(قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ )
جاء في تفسير الشيخ محمد متولِّي الشعراوي:
قال تعالى: (قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ) [آل عمران: 31] لنا أن نعرف أن كل (قُلۡ) إنما جاءت في القرآن كدليل على أن ما سيأتي من بعدها هو بلاغ من الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، بلاغ للأمر وللمأمور به، إن البعض ممن في قلوبهم زيغ يقولون: كان من الممكن أن يقول الرسول: ( إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ) لهؤلاء نقول: لو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لكان قد أدى (المأمور به) ولم يؤد الأمر بتمامه. لماذا؟ لأن الأمر في (قُلۡ)… والمأمور به (إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ) وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل بلاغ عن الله بدأ بـ (قُلۡ) إنما يبلغ (الأمر) ويبلغ (المأمور به) مما يدل على أنه مبلغ عن الله في كل ما بلغه من الله.
إن الذين يقولون: يحب أن تحذف (قُلۡ) من القرآن، وبدلًا من أن نقول: (قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ) فلننطقها: (ٱللَّهُ أَحَدٌ). لهؤلاء نقول: إنكم تريدون أن يكون الرسول قد أدى (المأمور به) ولم يؤد (الأمر). إن الحق يقول: (إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ) هذه الآية تدل على ماذا؟ إنهم لا بدَّ قد ادَّعوا أنهم يحبون الله، ولكنهم لم يتَّبعوا الله فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم جعلوا الحب لله شيئًا، واتِّباع التكليف شيئًا آخر، والله سبحانه وتعالى له على خلقه إيجاد، وإمداد، وتلك نعمة، ولله على خلقه فضل التكليف؛ لأن التكليف إن عاد على الــمُكَلَّف ولم يعد منه شيء على الـمُكَلِّف، فهذه نعمة من المكلِّف.
إن الحق سبحانه لا يحتاج إلى أحد ولا من أحد. إن الحق سبحانه عندما كلَّفنا إنما يريد لنا أن نتَّبع قانون صيانة حياة الإنسان. وقد ضربنا المثل- ولله المثل الأعلى، بالآلة المصنوعة بأيدي البشر، إن المهندس الذي صمَّمها يضع لها قانون صيانة ما، ويضع قائمة تعليمات عن كيفية استعمالها؛ وهي تتلخص في (افعل كذا) و(لا تفعل كذا)، ويختار لهذه الآلة مكانًا محدَّدًا، وأسلوبًا منظِّمًا للاستخدام.
إذًا، فوضع قائمة بالقوانين الخاصة بصيانة واستعمال آلة ما وطبعها في كراسة صغيرة، هي لفائدة المنتفع بالصنعة. هذا في مجال الصنعة البشرية، فما بالنا بصنعة الله عز وجل؟! إن لله إيجادًا للإنسان، ولله إمدادًا للإنسان، ولله تكليفًا للإنسان، والحق قد جعل التكليف في خدمة الإيجاد والإمداد. إن الحق لو لم يعطِنا نظام حركة الحياة في (افعل) و(لا تفعل) لفسد علينا الإيجاد والإمداد، إن من تمام نعمة الحق على الخلق أن أوجد التكليف، وإن كان العبد قد عرف قدر الله فأحبه للإيجاد والإمداد فليعرف العبد فضل ربه عليه أيضًا من ناحية قبول التكليف، وأن يحب العبد ربه لأنه كلَّفه بالتكاليف الإيمانية.
إنك قد تحب الله، ولكن عليك أن تلاحظ الفرق بين أن تحب أنت الله، وأن يحبك الله. إن التكليف قد يبدو شاقًّا عليك فتهمل التكليف؛ لذلك نقول لك: لا يكفي أن تحب الله لنعمة إيجاده وإمداده؛ لأنك بذلك تكون أهملت نعمة تكليفه التي تعود عليك بالخير، إن نعمة التكليف تعود عليك بكل الخير عندما تؤديها أيها الإنسان، فلا تهملها، ومن الجائز أن تجد عبادًا يحبون الله لأنه أوجدهم وأمدَّهم بكل أسباب الحياة، ولكن حب الله لعبده يتوقف على أن يعرف العبد نعمته سبحانه في التكليف، إن الله يحب العبد الذي يعرف قيمة النعمة في التكليف.
