من هو الحاكم؟ لمن الحق في التشريع؟ لله تعالى أم للإنسان؟
2022/11/04م
المقالات
1,136 زيارة
ثائر سلامة، أبو مالك
لقد أسسنا تأسيسًا فكريًّا لهذا السؤال في الملخص التنفيذي لهذا الكتاب (الصندوق الأسود للفكر الغربي)، وفي متنه، إذ يكاد يكون السؤال المحوري الذي يدور عليه الكتاب، وأصلنا فيه بيانًا للمشاكل الفكرية العوِّيصة التي تنتج عن وضع التشريع في يد البشر، وها نحن هنا نقدم الحلول التي تعيد المسألة لنصابها الصحيح، ما هي نتائج إعادة وضع التشريع بيد الخالق بدلًا من البشر؟ ولماذا يجب أن نقوم بذلك؟، ولماذا يتحتَّم أخذ الشريعة الإسلامية بذاتها، وبما فيها من خصائصَ معجزةٍ منهجًا لصلاح البشرية، وإحقاق الحق، وإقامة العدل، وللتنظيم الصحيح للحياة؟
تقوم أي دولة في العالم على قاعدتين أساسيتين هما: السيادة والسلطان[1]، والسيادة تعني الجهة التي تتمتَّع بالسلطة العليا في الدولة (صاحبة القول الفصل فيما يقع من تنازع ونقاش في شتى الأمور) من حيث امتلاك صلاحية التشريع، إما عبر تخويلٍ من الإرادات العامة أو عبر تسييرٍ للإرادة العامة بقوانين وتشريعات معيَّنة تفرضها تلك الجهة، وإخضاعٍ لتصرفات الإرادات لتلك السيادة في جميع ما يصدر عن الجهة المالكة للسيادة من تشريعات؛ لينعكس على ممارسة الأحكام في العلاقات جميعها، وفي السلوك الفردي وحتى في العلاقة بالأشياء، وقد كانت هذه السيادة منذُ نَشَأتِ الأممُ إما لله أو للإنسان؛ وعندما تكون السيادة للإنسان فإنها تتخذ أشكالًا عدة، فقد تختزل في شخصٍ كفرعون وهو يقول (أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ)، (مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي)، وقد تكون في الحزب الحاكم كالحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، وكانت قبل الثورة الفرنسية بيد الكنيسة، متذرعة بما يسمى بالحق الإلهي، ثم تحوَّلت بعد الثورة إلى «الشعب» والذي يمثله مجلس النواب التشريعي، وفي الواقع فإن الذين يشرِّعون هم مجموعة من القانونيين والفقهاء الدستوريين ويصوت مجلس النواب على تشريعاتهم، ولا يشرع الشعب كما يُتوهم، وعمومًا مع اختلاف أشكال السيادة فإنها تتفق في جعل صلاحية التشريع للإنسان. وبعد أن بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم حصر السيادة بالله وحده، وأقام دولته على هذا الأساس، واعتبر كل حكم مخالف لهذا الأساس طاغوتًا يجب الكفر به… فمما تقدَّم يتبيَّن أن لصلاحية التشريع والحكم على الأفعال مصدرين لا ثالث لهما؛ فإما لله (الشرع) وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو للإنسان (العقل[2]/ الهوى) مع اختلاف مسمياتها[3].
إن العلوم والفنون، والأدب والفلسفة والتاريخ، والفقه واللغة، ونهضة الإنسان ورقيه، والحضارات التي أنشأها، والمعرفة من حيث هي معرفة، إنما هي نتاج العقل وبالتالي نتاج التفكير، والمعرفة هي جوهر الوجود الإنساني، وثمرة نتاجه العقلي، وسبره لأغوار الوجود، ومعتركات الحياة، وتلك الثمرات هي التي ترفع مقام الإنسان السامي ليصبح أفضل المخلوقات، أو تُرديه ليكون أضلَّ من البهائم؛ تجعله يتَّسق مع ذاته، ويطمئن في سير حياته، أو تهز كيانه من الأعماق، وتسبِّب له القلق والشك والريب؛ تفسِّر له العالم أو تضعه في حيرة.
وكذلك فإن الإنسان مركزيٌّ في هذا الوجود، صُنِعَ الكونُ بما فيه من أفلاك وأجرام ونظام مهيَّأً لاستقبال الحياة، وصُنِعَتِ الحياةُ بما فيها من مدهشات ومعجزات مهيَّأَة لاستقبال الإنسان، فأرقى ما في حلقات الحياة هو الإنسان العاقل، وإنما يرقى هذا الإنسان بما لديه من عقل!
