النظام الاقتصادي الأمثل
2022/12/07م
المقالات
900 زيارة
(قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي) (6)
د. محمود عبد الهادي
أما قواعد هذا النظام التي ترسم سياسته وتحقق أهدافه فإنه يتبين من استقراء الأحكام الشرعية أن النظام الاقتصادي في الإسلام يقوم على ثلاث قواعد هي: الملكية – التصرف في الملكية – توزيع الثروة بين الناس. وسنتناول القاعدة الأولى في هذا العدد على أن تليه القاعدتان الأخريان في العدد اللاحق، إن شاء الله تعالى.
القاعدة الأولى:
الملكية: وينقسم بحثها إلى: معنى الملكية، وأنواع الملكية، وأسباب الملكية.
معنى الملكية
الملكية من حيث هي ملكية هي لله تعالى، قال تعالى: (وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ). فالمال لله وحده. أما ملكية الإنسان للمال فهي حق شرعي جعله الله له بأسبابه. فالملكية الفردية لها معنى شرعي يتبين ببيان كيفية حيازة المال وكيفية التصرف به، فالملكية الفردية ليست ملكية فعلية، وإنما هي حقوق معينة جعلها الشارع للإنسان تعرف باسم حق الملكية. قال تعالى: (وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ). وعلى ذلك فالملكية الفردية هي إذن الشارع بالانتفاع بالعين انتفاعًا معينًا بيَّنه الشرع، فهي حكم شرعي مقدر بالعين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العوض عنه. وعلى ذلك فحق الملكية ليس ناشئًا عن الشيء ذاته أو عن كونه نافعًا، وإنما هو ناشئ عن إذن الشارع. فهي سلطان للفرد على الشيء جعله الله له.
أنواع الملكية
والملكية ثلاثة أنواع: ملكية فردية، وملكية عامة، وملكية دولة. والنوعان الثاني والثالث يرجعان إلى تمكين الأفراد من الانتفاع بالمال وإشباع حاجاتهم وحفظ مصالحهم حسبما بيَّنه الشرع، ومن هذه المصالح تنفيذ أحكام الإسلام في شتى شؤون الحياة وحمل الدعوة. ولا تحصل الملكية أو تنشأ إلا بوجود أسبابها الشرعية، وبحسب هذه الأسباب يتعين نوع الملكية من حيث كونها فردية أو عامة أو ملكية دولة.
أسباب الملكية
بما أن الملكية هي إذن من الشارع، وإذن الشارع إنما يعرف بدليل من الشرع، فقد وضع الشارع العلامات أو الأوصاف التي تدل على كيفية حصول الملكية، وهو ما يعرف بأسباب الملكية. والسبب في المصطلح الشرعي هو: وصف ظاهر منضبط دلَّ الدليل الشرعي على كونه معرِّفًا لوجود الحكم. وسبب الملكية هو هذا التعريف نفسه، أي الوصف الذي يعرِّف على وجود الملكية. ومن أمثلة معنى السبب: هلال رمضان وهلال العيد، ووجود الشمس في قبة السماء، فكل واحد من هذه الثلاثة هو وصف ظاهر منضبط، أو علامة واضحة المعالم والحدود يعرف بها دخول رمضان ووجود حكم الصيام وهو الوجوب، أو دخول شوال وبدء العيد ووجوب الإفطار، أو دخول وقت الظهر ووجود الحكم وهو وجوب صلاة الظهر. فالسبب هو علامة منضبطة تعرِّف على وجود الحكم الشرعي. والسبب لا يثبت سببًا إلا بدليل من الشرع، والحكم الشرعي يوجد عنده لا به؛ لأن الحكم يوجد بدليله، والسبب علامة تعرِّف على وجوده، فوجوب الظهر يوجد عند وجود الشمس وسط السماء ( أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ)، ودلوك الشمس دليل على وجود الوجوب وليس على الوجوب. ومن أمثلته في موضوعنا وهو الملكية، موت المورث. فالموت وصف ظاهر منضبط، وبحصوله يحصل انتقال ملكية ماله إلى ورثته، وتصبح ملكية الورثة حقًّا شرعيًا. فموت المورث سبب لملكية الورثة. هذا هو معنى السبب وبناءً عليه تبحث أسباب الملكية.