ونحن في مجالنا البشري نرى إنسانًا يحب إنسانًا آخر، لا يبادله العاطفة، والمتنبي قال:
أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون حبيبًا غير محبوب
إن المتنبي يستعيذ أن يحب واحدًا لا يبادله الحب. فكأن الذين يدَّعون أنهم يحبون الله، لأنهم عبيد إحسانه إيجادًا وإمدادًا، ثم بعد ذلك يستنكفون، أو لا يقدرون على حمل نفوسهم على أداء التكليف لهؤلاء نقول: أنتم قد منعتم شطر الحب لله، لأن الله لن يكلفكم لصالحه ولكنه كلفكم لصالحكم؛ لأن التكليف لا يقلُّ عن الإيجاد والإمداد.
لماذا؟ لأن التكليف فيه صلاح الإيجاد والإمداد، والحب- كما نعرف- هو ودادة القلب. وعندما تقيس ودادة القلب بالنسبة لله، فإننا نرى آثارها، وعملها، من عفو، ورحمة، ورضا. وعندما تقيس ودادة القلب من العبد إلى الله فإنها تكون في الطاعة. إن الحب الذي هو ودادة القلب يقدر عليه كل إنسان، ولكن الحق يطلب من ودادة القلب ودادة القالب، وعلى الإنسان أن يبحث عن تكاليف الله ليقوم بها، طاعة منه وحبًّا لله، ليتلقَّى محبة الله له بآثارها، من عفو، ورحمة، ورضا.
والحب المطلوب شرعًا يختلف عن الحب بمفهومه الضيِّق، أقول ذلك لنعلم جميعًا، أنه الحق سبحانه قائم بالقسط، فلا يكلِّف شططًا، ولا يكلِّف فوق الوسع أو فوق الطاقة. إن الحب المراد لله في التكليف هو الحب العقلي، ولا بد من أن نفرق بين الحب العقلي والحب العاطفي، العاطفي لا يفنن له. لا أقول لك: (عليك أن تحب فلانًا حبًّا عاطفيًّا) لأن ذلك الحب العاطفي لا قانون له. إن الإنسان يحب ابنه حتى ولو كان قليل الذكاء أو صاحب عاهة، يحبه بعاطفته، ويكره قليل الذكاء بعقله.
والإنسان حينما يرى ابن جاره أو حتى ابن عدوه، وهو متفوِّق، فإنه يحب ابن الجار أو ابن العدو بعقله، لكنه لا يحب ابن الجار أو العدو بعاطفته، ودليل ذلك أن الإنسان عندما توجد لديه أشياء جميلة فإنه يعطيها لابنه لا لابن الجيران، هناك إذًا فرق بن حب العقل، وحب العاطفة.
والتكليف دائمًا يقع في إطار المقدور عليه وهو حب العقل، ومع حب العقل قد يسأل الإنسان نفسه: ماذا تكون حياتي وكيف.. لو لم أعتنق هذا الدين؟ وماذا تكون الدنيا وكيف، لولا رحمة الله بنا عندما أكرمنا بهذا الدين؟ وأرسل لنا هذا الرسول الكريم؟ إن هذا حديث العقل وحب العقل.
وقد يتسامى الحب فيصير بالعاطفة أيضًا؛ لكن المكلَّف به هو حب العقل، وليس الحب العاطفي؛ ولذلك يجب أن نفطن إلى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين».
