ذلك ذكيِّ الفؤادِ، حاضرَ البديهةِ، رائعَ البيانِ، جهير الصوت، إذا نَطَقَ بَزَّ القائلين (غلبهم وتفوق عليهم) وإذا خَطَبَ أسرَ السامعين. وهو أحدُ السابقين إلى الإسلام في يثربَ؛ إذْ ما كادَ يستمعُ إلى آيِ الذكرِ الحكيم يُرتِّلها الدّاعيةُ المكيُّ الشابُّ مُصعبُ بنُ عُمير بصوته الشجيِّ وجرسهِ النديِّ (النبرة والنغمة) حتى أسرَ القرآنْ سمعهَ بحلاوةَ وقعِه، وملكَ قلبه برائع بيانِه، وخلبَ لبَّه بما حفلَ به من هديٍ وتشريع؛فشرحَ الله صدرَه للإيمان، وأعلى قدرَه ورفعَ ذكرهُ بالانضواءِ تحتَ لواءِ نبيِّ الإسلام.
* * *
– ولما قدمِ الرسولُ صلوات الله وسلامه إلى المدينةِ مُهاجراً استقبلهُ ثابتُ بنُ قيسٍ في جماعة كبيرةٍ من فرسانِ قومهِ أكرمَ استِقبالٍ، ورحّبَ بهِ وبصاحبهِ الصدِّيق أجملَ ترحيبٍ، وخطبَ بين يديهِ خطبةً بليغةً افتتحها بِحمدِ الله عزَّ وجلَّ، والثناءِ عليه، والصلاةِ والسلام على نبيّه… واختتمَها بقوله: «وإنا نعاهِدكَ يا رسولُ الله على أن نمنعكَ ( نحميك ) مِمَّا نمنعُ منه أنفسَنا وأولادَنا ونساءَنا؛ فما لنا لقاءَ ذلك؟». فقال عليه الصلاة والسلام: «الجَنَّة». فما كادت كلمةُ «الجنةِ» تصافحُ آذانَ القومِ حتى أشرقَت وجوهُهم بالفرحةِ وزهتْ قسماتهمْ بالبَهجة، وقالوا: رضينا يا رسولَ الله… رضينا يا رسول الله…
ومُنذ ذلك اليومِ جعَل الرسولُ صلواتُ الله وسلامه عليه ثابتَ بنَ قيسٍ خطيبهُ، كما كان حسانُ بنُ ثابتٍ شاعره. فصار إذا جاءته وُفودُ العربِ لتفاخرهُ أو تناظرهُ بألسنةِ الفصَحَاء المَقاوِل (البلغاء الذين يجيدونه القول) من خطبائِها وشعرائِها، نَدبَ لهم ثابتَ بن قيسٍ لمصاولةِ (لمنازعة ) الخطباءِ، وحسَّانَ بن ثابتٍ لِمُفاخرةِ الشعراءِ.
* * *
– ولقد كان ثابتُ بنُ قيسٍ مؤمناً عميقَ الإيمانَ، تَقيّاً صادق التّقوى، شديدَ الخشيةِ من ربِّه، عظيمَ الحذَرِ من كل ما يغضبُ الله عزّ وجل. فلقد رآه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ هلِعاً جزِعاً (خائفاً محزوناً) ترتعد فرائصه خوفاً وخشية فقال: «ما بكَ يا أبا محمد؟!» فقال: أخشَى أن أكونَ قد هلكتُ يا رسولَ الله…
قال: «ولِمَ؟!». قال: لقد نهانا الله عزَّ وجلَّ عن أن نحبَّ أن نُحمَدَ بما لم نفعل، وأجدُني أحبُّ الحمدَ… ونهانا عن الخُيلاءِ (التكبر) وأجدُني أحبُّ الزَّهوَ (الإعجاب بالنفس). فما زالَ الرسول صلوات الله عليه وسلامه يُهدّئ من روعهِ (يهدئ من خوفه) حتى قال: «يا ثابتُ، ألا ترضى أن تَعيشَ حميداً… وتُقتلَ شهيداً… وتدخُل الجنّة…؟». فأشرقَ وجهُ ثابتٍ بهذه البشرى وقال: بلى يا رسولَ الله… بلى يا رسولَ الله…فقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ لكَ ذلك».