والمقصود بأسباب الملكية هو أسباب تملك المال إنشاءً، فيخرج من بحثها حصول الملكية عن طريق البيع مثلًا؛ حيث يملك أحد المتبايعين سلعة، ويملك الآخر الثمن، فهذا يدخل في التصرف في الملكية وفي تنميتها؛ لأن المال موجود عند الطرفين، ومملوك أصلًا، فهذا مبادلة مال ناشئ بمال ناشئ. وبحث أسباب الملكية ينصبُّ على الأسباب التي تنشىء المال أي ملكيته، أو تنشىء منفعته. ويدخل فيها إجارة الأجير مثلًا، فالأجير يصنع شيئًا أو يقدم خدمة تمكن المستأجر من الانتفاع ويملك بذلك مالًا غير موجود لديه أصلًا وليس مبادلة بمال. فهو مال نشأ لديه، والمستأجر نشأ لديه منفعة مال. وأسباب الملكية هي التي تعين نوع الملكية من حيث كونها فردية، أو عامة، أو ملكية دولة.
الملكية الفردية:
وأسباب الملكية الفردية محصورة في خمسة هي:
العمل.
الإرث.
الحاجة إلى المال لأجـل الحـياة.
إعطاء الدولة من أموالها للرعية.
الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد.
1 – السبب الأول من أسباب التملك: العمل
العمل كلمة واسعة الدلالة. فالعمل مختلف من حيث أنواعه وأشكاله ونتائجه. والشارع نصَّ على أعمال معيَّنة جعلها صالحة لتكون سببًا للتملك، وباستقراء الأحكام الشرعية يتبيَّن أن هذه الأعمال هي:
أ – إحياء الموات: الموات هو الأرض التي لا مالك لها، ولا ينتفع بها أحد، وإحياؤها هو زراعتها أو تشـجيرها أو البناء عليها. قال صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضـًا ميتةً فهي له». وقال: «من أحاط حائطًا على أرض فهي له». وقال: «من سـبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحقُّ به». ومثل الإحـياء التحجير في تملك الأرض الموات.
ب – استخراج ما في باطن الأرض مما ليس من ضرورات الجماعة: وهو الركاز، أي مما ليس حقًّا لعامة المسلمين. فإن مستخرجه يملك أربعة أخماسه ويخرج الخمس زكاة له. أما إذا كان من ضرورات الجماعة فإنه يدخل في الملكية العامة. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: «ما كان في طريق مأتيِّ أو في قرية عامرة فعرَّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فلك. وما لم يكن في طريق مأتيٍّ ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس». ويلحق بأنواع استخراج ما في باطن الأرض استخراج ما في الهواء كأن يستخرج منه الأوكسجين والآزوت. وكذلك استخراج كل شيء أباحه الشرع مما خلقه الله وأطلق الانتفاع به.
ج – الصيد: كصيد السمك واللآلىء والمرجان وغيرها من صيد البحر يملكها من يصيدها. كما هي الحال في صيد الطير والحيوان وما إليها من صيد البر. قال تعالى: (وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ) وقال: (أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُ) وقال: (قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ).
د – السمسرة والدلالة: السمسار اسم لمن يعمل للغير بأجر بيعًّا وشراءً. وهو يصدق أيضًا على الدلال. روى أبو داوود عن قيس بن أبي غرزة الكناني قال: كنا في عهد رسـول الله صلى الله عليه وسلم نسـمَّى السماسرة، فمر بنا رسـول الله صلى الله عليه وسلم فسـمَّانا باسم هو أحسن منه فقال: «يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة».
هـ – المضاربة: وهي أن يشترك اثنان في تجارة، ويكون المال من أحدهما والعمل من الآخر. أي أن يشترك بدن ومال. وأن يتفقا على مقدار معين من الربح، فيملك المضارب المال الذي ربحه من المضاربة بعمله. وهذه من أنواع الشركة. وهي من قبل المضارب عمل وسبب من أسباب التملك، ولكنها بالنسبة لصـاحب المال ليست سببًا من أسباب التملك، وإنما هي تنمية للملكية فتدخل في القاعدة الثانية وهي التصرف في الملكية.
و – المساقاة: وهي أن يدفع الشخص شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره. روى مسلم عن عبد الله بن عمر قال: «عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع». وهي تجوز في ما له ثمر كالنخل والكرم، ولا تجوز فيما لا ثمر له كالصفصاف. أما ما لا ثمر له ولكنه يقصد لورقه كالتوت والورد فإنه تجوز فيه المساقاة.
ز – إجارة الأجير: الإجارة عقد على المنفعة بعوض، وهي تمليك منفعة من الأجير للمستأجر وتمليك مال من المستأجر للأجير. وعقد الإجارة إما أن يقع على منفعة العمل الذي يقوم به الأجير كاستئجار أرباب الحرف والصنائع، وإما أن يقع على منفعة الأجير نفسه كاستئجار الخدمة والعمال. والأجير إما أن يكون خاصًّا كمن يعمل عند أحد الناس بأجر، وكموظفي الحكومة، وإما أن يكون مشتركًا أو عامًا كالنجَّار والخيَّاط والحذَّاء الذي يعمل لجميع الناس. قال تعالى: (فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من بني الديل هاديًا خريتًا، وهو على دين قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث».