والعقل آلة الإنسان لمعرفة خالقه وإدراك سر وجوده في الحياة، وفضِّ كثير من مغاليق هذا الوجود وتفسيرها بالربط الذكي، والفهم والإدراك، وإنشاء الأفكار، والبحث والاستنباط والاستقراء، والعقلُ مناطُ التكليفِ.
وحيث كان للعقل هذه المكانة الهائلة في «خطة الوجود»، وفي امتياز الإنسان العاقل عن سائر المخلوقات، والاتكال على العقل في إدراك الصلة بالخالق؛ فلا شك أنه آلة بالغة الأهمية، بالغة القدرة، ولا شك أن حكمه الذي سيحكم به في عملية الاستدلال على الخالق أو في تفسير الوجود، ذلك الحكم المبنيّ على الأدلة، والمتصل بالمحدَّدات التي تفيد القطع هو حكمٌ مقطوعٌ بصحته، ويجب أن نأخذه بدون تردد؛ لكن، حين البحث في قدرة العقل على إصدار الأحكام على أمور أقل شأنًا من قضايا الاعتقاد، مثل بعض الأحكام المتعلقة بتنظيم حياة الإنسان، مثل الحكم بحسن فعل ما أو بقبحه، أو بأنه حكم خير أو حكم شر، أو أن عليه ثوابًا أو عقابًا، أو أنه يُصلح معيشة الإنسان أو يُفسدها؟ سنجد أن العقل لا يستطيع أن يصدر مثل هذه الأحكام. ويجدر الانتباه إلى أن العقل لا يستطيع إصدار الأحكام لا أنه ممنوع من إصدارها؛ وذلك لأنه لم يؤت الأدوات والقدرات والمعلومات التي تتوقف عليها استطاعته إصدارها. ولو كان العقل يستطيع التحسين والتقبيح، أو الحكم بالخير والشر، فلا بد قطعًا من أن يتَّفق حكمه مع حكم الشرع، أما وقد اختلفا، فإن هذا يدل دلالة قاطعة على أن العقل لا يمتلك القدرة على إصدار الأحكام، وعليه ففي هذا البحث، حين نقول في أي موضع منه، بأن العقل يمكن أن يخطئ في الحكم، أو أنه يتفاوت، أو أن الحكم ليس للعقل، فإنما نعني الهوى أو الميول لا العقل نفسه؛ لأن العقل لا يمتلك القدرة على الحكم؛ ولكن الإنسان لا يتوقف عن إصدار التشريعات والأحكام، فالإنسان يحكم أهواءه لا عقله[4]، والحضارة الغربية أعلت من شأن العقل حتى جعلته يحكم في كل شيء في مملكة الطبيعة؛ لذلك فإننا إذ نضع المسألة هنا في سياقها الصحيح، فإننا قد نستخدم كلمة العقل ونحن نرد على العقلانية الليبرالية العلمانية؛ لكننا نعني الأهواء والميول.
أما لماذا لا يستطيع العقل إصدار الأحكام (التشريعات) فلأن العقل ولا شك محدود، ومقيَّد، محدود ينحصر تفكيره في دائرة محددة، فلا يستطيع أن يفكر إلا في ما يقع الحس عليه أو يقع على أثره، بشرط وجود الصلة (العلاقة) البيِّنة بينه وبين أثره، كعلاقة التلازم أو السببية أو العلية أو الاقتران أو الاشتراك؛ وإلا تورَّط في التناقض والخطأ، والعقل إن خرج من هذه الدائرة احتاج لأدوات تحصِّنه لتنفي عن حكمه صفة التخريص أو الخطأ. ومحدود بحاجته لمعلومات سابقة تفسر له الواقع، فلا يستطيع إنشاء الأفكار أو الأحكام إلا بوجود تلك المعلومات السابقة.
وهو مقيَّد بحاجته لميزان يحاكم عليه صحة الأفكار وصدق نتائجها، ودرجة قوتها، وتمنعه من المغالطات في الحقائق، وحوافّ تبين له المؤثرات الصحيحة التي ينبغي لها أن تؤثر في حكمه (كالمعلومات السابقة عن الواقع المراد تفسيره)، والأخرى التي عليه أن يستثنيها إبان إصداره للحكم، كي لا تؤثر على سلامته (كالآراء السابقة التي يمتلكها والتي قد تتسلَّط على الحكم فتفسده، وكالوجدان، والمكان والزمان في مثال التشريع)، وحدود إذا ما تجاوزها قد يقع في المحظور فينتج معرفة قد لا تكن صحيحة بالضرورة، كالبحث فيما لا يقع الحس عليه ولا على أثره: (الميتافيزيقيا)؛ ولذلك فهو بحاجة إلى التزام طريقة صحيحة في التفكير فيما وراء الطبيعة ليصل لنتائج صحيحة[5].