وقف سيدنا عمر عند هذه النقطة فقال: أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس؟ إنني أحبك أكثر من مالي، أو من ولدي، إنما من نفسي؟ ففي النفس منها شيء. وهكذا نرى صدق الأداء الإيماني من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكرَّرها النبي صلى الله عليه وسلم ثانيًا، وثالثًا، فعرف سيدنا عمر أنها قد أصبحت تكليفًا، وعرف أنها لا بدَّ أن تكون من الحب المقدور عليه، وهو حب العقل، وليس حب العاطفة. وهنا قال عمر: (الآن يارسول الله؟) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»، أي كمل إيمانك الآن، أي أن سيدنا عمر قد فهم المراد بهذا الحب وهو الحب العقلي. ونريد هنا أن نضرب مثلًا حتى لا تقف هذه المسألة عقبة في القلوب أو العقول- نقول- ولله المثل الأعلى: إن الإنسان ينظر إلى الدواء المر طعمًا ويسأل نفسه هل أحبه أو لا؟ إن الإنسان يحب هذا الدواء بعقله، لا بعاطفته. إذًا، فحب العقل هو ودادة من تعلم أنه صالح لك ونافع لديك وإن كانت نفسك تعافه، وعندما تتضح لك حدود نفع بالشيء فأنت تحبه بعاطفتك؛ إذًا فالمطلوب للتكليف الإيماني الحب العقلي، وبعد ذلك يتسامى ليكون حبًّا عاطفيًّا، وهكذا يكون قول الحق: (إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ) وهذا الحب ليس دعوى. إن الإنسان منا عندما يدَّعي أنه يحب إنسانًا آخر، فكل ما يتصل به يكون محبوبًا، ألم يقل الشاعر: (وكل ما يفعل المحبوب محبوب)
فإن كنتم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبعوه بتنفيذ التكاليف الإيمانية، ولنلتفت إلى الفرق بين اتَّبعني واستمع لي.إن الاتِّباع لا يكون إلا في السلوك، فإن كنت تحب رسول الله فعليك أن ترى ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تفعل مثله، أما إذا كنت تدَّعي هذا الحب، ولا تفعل مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا عدم صدق في الحب، إن دليل صدقكم في الحب المدَّعى منكم أن تتَّبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اتَّبعنا رسول الله نكون قد أخذنا التكليف من الله على أنه نعمة، ونقلبها من الله مع ما فيها من مشقَّة علينا، فيحبُّنا الله؛ لأننا آثرنا تكليفه على المشقة في التكليف.
إن فهم هذه الآية يقتضي أن نعرف أن الحق ينبهنا فكأنه يقول لنا: أنتم أحببتم الله للإيجاد والإمداد، وبعد ذلك وقفتم في التكليف لأنه ثقيل عليكم، وهنا نقول: (انظروا إلى التكليف أهو لصالح من كلَّف أم هو لصالح من تلقى التكليف؟). إنه لصالح المكلَّف أي الذي تلقى التكاليف.
وهكذا يجب أن نضم التكليف للنعم، فتصبح النعم هي (نعم الإيجاد)، و(الإمداد)، و(التكليف)، فإن أحببت الله للإيجاد والإمداد، فهذا يقتضي أن تحبَّه أيضًا للتكليف، ودليل صدق الحب هو قيام العبد بالتكليف، وما دمت أنت قد عبَّرت عن صدق عواطفك بحبِّك لله، فلابد أن يحبَّك الله، وكل منا يعرف أن حبَّه لله لا يقدم ولا يؤخر، لكن حب الله لك يقدم ويؤخر.
إن قول الحق سبحانه وتعالى فيما يعلّمه لرسول الله ليقول لهم: (فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ) أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم المرسل من عند الله جاء بكل ما أنزله الله ولم يكتم شيئًا مما أُمِرَ بتبليغه، فلا يستقيم أن يضع أحد تفريقًا بين رسول الله وبين الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلِّغ عن الله كل ما أنزل عليه. وبعد ذلك يقول الحق: (وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ) إن مسألة (وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ) هذه تتضمن ما تسميه القوانين البشرية بالأثر الرجعي، فمن لم يكن في باله هذا الأمر؛ وهو حب الله، واتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يعرف أن عليه مسؤولية أن يبدأ في هذه المسألة فورًا ويتَّبع الرسول صلى الله عليه وسلم وينفذ التكليف الإيماني، وسيغفر له الله ما قد سبق، وأي ذنوب يغفرها الله هنا؟ إنها الذنوب التي فرَّ منها بعض العباد عن اتِّباع الرسول، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالحكم فيه، وهكذا نعرف ونتيقَّن أن عدالة الله أنه سبحانه لن يعاقب أحدًا على ذنب سابق ما دام قد قبل العبد أن ينفذ التكليف الإيماني، إن الذين أبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجب عليهم أن يفطنوا بعقولهم إلى ما أعلنه الرسول لهم، إن هذا الأمر لا يكون حجة إلا بعد أن صار بلاغًا، وقد جاء البلاغ؛ ولذلك يغفر الله الذنوب السابقة على البلاغ، وبعد ذلك يقول الحق: (وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) إننا نعلم أن المغفرة من الله والرحمة منه أيضًا، وبعد ذلك يقول الحق: (قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ…).
(قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ) وقد قلت من قبل في مسألة الأمر بالطاعة، إنها جاءت في القرآن الكريم على ثلاثة ألوان: فمرة يقول الحق: (أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ ). كما جاء بهذه الآية التي نحن بصدد تناولها بخواطرنا الإيمانية. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه لم يكرِّر أمر الطاعة، بل جعل الأمر واحدًا، هو (أَطِيعُواْ )، فإذا سألنا من الـمُطاع؟ تكون الإجابة. الله والرسول معًا؛ إذًا، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم بلاغًا عن الله (فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ) يعني أن طاعة المؤمنين للرسول من طاعة الله. إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا بطاعته، ولكنه يأمرنا بطاعة الله؛ ولذلك لم يكرِّر الحق أمر الطاعة، إنّ الحق هنا يوحد أمر الطاعة فيجعلها لله وللرسول معًا، إنه يعطف على المطاع الأول وهو الله بمطاع ثانٍ هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق في كتابه العزيز: (قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيۡكُم مَّا حُمِّلۡتُمۡۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهۡتَدُواْۚ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٥٤) [النور: 54]. إن الحق يورد أمر الطاعة ثلاث مرات، فمرة يكون أمر الطاعة لله، ومرة ثانية يكون أمر الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومرة ثالثة يقول الحق: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩) [النساء: 59].
فما مسألة هذه الأوامر بالطاعة؟ إنها طاعة بألوان التكليف وأنواعها، إن الأحكام المطلوب من المؤمنين أن يطيعوا فيها، مرة يكون الأمر من الله قد جاء بها وأن يكون الرسول قد أكدها بقوله وسلوكه، إن المؤمن حين يطيع في هذا الأمر الواحد، فهو يطيع الله والرسول معًا، ومرة يأتي حكم من الله إجمالًا، ويأتي الرسول ليفصِّله (وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ) [النور: 56].
إن الواحد منا لم يكن يعرف كم صلاة في اليوم، ولا عدد الركعات في كل صلاة، ولا نعرف كيفيتها؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فصل لنا الأمر في كل صلاة؛ إذًا، فالمؤمن يطيع الله في الإجمال، ويطيع الرسول في التفصيل. إن علينا أن نلتفت إلى أن هنا طاعتين: الأولى: طاعة الله، والثانية: طاعة الرسول، أما في الأمر المتَّحد، فتكون الطاعة لله والرسول؛ لأنه أمر واحد. وأما الأمر الذي جاء من الله فيه تكليف إجمالي فقد ترك الله للرسول صلى الله عليه وسلم بيانه، فالمؤمن يطيع الله في الأمر الإجمالي كأمر الصلاة وإقامتها، ويطيع الرسول في تفصيل أمر الصلاة وكيفيتها، وأحيانًا يجيء الحكم بالتفويض الأعلى من الله للرسول، فيقول الله لرسوله ما معناه إنك أنت الذي تقرر في هذه الأمور، كما قال الحق: (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ) [الحشر: 7].