والإجارة عقد يشترط فيه رضا العاقِدَين وأهليتهما، ولا بد في إجارة الأجير من تحديد العمل وتحديد المدة وتحديد الأجرة وتحديد الجهد. وبما أن الجهد لا يمكن ضبطه بمعيار حقيقي كان تحديد ساعات العمل أقرب ميزان لضبطه في اليوم الواحد، ويحدد معها نوع العمل كحفر أرض أو طرق حديد أو سوق سيارة…
وكل عمل حلال تجوز الإجارة عليه، ولا تجوز إجارة الأجير فيما منفعته محرمة كحمل الخمر أو عصرها أو حمل خنزير أو ميتة أو كتابة ربا… ولا يشترط في الأجير والمستأجر أن يكونا مسلمين، إلا في أعمال العبادات والقُرَب إلى الله تعالى فيشترط أن يكون الأجير فيها مسلمًا. وذلك كالأذان وكتعليم القرآن والحديث والقضاء. والعلة فيها كونها لا تصح إلا من المسلم.
أما الإجارة على العبادات، سواء أكانت من الفروض أم من النوافل، فإن كانت مما لا يتعدى نفعه فاعله، كحجه عن نفسه، وأداء زكاة نفسه فلا يجوز أخذ الأجرة. وإن كانت العبادة مما يتعدى نفعه فاعله فيجـوز له أخذ الأجـرة، وذلك كالأذان لغيره، وكإمامته غيره، وكاستئجار من يحج عن ميت له، أو من يؤدي زكاته عنه.
2 – السبب الثاني من أسباب التملك: الإرث
وهو ثابت بنص القرآن القطعي، وغير معلل. وهو وإن نصّ على جزئيات ولكن هذه الجزئيات خطوط عريضة. ومن ورث شيئًا ملكه ملكًا مشروعًا.
3 – السبب الثالث: الحاجة إلى المال لأجل الحياة
وذلك أن العيش حق لكل إنسان شرعًا. والسبب الذي يضمن للفرد من رعايا الدولة الإسلامية الحصول على قوته هو العمل، فإن تعذر عليه العمل كان على الدولة أن تهيئه له لأنها المسؤولة عن توفير حاجات الرعية. قال صلى الله عليه وسلم: «فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته». وقال تعالى: (وَفِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ ١٩). وقال صلى الله عليه وسلم: «لا قطع في زمن المجاعة» وقال: «أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعًا فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» وقال: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به». والإمام (أي الدولة) نائب عن الأمة في تنفيذ أحكام الشرع.
4 – السبب الرابع: إعطاء الدولة من أموالها للرعية
وذلك لسد حاجتهم أو للانتفاع بملكيتهم. كإعطائهم لسداد ديونهم أو زراعة أراضيهم. قال تعالى: (وَٱلۡغَٰرِمِينَ ) وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فقد أقطع أبا بكر وعمر، كما أقطع الزبير أرضًا واسعة. وكما أقطع الخلفاء الراشدون من بعده أرضًا للمسلمين. ويلحق بذلك ما توزعه الدولة على المحاربين من الغنائم، وما يأذن به الإمام بالاستيلاء عليه من الأسلاب.
5 – السبب الخامس: الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد
وهو يشمل خمسة أشياء:
أ – صلة الأفراد بعضهم بعضًا، كالهبة والهدية والوصية.
ب – استحقاق المال عوضًا عن ضرر من الأضرار كدية القتيل وديات الجراح.
ج – استحقاق المهر وتوابعه بعقد النكاح.
د – اللُّقَطَة.
هـ– تعـويض الخليفة ومن يعتبر عملهم حكمًا، فإنه لا يكـون مقـابل عملهم، وإنما هو مقـابل حبسـهم عن أعمالهم.