وبالنظر المستنير المتفحِّص نجد أن العقل إذ يبحث في الأدلة التي تملأ جنبات الكون فإنه يخوض في الدائرة التي يستطيع الحكم فيها على صدق وصحة وقطع نتائجها، ولديه المعلومات السابقة، والبدَهيات والأصليات التي يرجع إليها لترفع أبحاثه لمرتبة اليقين والقطع، والصدق في الانطباق على الواقع المبحوث، أو تبقيها في دائرة الظن، أو يحكم عليها بالتكذيب؛ لذلك كان يستطيع إصدار الأحكام في قضايا الاعتقاد، مثل بحث وجود الخالق وصحة الصلة بين الخالق والكون والإنسان، سواء صلة التنظيم، أم صلة الإيجاد، أم صلة الأوامر والنواهي عن طريق الرسل.
في حين إنه حين يلج الدائرة المتعلقة بإصدار الأحكام على الأفعال، والمصالح، والعواقب، والخير والشر، والحسن والقبح، والثواب والعقاب، والعدل والظلم، فإنه يمتلك بعض الأدوات، (كفهم طبيعة الواقع)؛ ولكنه لا يمتلك بعضها الآخر الضروري لهذا البحث، (مثل عواقب هذا الواقع المستقبلية، هل سيكون هذا الواقع خيرًا أم شرًّا عليه، هل فيه مصلحته أم ضرُّه؟ وهل تكمن المصلحة في النفع المادي مثلًا، أم في القيمة الأخلاقية أم الإنسانية أم الروحية؟ وهكذا، فهذه مغاليق لا يستطيع العقل فكَّها)؛ لذلك يجب عليه أن يتوقف عن إصدار الأحكام والتشريعات لافتقاره لتلك السمات والمعلومات اللازمة لإجراء العملية الفكرية التي ينتج عنها الحكم والتشريع والتقنين؛ ولذلك، فالإنسان حين يسمح لنفسه أن يشرع، فإنه لا يقوم بإعطاء عقله مهمة التشريع، وإنما يعطيها لأهوائه التي تدفعه لخوض غمرات ما لا يملك العقل قول كلمة فيه، ولميوله التي تسوِّل له بأن المصلحة ما وافقها. وحين نتوقع من العقل أن يشرع، لأنه من أعظم الآلات وأعجب المخلوقات التي خلقها الله تعالى، فإننا كمن يتوقع من سيارة بالغة الكمال والجمال والدقة أن تطير في الهواء، دون أن تمتلك الأدوات التي تتطلبها عملية الطيران.
فحتى نحاكم قدرة العقل على التشريع لا بد من إجراء دراسة تبين امتلاك العقل (أو المتشرع) سمات معينة أولًا حتى يتمكَّن من التشريع وإصدار الأحكام؛ إذ لا بد من وجود سمات معينة يتصف الحكم بها، وسمات معينة، ومعرفة أو علم معين يتسم الحاكم به، ونتائج معينة تنتج عن هذا الحكم حتى نحكم على ذلك الحكم بأنه يصلح لتنظيم حياة الإنسان.
حاجة الإنسان إلى تشريع ونظام حياة: مفاهيم عن الأشياء، ومفاهيم عن الحياة
ينظر الإنسان، إذ تعترضه الأشياءُ التي سخرها الله له في الكون، إليها متفكرًا، فتتكوَّن لديه مفاهيم عنها، (مفاهيم عن الأشياء) تكاد تكون متطابقة عند كل الناس، فالبصل يؤكل والسم يميت لو أكل، والحائط يقي من القيظ، والنكاح يشبع غريزة النوع… ولكن السلوك المطلوب تجاه هذه الأشياء، هل يجوز له أكل البصل أو الخنزير، وهل يجوز له شرب الماء أو الخمر؟ أو أن يُزارع أرضًا؟ أو أن يبيع سلعة كالخمر مثلًا؟ أو أن يشبع غريزة النوع بالزواج أو الزنا؟… هذا السلوك بحاجة لمفاهيم عن الحياة تشكل مقياسًا للإنسان في أفعاله وتصرفاته، أي تتسلَّط هذه المفاهيم عن الحياة على مفاهيم الإنسان عن الأشياء لتضبطها وتنظمها؛ ليرتقي الإنسان عن البهيمية التي تهتم بإشباع الجوعات كيفما اتفق، وبالسلوك دون ضوابط، ودون تنظيم يَصلح الاجتماع معه، وهذه المفاهيم عن الحياة إنما توجَدُ بعد حلّ العقدةِ الكبرى.