* * *
ولما نَزل قولهُ جَلّ شأنُه: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)[. تجنَّبَ ثابتُ بنُ قيسٍ مجالسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (على الرغمِ من شدّة حُبه له، وفرطِ تعلقِه به) ولزمَ بيته حتى لا يكادُ يبرحه إلا لأداء المكتوبةِ (الصلاة).
فافتقدَه النبيُّ صلواتُ الله وسلامُه عليه وقال: «من يأتيني بخبره؟». فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله.
وذهب إليه فوجَده في مَنزله محزوناً مُنكِّساَ رأسهُ فقال: ما شأنكَ يا أبا محمد؟. قال: شرٌ. قال: وما ذلك؟!
قال: إنّك تعرفُ أني رجُلٌ جهيرُ الصوتِ، وأن صوتي كثيراً ما يعلو على صوتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزَل من القرآن ما تعلمُ، وما أحسَبُني إلا قدْ حبِطَ عملي (ذهب سدى) وأنني من أهلِ النارِ… فرجعَ الرجلُ إلى الرسولِ صلوات الله وسلامه عليه، وأخبره بما رأى وما سمع فقال: «اذهبْ إليه وقل له: «لستَ من أهلِ النَّارِ؛ ولكنكَ من أهلِ الجنة». فكانت هذه بشارةً عُظمى لثابتٍ ظلّ يرجو خيرها طوال حياتهِ.
* * *
هذا وقد شَهدَ ثابتُ بن قيسٍ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المشاهِدَ كلها سِوى بدرٍ، وأقحمَ نفسهُ في غمار المعاركِ طلباً للشهادة التي بشرَه بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فكان يخطئها في كل مرّةٍ، وهي قاب قوسين منه أو أدنى إلى أن وقعت حروبُ الردَّةِ بين المسلمينَ ومُسيلمةَ الكذابِ على عهدِ الصّدّيقِ رضي الله عنه؛ ولقد كان ثابتُ بنُ قيسٍ إذ ذاكَ أميراً لجُند الأنصارِ، وسالمٌ مولى أبي حُذيفةَ أميراً لجُند المهاجرين، وخالدُ بنُ الوليدِ قائداً للجيش كله: أنصاره ومهاجريه ومن فيه من أبناءِ البوادي… ولقد كانتِ الريح (القوة)، والدّولة(النصر والغلبة ) في جُلّ المعارك لمُسيلمة ورجاله على جيوش المسلمين ، حتى بلغَ بهم الأمرُ أن اقتحموا فسطاط (خيمة) خالدِ بن الوليدِ، وهموا بقتلِ زوجتهِ أمِّ تميمٍ، وقطعوا حبال الفسطاط ومزقوه شرَّ ممزقٍ.
فرأى ثابتُ بنُ قيسٍ يومذاكَ مع تضعضع المسلمين ما شحنَ قلبه (ملأ) أسىً وكمداً، وسمع من تنابُزهم (تعايرهم، وتنابز القوم عيّر بعضهم بعضا) ما ملأ صدره هماً وغماً… فأبناء المُدنِ يرمونَ أهلَ البوادِي بالجُبن، وأهلِ البوادي يصفونَ أبناء المُدنِ بأنهم لا يحسنُونَ القتالَ ولا يدرون ما الحربُ… عندَ ذلك تحنَّط ثابت( وضع الحنوط على جسده، والحنوط نبات يذر على جسد الميت، وتحنطه إشارة إلى استعداد للموت) وتكفنَ ووقفَ على رؤوسِ الأشهادِ وقال: يا مَعشرَ المسلمينَ، ما هكذا كنا نقاتلُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بئسَ ما عَودتم أعداءَكم من الجُرأة عليكم… وبئسَ ما عودتم أنفسكم من الانخِذال لهم… ثم رفعَ طرفَه إلى السماءِ وقال: اللهم إني أبرأ إليك مِما جاءَ به هؤلاء من الشّرك (يعني مسيلمة وقومه). وأبرأ إليك مما يصنعُ هؤلاءِ (يعني المسلمين).