الملكية العامة
جعل الشارع بعض الأعيان والمنافع ملكية عامة، فلا يستطيع أحد من الناس أن يحوزها لنفسه، ولا يحق للدولة أن تؤثر بها أحدًا، أو أن تحميها لنفسها، أو أن تعطي بها امتيازًا لأحد. ويحق لأي فرد من الجماعة الانتفاع بها مهما كان عجزه أو فقره. فالملكية العامة ترجع إلى الأفراد، إذ هي تمكين للجميع من الانتفاع بأعيانها، إما تملكًا للعين كالاحتطاب والأخذ من المياه، وإما انتفاعًا من غير تملك كالانتفاع بالطـرقات أو البحار والشطآن والصيد وما شاكل ذلك. والملكية العامة هي إذن الشارع للجماعة بالاشتراك في الانتفاع بالعـين. وأسباب الملكية العامة هي الأوصاف التي إذا توفَّرت في العين جعلتها ملكية عامة. وهي ثلاثة أنواع:
1 – ما هو من مرافق الجماعة بحيث إذا لم تتوفر لبلدة أو جماعة تفرقوا في طلبها. قال صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار»، وهذه الألفاظ الثلاثة ألفاظ جامدة فلا تعلل، ولكن هناك علة لجعل الناس شركاء في هذه الثلاثة، وهي كون هذه الأشياء مما يحتاجه الناس ولا يستغنون عنه. والدليل هو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أباح للناس أن يمتلكوا الماء في الطائف وخيبر، فدل ذلك على أن المنع هو ليس للماء من حيث هو ماء وإنما لصفة الاحتياج أي لكونه من مرافق الجماعة.
2 – المعادن التي لا تنقطع. فالمعادن قسمان: قسم محدود المقدار، وهذا يملك فرديًّا، وفيه الخمس لأنه ركاز، أو يعامل معاملة الركاز. وقسـم غير محدود المقدار، وذلك كالمناجم وآبار البترول. روى الترمذي عن أبيض بن حمال أنه «وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه الملح، فلما أن ولَّى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعتَ له؟ إنما قطعتَ له الماء العـد، قال: فانتزعه منه». والماء العد الذي لا ينقطع، شبه الملح بالماء العد لعدم انقطاعه.
3 – الأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها. وهي من مرافق الجماعة كالقسم الأول، إلا أنها تختلف عنها في أن طبيعتها لا يتأتَّى فيها أن يملكها فرد، فالقسم الأول يمكن أن يملكه فرد، وأما هذا فيشمل الطرق والأنهار والبحار والبحيرات والأقنية العامة والخلجان والمضائق ونحوها. ويلحق بها المساجد ومدارس الدولة ومستشفياتها والملاعب والملاجىء ونحوها.
ملكيـة الـدولـة
وهي تعود على جميع المسلمين وجميع أفراد الرعية؛ إلا أن عودتها على الأفراد لا تقتصر على ملكية أعيانها أو منافعها، أي أنها تتجاوز موضوع النظام الاقتصادي لتتناول رعاية شؤون الناس عمومًا، سواء في موضوع الاقتصاد أم غيره ،كحفظ تطبيق النظام وحمل الدعوة والجهاد.
وأسباب ملكية الدولة هي أوصاف إذا توفَّرت في طبيعة المال أو في أعيانه أخرجته من كونه ملكية فردية أو ملكية عامة وجعلته ملكية دولة.
وملكية الدولة هي أموال داخلة في الملكية الفردية وليست من الملكية العامة، ولكنها تعلق بها حق لعامة المسلمين، فلا تدخل في أي من الملكيتين وتكون نوعًا ثالثًا هو ملكية الدولة. وهو ما كان الحق فيه لعامة المسلمين والتدبير فيه للخليفة يخص بشيء منها بعضهم كما يرى، وذلك كالأموال التي تنفق على إنشاء طرقات ومساجد وملاجىء أو على الصناعة والتدريب ومراكز الأبحاث العلمية وعلى الجهاد ونحوها، أو ما تعطيه الدولة لبعض الأفراد لكفايتهم أو إعانتهم أو لإيجاد التوازن الاقتصادي في المجتمع.
وهكذا فهي أموال تعود منفعتها على الجماعة، وهي تختلف عن الملكية العامة في أن هذه الأخيرة لا يجوز للدولة أن تعطي أصلها لأحد، بينما ملكية الدولة مصرفها موقوف على رأي الخليفة فيما يراه مصلحة للمسلمين، وملكية الدولة هي كالفيء والخراج والجزية، ولا تدخل فيها الزكاة؛ لأن الشرع قد عيَّن مالكها وهو الأصناف الثمانية، وإنما للخليفة أن يتصرف فيها ضمن هذه الأصناف.
والملكيات الثلاث، الفردية والعامة وملكية الدولة قد عيَّنها الشرع كما تبيَّن، فلا يمكن تحويل الملكية الفردية إلى عامة أو إلى الدولة، ولا الملكية العامة إلى ملكية دولة. ولا يخرج شيء من يد إلى يد إلا بحق شرعي. وعلى ذلك فالتأميم وهو تحويل الملكية الفردية إلى ملكية دولة لا وجود له في الإسلام. وكذلك الخصخصة أو التخصيص إذا كان بمعنى تحويل الملكية العامة إلى ملكية فردية، أو إعطاء امتيازات بها لأحد، فهو أمر غير شرعي. وإنما هذه أمور تحصل في النظم الاشتراكية أو الرأسمالية، وفي النظم التي تتصرف في الملكية العامة وفي الملكية الفردية وكأنها ملكية دولة.