ولما كان الإنسان اجتماعيًّا بطبعه، فهو بحاجة لتنظيم الانتفاع بالأشياء، تنظيمًا يجعل سلوكه، أي أفعاله في الحياة التي يشبع بها غرائزه وحاجاته العضوية، موقع رضا للمجموعة التي ينتمي إليها، فكريًّا ومشاعريًّا، فالمجتمع بحاجة لنظام.
كذلك فإن تنظيم المجتمع يفضي لتخفيف ثقل مسؤوليات الإنسان عن إشباع حاجاته الأساسية والكمالية عليه، ويضمن له القدرة على الوصول للسلع والخدمات بصورة يستطيعها، ويمكنه من العيش والرفاه.
لذلك، ومع أن أي إنسان يستطيع التصرف إزاء هذه الأشياء وفق أهوائه؛ لكن هذا لا يوصل إلى رقي الإنسان ونهضته الفكرية، بل قد يتخبط من النقيض إلى النقيض، وقد يكون في حريته في التصرف كيف شاء أذى يوقعه على غيره أو على نفسه، أو منفعة آنية يعقبها ضرر لاحق، أو العكس. ولا يصحُّ العيش من غير اجتماع، ولا يصحُّ الاجتماع من غير تنظيم وحراسة لهذا التنظيم.[6]
يسير كثير من الناس في الحياة على غير هدى، فيقومون بأعمالهم على غير مقياس يقيسون عليه؛ ولذلك تراهم يقومون بأعمال قبيحة يظنُّونها حسنة، ويمتنعون عن القيام بأعمال حسنة يظنُّونها قبيحة؛ فلا بد للإنسان -مسلمًا كان أم غير مسلم- من مقياس يقيس أعماله عليه حتى يعرف حقيقة العمل قبل أن يقدم عليه. فما هي المحدَّدات والسمات التي يجب أن يحوزها حتى ينتج حكمًا صائبًا حسنًا يحقق الخير؟ وما هي المعايير التي تبين لنا صواب أو خطأ تلك المقاييس؟ ولماذا يتوجب وجود مقاييس وسمات ومحدَّدات معينة تتسلَّط على الحكم لتضفي عليه صفة الصحة أو الفساد أو البطلان أو الصلاح؟ ولكن كيف له ذلك على نحو قطعي أو صحيح يعين له دائمًا أن هذا حسنٌ، أو هذا فيه صلاحه اليوم وغدًا، وصلاح مجتمعه، والعقول محدودة ومتفاوتة، والأهواء والميول متحكِّمة، والقضايا التي تتوقَّف عليها صحة الحكم بالصلاح والحسن أو عدمهما متشعبة، أو معلومة بصورة نسبية أو غير كاملة، مما سيؤثر قطعًا على أحكامه، فلربما يجعل الإنسانُ القبيح حسنًا، أو ينصرف عن فعل فيه صلاحه إلى نقيضه للأسباب السابق ذكرها؛ لذا، نجد أن الإسلام قد جعل للإنسان مقياسًا (مصدره الفكرة الكلية أي العقيدة) يقيس عليه الأشياء، تَلافَى بها كلَّ العقبات والثغرات السابق ذكرها، فيعرف قبيحها من حسنها، فيمتنع عن الفعل القبيح، ويقدم على الفعل الحسن. وهذا المقياس هو الشرع وحده؛ فما حسَّنَه الشرعُ من الأفعال هو الحسنُ وما قبَّحَهُ الشرعُ هو القبيحُ. وهذا المقياس دائميٌّ فلا يصبح الحسنُ قبيحًا، ولا يتحول القبيحُ إلى حسنٍ؛ بل ما قال عنه الشرع حسنًا يبقى حسنًا، وما قال الشرع عنه قبيحًا يبقى قبيحًا، ومثل ذلك يقال عن الخير والشر، وهذا المقياس صالحٌ لكل الناس في كل زمان ومكان ينظم حياتهم ومصالحهم ومعاشهم التنظيم الصحيح. بينما تركت العلمانية والليبرالية تنظيم الحياة للبشر، وسندرس المقاييس التي وضعتها أو ارتضتها بإذن الله تعالى.