ثم هبَّ هبةَ الأسدِ الضارِي كتفاً لكتفٍ مع الغرِّ الميامين: البراءِ بن مالك الأنصاري… وزيدِ بنِ الخطابِ أخي أميرِ المؤمنين عُمر بنِ الخطابِ… وسالمٍ مولى أبي حُذيفة.. وغيرهم وغيرهم من المؤمنين السَّابقين… وأبلى بلاءً عظيماً ملأ قلوبَ المسلمينَ حَميّةً وعزماً، وشحنَ أفئدةَ المشركين وهناً ورعباً. وما زال يُجالدُ في كلِّ اتجاهٍ، ويُضاربُ بكلِّ سلاحٍ حتى أثخنته (أوهنته وأضعفته) الجراح؛ فخَرّ صريعاً على أرضِ المعركةِ قريرَ العين (سعيداً مغتبطاً) بما كتبَ الله له من الشهادة التي بشرَه بها حبيبهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، مثلوجَ الصدرِ بِما حقّقَ الله على يديهِ للمسلمين من النصرِ…
* * *
وكانت على ثابتٍ دِرعٌ نفيسةٌ، فمرَّ به رجلٌ من المسلمين، فنزعها عنهُ، وأخذها لنفِسه. وفي الليلةِ التالية لاستِشهاده رآه رجُلٌ من المسلمين في منامِه فقال للرجل: أنا ثابتُ بنُ قيسٍ، فهل عرفتني؟ قال: نعم. فقال: إني أوصيك بوصيّة، فإياك أن تقول هذا حُلمٌ فتضيّعها… إني لما قتلتُ بالأمسِ مرَّ بي رجلٌ من المُسلمين صفتُه كذا وكذا؛ فأخذَ درعي ومضى بها نحو خبائِه (خيمته) وفي أقصى المُعسكرِ من الجهة الفلانية، ووضعها تَحت قِدرٍ له، ووضع فوقَ القدرَ رَحلاً (ما يوضع فوق ظهر البعير ونحوه ويرحل عليه)، فائتِ خالدَ بنَ الوليد، وقل له: أن يبعثَ إلى الرجُلِ من يأخذ الدرعَ منه فهي ما تزالُ في مكانها…
وأوصيكَ بأخرى، فإياكَ أن تقول هذا حلم نائم فتضيعها… قُل لخالدٍ: إذا قدِمتَ على خليفةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينةِ فقل له: إنّ على ثابت بن قيسٍ من الدّينِ كذا وكذا… وإنّ فلاناً وفلاناً من رقيقه (عبيده) عتيقان (معتوقان محرران) فليقضِ ديني وليُحرر غُلاميَّ… فاستيقظ الرجُلُ، فأتى خالدَ بنَ الوليدِ فأخبرهُ بما سمعَ وما رأى… فبعثَ خالدٌ من يُحضرُ الدرع من عندِ آخذها فوجدها في مكانها وجاءَ بها كما هي. ولما عادَ خالدٌ إلى المدينةِ حدّثَ أبا بكر رضي الله عنه بِخبرِ ثابتِ بن قيسٍ ووصيته فأجازَ الصّدّيقُ وصيته.
وما عُرفَ أحدٌ قبله ولا بعدَه أجِيزت وصيته بعدَ موتهِ سواه…
رضي الله عن ثابت بن قيسٍ وأرضاه، وجعلَ في أعلى عليِّينَ مَثواه.