ويجوز للدولة أن تحمي من الملكية العامة ومن الأرض الموات لأجل مصالح تعود على عموم المسلمين، وليس لأفراد أو جهات معينة من جماعة المسلمين أو من رعايا الدولة. وذلك كأن تخصص بعض الأراضي أو الجبال أو البحار لأجل التدريب العسكري أو المراقبة أو لإقامة مصانع أو منشآت لتكرير النفط أو أن تحمي مساقط المياه لتوليد الكهرباء. فهذه وإن كانت كلها ملكية عامة فإنها تحمى لما ينتج ملكية عامة أو مصالح عامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حمى إلا لله ورسوله» وروى أبو عبيد في الأموال: «أتى أعرابي عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام علام تحميها؟ قال: فأطرق عمر، وجعل ينفخ ويفتل شاربه – وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ – فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك عليه فقال عمر – المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرًا في شبر».
ومما يمكن أن يكون ملكية فردية، وأن يكون ملكية عامة، المصانع، فإذا دخل في الملكية العامة منع الأفراد من تملكه. وذلك يعتمد على نوعية ملكية المواد التي يستخدمها أو ينتجها. فالمصانع يمكن أن تكون ملكية فردية إذا قامت بأموال الأفراد وكانت المواد التي تستخدمها من الملكية الفردية. ويمكن أن تكون ملكية عامة، إذا كان ما تنتجه ملكية عامة كمصانع استخراج النفط وتكريره. ويمكن أن تكون ملكية دولة بمعنى أن تستعملها الدولة لأجل الملكية العامة. ويمكن أن يكون المصنع بحد ذاته ملكية فردية، ولكنه لا يحق لأصحابه استخدام الملكية العامة إلا إذا كان مستأجرًا من قبل الدولة لإنتاج ملكية عامة، باعتبار الدولة مسؤولة عن المسلمين وراعية لهم. فالمصنع يأخذ حكم ما ينتج، سواء من حيث الملكية كأن تكون فردية أو عامة أو دولة، أم من حيث الحِلّ والحرمة كأن يكون مصنعًا للسيارات، أو لتعليب لحم الغنم. وإذا كان المصنع ملكية فردية يصح عمله لإنتاج الملكية العامة إذا كان استئجارًا من قبل الدولة؛ لكي توفر للجماعة الانتفاع بالملكية العامة؛ لأن عليها واجب الرعاية وهي صاحبة الحق فيها، لا أن ينتج لنفسه ملكية فردية. وملكية الدولة والملكية العامة تحتاجان إلى حرزٍ وحفظٍ، ومن هنا نشأ بيت المال.
بيـت المـال
إن ملكية الدولة تعود على الأفراد لحفظ مصالحهم بضمان عيشهم وإشباع حاجاتهم، وحفظ تطبيقهم للنظام وتطبيقه عليهم، وبحمل الدعوة والجهاد. وكذلك الملكية العامة فإنها تعود على الأفراد، وقد جعل الشرع التدبير فيها للدولة لتقوم بحفظها وحفظ أحكامها. وملكية الدولة والملكية العامة، سواء كانت منقولة أم غير منقولة تزيد وتنقص وينتفع بها، فتحتاج إلى حفظ وتدوين وتسجيل. ومن هنا كان بيت المال. وبيت المال هو الجهة التي تختص بكل دخل أو خرج لما يستحقه المسلمون من مال. وعلى ذلك فكل مال استحقَّه المسلمون ولم يتعيَّن مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال حتى ولو تعين مالكه جهةً كالزكاة. وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال.
وواردات بيت المال الدائمة هي الفيء والغنائم والخراج والجزية وواردات الملكية العامة بأنواعها وواردات أملاك الدولة والعشور وخمس الركاز والمعدن وأموال الزكاة. وكذلك من واردات بيت المال ما يأخذه العاشر من الحربيين والأموال الموروثة عمن لا وارث له. وتوضع واردات الزكاة في حرزٍ خاص لأنها لا تصرف لغير الأصناف الثمانية. وكذلك واردات أموال الملكية العامة توضع في مكان خاص ولا تخلط بغيرها لأن أحكام التصرف بها مختلفة عن أحكام التصرف بملكية الدولة. [يتبع]
2022-12-07