ولا بد للعقيدة الكلية من أن تحوي إمكانية انبثاق نظام عنها ينظم علاقات المجتمع على أساسه[7]، ليضمن حسن انضباط أفراد المجتمع وفق نظام مخصوص منبثق من عقيدة آمنوا بها، يقضي بين الناس حين تتعارض مصالحهم أو تتضارب نظرتهم لهذا النظام، ويبيِّن لهم ما يصلح مجتمعهم واجتماعهم من نظام، أي يحدِّد لهم ما يسمى بـ«المصلحة العامة»، التي ستكون أساسًا لجلب المصالح ودرء المفاسد بصورة صحيحة لا تتأثر بأهواء فئة على حساب فئة، أو بنظرة فئة قاصرة تتعارض مع نظرة فئة أخرى، وإلا فالعقيدة التي لا ينبثق عنها نظام للحياة أو إن لم يكن النظام المنبثق عنها شاملًا لمناحي الحياة كلها (فوق الأحوال الشخصية والعبادات مثلًا)، لن تعدو أن تكون عقيدة روحية كهنوتية فلا تصلح لتسوس الناس وتهديهم سبيل نهضتهم، ولا تكون كلية إن لم تحوِ مقاييسَ وأحكامًا مرجعية لمشاكل الإنسان والمجتمع، ومن جهة أخرى، فإن المجتمع الذي لا تتصل أنظمته بالعقيدة التي يؤمن بها لن يجد الدوافع الذاتية للالتزام بالأنظمة، وسيعيش تناقضًا بين ما تمليه عليه عقائده وبين ما يعيش من نظم غير متصلة بها.
ولضمان صحة التشريع وصلاحيته لتنظيم حياة الإنسان نبحث المسألة من زوايا ست: زاوية تتعلق بالسمات المتعلقة بالجهة التي ستشرع القانون أو التشريع لضمان صحته وصلاحيته. والثانية تتعلق بفهم الواقع الذي يراد وضع التشريع أو القانون له. والثالثة: المحدّدات والسمات الضامنة لصلاح التشريع المتعلقة بتطبيقه في الواقع ليؤتي ثمارًا معينة تنعكس صحته وصلاحيته على قدرته على إيجادها في الواقع وأن تفضي لتحقيق غايات ومقاصد معينة. والرابعة: الزوايا التي تدرس المؤثرات الضرورية والظنِّية التي لها علاقة بالواقع أو بفهمه أو بتطبيق الحكم. والخامسة: أثر الحالات الطبيعية والاستثنائية على الحكم. والسادسة: ضمان تكامل الحكم والتشريع مع منظومة أحكام النظام الأخرى المتعلقة بمسائل شبيهة أو متعلقة (كمسائل النظام الاجتماعي، أو النظام الاقتصادي) وعدم تعارضه معها ليحقق النظام بمجموعه غايات معينة. ونظرًا لطبيعة مادة هذا الكتاب، وضخامة البحث الذي يتناول الزوايا تلك، فإننا سنمر سريعًا على بعض هذه الزوايا هنا، وقد فصلنا فيها في كتابنا: (معجزة التشريع الإسلامي، خصائص ومقومات).
المحددات والسمات الضامنة لصلاح التشريع والتي يجب أن يمتلكها الشارع
امتلاك السلطة المخوَّلة للحاكم بفرض التشريعات، وبحق التصرف باسم الجماعة، وبالتالي لتتأسَّس على أساس تلك التشريعات السلطةُ التي ستكون مرجعيةً قانونيةً للثواب والعقاب؛ لأن الغرض من التشريعات التزام الفرد والمجتمع تطبيقها؛ وحيث إن «التطبيق هذا منوط بإرادة الفرد الذاتية للطاعة والتنفيذ، فإن إرادته على نفسه مضمونة لو شرع هو لنفسه»[8]، لكننا أثبتنا حاجته لتشريع من غيره لحاجته للاجتماع، وهذا الغير يكون إما جماعة أو دولة أو دينًا؛ لكن حق الطاعة لغيره من البشر مرتهن ومترتّب على امتلاكهم سلطة مخوَّلة لهم من قبله، أو من قبل الجماعة بفرض التشريعات عليه وعليهم، ولما فشلت الديمقراطية والعلمانية والليبرالية بإيجاد تشريع أو دستور يمثل أغلبية مجموع ما يسمى بـ«الإرادة العامة»[9]، كما أثبتنا في ثنايا الكتاب وفي الملخص التنفيذي فيه،
(فحتى لو سلمنا نظريًّا بمبدأ سيادة الأمة، أي بوجود إرادة مستقلة عن إرادة الأفراد، فإنه من الناحية الواقعية لا تبدو إرادة الأمة إلا في شكل إرادة أغلبية أفراد الأمة -الأمر الذي يصعب تحقيقه؛ ولكن حتى على افتراض تحقُّقه- إذًا فالسيادة للأغلبية وليست لكل الأمة، فما هو السبب القانوني في حق إخضاع الأقلية للأغلبية)[10] ثم تجريد الأقلية من حقها في ممارسة أعمال السيادة، فصار الوضع إلى استبداد الأكثرية بالإرادة العامة! وحرمان الأقلية من حقوق ثابتة لهم؛ لذا فقد وقعت الفلسفة الديمقراطية في تناقض حين بنت وجهة نظرها على أساس أن السيادة للشعب كل الشعب مطلقًا، ثم سلبت جزءًا كبيرًا من هذا الشعب حقه في العمل السياسي؛ لذلك كانت الديمقراطية خطرة؛ لأنها تخلع طلاءً شعبيًّا على الأغلال.[11] وفشلت في إيجاد ضمانات تضمن تحقيق التشريع والدستور للخير وللمصلحة العامة بشكل دائمي، وفشلت في الوصول لآلية ترجع فيها للقواعد الشعبية لاستشارتها في القضايا المطروحة وفي محدّدات المصلحة العامة، أي فشلت في ضمان حصول السلطة المشرِّعة على حق التصرُّف باسم الجماعة. وبدلًا من ذلك وضعت التشريع في يد ثلة من الفقهاء الدستوريين والمحامين والأحزاب السياسية الممتلكة لأغلبية برلمانية (والتي أثبتنا أنها لا تمثل أغلبية الناخبين)، فإنها بذا افتقدت عنصر امتلاك المتشرعين لأي سلطة مخوَّلة لهم بفرض التشريعات، الأمر الذي يجعل طاعة القانون والتشريع عند الأفراد غير طبيعية وغير ذاتية، بل غير مترتبة على أي حق امتلكته الطائفة المتشرِّعة، (والتي لا يمكن وصفها في هذا الحال إلا بالدكتاتورية والتسلط على المجتمع)، علاوة على أنها تفتقر إلى الدافع الذي يدفع للطاعة والالتزام. أضف إلى ذلك أن تشريع العبيد بعضهم لبعض فيه اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله؛ لأن التشريع يتضمَّن الخضوع للمشرِّع وطاعته وتسيير السلوك وفق رؤيته، وهو يخالف أن الناس خلقوا أحرارًا؛ بينما هم خلقوا عبيدًا لله. هذا كله بخلاف التشريع الصادر عن الله بحكم أنه خالقٌ ربٌ[12] إلهٌ مالكٌ مدبرٌ ودَيّانٌ.
أن يتصف المتشرِّع بالعصمة عن الخطأ، وهذا يتطلَّب أن يمتلك القدرة على معرفة كل ما يتعلق بالنقاط (ت) و (ث) أدناه، وأن يتصف بالعصمة من التناقض والاختلافات والنقص والخلل والعبثية، وأن يتصف بالقسط والعدل والإنصاف فلا يظلم، وبقدرة التشريع على تحقيق الأمن، وبالموضوعية المتمثلة في البراءة من التحيُّز والهوى والميل مع الأهواء والمصالح الآنية الضيِّقة، فلا يحابي أحدًا على أحد، في حين إننا نجد تأثر المتشرعين البشر -في أحيان كثيرة- بمزاجهم وأهوائهم الشخصية أو أهواء النخب، وبتحيُّزهم العاطفي وغير الموضوعي.
ولا شك أن الموضوعية، وإحقاق الحق الذي يصيب المصلحة العامة ويحدِّدها، ليقوم الناس بالقسط، والعصمة عن الخطأ في إصدار الأحكام تتأثر بتفاوت قدرة العقل على التشريع، أي نظرتها لحل المشاكل وتقنين الحلول، وتتأثر نتيجة تدخل الثقافات والعادات والبيئات والرغبات والأذواق والأهواء، وتفاوت القدرات العقلية، والتخصُّصات، والميول الفطرية والغريزية قوة وضعفًا، وأثر هذا كله في القدرة على التشريع وإصدار الأحكام.
إذًا، تتفاوت قدرات العقول قوة وضعفًا، وتقديرًا للضرر والنفع، وتتأثر الأحكام بالأهواء والميول، وتتفاوت الأحكام بين الناس، فما يراه شخص حسنًا يراه الآخر قبيحًا، وتتفاوت تقدير العقول للكيفيات التي تحقق المصالح بها، وتتفاوت العقول فهمًا لانسجام القوانين مع نسيج القانون العام في الدولة وتحقيقه لمنظومة القيم والمقاصد التشريعية، وتتفاوت العقول في دراسة أثر العوامل الكثيرة والمتشعِّبة المؤثرة في المسألة، وتقدير الترجيح بين بعضها بعضًا، وما يترتب على ذلك من آثار آنية أو لاحقة، وغير هذا من العوامل التي لا ينكر وجودُها، والتي تستوجب الإقرار بعدم قدرة العقل على التشريع وبضرورة منع الأهواء من التشريع.
أن يتصف المتشرع بالعلم المحيط بطبيعة البشر، وبما يَصْلُحُ للناس في معاشهم وآخرتهم، وبما يُصْلِحُهُمْ، ويُصلح معيشتهم وأعمالهم، وبما يُطيق الخلق وما لا يُطيقون، وبما فيه رفعٌ للحرجِ وللعُسْرِ عنهم، وبما يصلح لكل زمان ومكان وحال بصورة تضمن إحقاق الحق وتحقيق العدل دائمًا.
أن يتصف المتشرِّع بالعلم المحيط بطبيعة الواقع الذي يشرِّع فيه، وبالقضايا والظروف والأحوال التي تتوقف عليها صحة الحكم بالصلاح والحسن أو عدمهما، أو تؤثر في الواقع، وهذه القضايا ولا شك متشعِّبة، وربما يتعارض تأثيرها على النتيجة المرجوة فيحتاج للترجيح بينها (فالخمر والميسر فيهما منافع للناس، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما)، أو معلومة بصورة نسبيَّة أو غير كاملة بالنسبة للعقل البشري، والعلم المحيط بطبيعة المشاكل المتنوعة (اقتصادية واجتماعية…إلخ)، الأمر الذي يتطلب اختصاصات تقنية وفنية غير متوفرة في غالب الأحيان في البرلمان، فإن لُجئ في مثل هذه القضايا لأهل الاختصاص فإنهم يفتقرون للسلطان المخول لهم بالحكم، افتقارهم للعصمة من الخطأ، والعصمة من التأثر بالهوى والتحيُّز، افتقارهم لتخويل لهم في البت في هذه القضايا وأن يمثل رأيهم الإرادة العامة، وأيضًا اختلافهم في النظر للقضايا والحلول لها، (ولا أدلُّ على ذلك من تشعب المدارس الاقتصادية وتخبُّطها في حل مشاكل الاقتصاد على الرغم من اختصاص القائمين عليها)، وهذه عقبات خطيرة، ومؤثِّرات حسَّاسة يتوقَّف عليها إحقاق الحق وصلاحية الأحكام، وإدراك صحيح للمصلحة العامة، وهي قضايا لا يحيط العقل بها، مما يستوجب ترك التشريع للخالق.
وهذه المعضلات لا تُحَلُّ بترجيح حكم عقل شخص على عقل شخص آخر أو جماعة، أو اتخاذ عقول فئة مرجعية لباقي العقول، في ظل واقع اعتراء جميع العقول والأهواء لتلك النواقص والحاجات اللازمة لصحة الحكم الناتج، ولا تُحَلُّ المعضلات بوضع إحصائيات عن أثر تشريع ما في المجتمع، كدراسة عدد حالات الطلاق مثلًا؛ لأن الدوافع والظروف والنفسيات وتأثير كل منها على تلك النتائج بالغ التشعب والتعقيد، ولا يكون حل المعضلة بدراسة علمية تجريبية؛ لأن قوام التجربة إعادةُ صناعة الظاهرة الطبيعية داخل المختبر، أو تعريض المادة لظروف معينة ومشاهدة تصرفها تحت تلك الظروف، ومن ثم تكون المشاهدة والاستنتاج، والإنسان ليس كالذرَّة في تفاعله مع الأحداث، ولدى الإنسان القدرة على تصميم الأنظمة السببية الاجتماعية والتحكُّم بها، بخلاف المادة التي يمكن إخضاعها للتجربة، كما أن المقاييس أو الدوافع اللازمة لإصدار الحكم، أو المؤثرة في الفعل مثل الخير والشر، والإرادة الحرة، والمشيئة، والقيم الروحية وما شابه لا يمكن للتجربة أن تقول فيها أي كلمة؛ لأنها قضايا غيبية لا يمكن تكميمُها ولا قياسُها.
[1] السلطان في الإسلام للأمة، يقال في اللغة: سَلَّطهُ، أي أطلق له السلطان والقدرة، وسلطه عليه: مكّنه منه وحكّمه فيه. وتسلّط عليه: تحكّم وتمكّن وسيطر. والسلطان القوة والقهر، ومعنى السلطان: من له ولاية التحكم والسيطرة في الدولة، فإن الحكم والملك والسلطان بمعنى واحد، وهو السلطة التي تنفذ الأحكام، والسلطان لا يتحقق إلا بأمرين: أحدهما: رعاية المصالح، أي مصالح الناس عامة، (نظام الحكم، وأنظمة الدولة) بأحكام معينة، وثانيهما: القوة التي تحمي الرعية، وتنفذ الأحكام، أي الأمان.
[2] باستقراء القرآن الكريم الذي أمر باستعمال العقل والتفكير والتدبر والتأمل للوصول لفهم حقائق الكون والاستدلال على صحة الاعتقاد، نجده لم يذم العقل ولا في موطن واحد، وحين تجرَّأ أقوام على التشريع واستحلال الحرام فإنهم يتبعون أهواءهم، لذلك فالمعضلة هي: لمن التشريع، لله أم للهوى؟ ولا يقال لمن الحق في التشريع: لله أم للعقل!
[3] لماذا الخلافة؟ بقلم: الأستاذ مازن الدباغ جريدة_الرايةبتصرف.
[4] الدكتور محمود عبد الهادي فاعور، بمراجعة مسودة الكتاب.
[5] وقد فصلنا في بحث هذا في كتابنا: (نظرية المعرفة ومناهج التفكير والاستدلال).
[6] خذ مثلًا العقيدة الإسلامية: حيث أن الإسلام جعل العقيدة فكرة كلية، فهي بذا تعطي جوابًا عن كل شيء ليشكل مفهومًا يتخذه الإنسان مقياسًا إزاء الواقع الذي يريد التعامل معه، فيقوده هذا المقياس في غمرات الحياة قيادة فكرية؛ بحيث تعطي مفاهيم العقيدة عن الحياة معالجات لمشاكل الحياة، أي تعطي أحكامًا تنظم للإنسان شؤون حياته؛ من هنا ربط النظام الإسلامي بين الواقع وبين الحلول اللازمة لمعيشة الإنسان.
[7] يعرف المبدأ (الآيديولوجيا) بأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، فالعقيدة الكلية تعطي تفسيرًا كليًّا لما يقع الحس عليه أو على أثره مما في الكون والإنسان والحياة، فإذا ما انبثق عنها نظام شامل لمعالجة مشاكل الحياة والمجتمع، تحولت لمبدأ، يصلح أساسًا لإنهاض المجتمعات.
[8] الدكتور محمد الملكاوي.
[9] المذهب الديمقراطي: (هو الذي يُرجع أصل السلطة أو مصدرها إلى الإرادة العامة للأمة، كما يُقرر بأن السلطة لا تكون شرعية إلا حين تكون وليدة الإرادة العامة للأمة)، الوسيط في القانون الدستوري – للدكتور عبد الحميد متولي، ص125؛ لأنه لا يمكن أن تتمتع الأمة بحقها في السيادة المطلقة إلا إذا كان (القانون هو التعبير عن إرادة الأمة) مبادئ القانون الدستوري – الدكتور السيد صبري، ص52، ط4، 1949.
[10] القانون الدستوري – الدكتور عبد الفتاح سايردار هامش، صفحة 63.
[11] الدكتور محمود الخالدي، الإسلام وأصول الحكم، بتصرف.
[12] يأتي لفظ الرب في العربية بمعنيين: 1) السيد أي المتصرف المدبر، الآمر الناهي، الحاكم المشرع، 2) المالك: أي مالك العين أو الشيء ملكية تعطيه حق التصرف في العين. اُنظر: الحاكمية وسيادة الشرع للدكتور المسعري ص 28-29. قال ابن فارس: “(الرب) الراء والباء يدلُّ على أُصولٍ. فالأول إصلاح الشيءِ والقيامُ عليه. فالرّبُّ: المالكُ، والخالقُ، والصَّاحب. والرّبُّ: المُصْلِح للشّيء. يقال رَبَّ فلانٌ ضَيعتَه، إذا قام على إصلاحها. والرّبُّ: الـمُصْلِح للشّيء. والله جلّ ثناؤُه الرَّبٌّ؛ لأنه مصلحُ أحوالِ خَلْقه”. معجم مقاييس اللغة. و”]رب[ فى الأصل: مصدر بمعنى التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، وذلك يجمع النعم كلها، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل. وقيل: هو وصف من ربّه يربّه، وأصله: ربب ثم أدغم، سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى: ]ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ[. قال ابن جزىّ: ومعانيه أربعة: الإله والسيد والمالك والمصلح، وكلها تصلح فى ]رَبِّ العَالَمِين[، إلا أن الأرجح فى معناه: الإله لاختصاصه باللّه تعالى”. تفسير البحر المديد لابن عجيبة بتصرف. وقال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: “الرب: السيد والمالك والثابت والمعبود والمصلح وزاد بعضهم بمعنى الصاحب”.
2022-11-04