لقد ترك الحق سبحانه للرسول أن يصدر التشريعات اللازمة (لاستقامة حياة المؤمنين) لقد أعطاه الحق سبحانه التفويض العام، وما دام سبحانه قد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم التفويض العام، فإن طاعة المؤمن تكون للرسول فيما يقوله الرسول وإن لم يقل الله به. إننا على سبيل المثال لا نجد في القرآن دليلًا على أن صلاة الفجر ركعتان، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فصل لنا الصلاة فعرفنا أن الفجر ركعتان، والظهر أربع ركعات، والعصر مثل الظهر، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات. إن الدليل هو تفصيل الرسول، وقول الحق: (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ) [الحشر: 7]. إنه دليل من القرآن الكريم. هكذا نعرف أن الأمر بالطاعة جاء بالقرآن على ألوان ثلاثة: اللون الأول: إن اتَّحد المطاع (الله والرسول) إن عطف الرسول هنا يكون على لفظ الجلالة الأعلى. اللون الثاني: هو طاعة الله في الأمر الإجمالي وطاعة الرسول في تفصيل هذا الأمر، فإن الحق يقول (أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ) اللون الثالث: وهو الذي لم يكن لله فيه حكم، ولكنه بالتفويض العام للرسول، بحكم قوله الحق: (وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ) هذه طاعة للرسول، ثم يأتي في أمر طاعة أولى الأمر فيقول الحق: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩) [النساء: 59].
إن الحق لم يورد طاعة أولي الأمر مندمجة في طاعة الله والرسول، لتكون طاعة واحدة. لا، إن الحق أورد طاعة أولي الأمر في الآية التي يفرِّق فيها بين طاعة الله وطاعة الرسول، ثم من بطن طاعة الرسول تكون طاعة أولي الأمر. لماذا؟ لأنه لا توجد طاعة ذاتية لأولي الأمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم له الطاعة الذاتية. أما طاعة أولي الأمر فهي مستمدة من طاعة أولي الأمر لله ورسوله، ولا طاعة لأولي الأمر فيما لم يكن فيه طاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
إن الحق يقول: (قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ). إن الله يبلغ الرسول أن يبلغ هؤلاء الذين قالوا: إنهم يحبون الله، بالشروط التي يمكن أن يبادل بها الحق عباده الحب؛ وذلك حتى تتحقق الفائدة للبشر؛ لأن محبة الله تفوق ما يقدمه البشر من حب.
إن اتِّباع الرسول وتنفيذ التكليف بالطاعة لله والرسول، ذلك هو أسلوب تعبير العباد عن حبهم لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، أما إن تولوا، أي لم يستمعوا إليك يا محمد، ولم يتَّبعوك، فإن موقفهم- والعياذ بالله- ينتقل إلى الكفر؛ لأن الحق يقول عن الذين يتولون عن الله والرسول: (فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ)، وليس هناك تفظيع أكثر من هذا. إن كلمة (تَوَلَّوۡاْ) توحي بأن الذين استمعوا إلى أوامر الحق قد نفروا وأعرضوا، فهم لم يأخذوا حكم الله، ثم منعهم الكسل من تنفيذه. لا، إنهم أعرضوا عن حكم الله- والعياذ بالله- ولذلك فقد قلت وما زلت أقول: فليحذر الذين يخالفون عن أوامر الله ألا يفرقوا بين أمر متقبل على أنه الحكم الحق وبين حمل النفس على اتباع الحكم وتنفيذه.
إياك أيها المسلم أن تنكر حكمًا لا تستطيع أن تحمل نفسك عليه أو لا تقدر عليه. إنك إن أنكرت تنقل نفسك من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر والعياذ بالله. ولكن عليك أن تؤمن بالحكم، وقل: (إنه حكم الله وهو صواب؛ ولكني لا أستطيع أن أقدر على نفسي) إن ذلك يجعل عدم تنفيذ الحكم معصية فقط. ويأتي الحق سبحانه بعد أن بيّن لنا أصول العقائد في قوله: (شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ١٨) [آل عمران: 18].
وبعد أن بشر الحق المؤمنين بأنه سبحانه وتعالى يعطيهم الملك الإيماني وأنه الإله القادر، وطلاقة قدرته تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، وبعد أن رسم سبحانه طريق محبته، فإن كنتم قد أحببتم الله للإيجاد والإمداد، وتريدون أن يحبكم فعليكم بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم في تنفيذ التكاليف.
وبعد أن وضع الله سبحانه وتعالى المبادئ الإيمانية عقدية وتشريعية، بعد هذا وذاك يعطي لنا نماذج تطبيقية من سلوك الخلق؛ ذلك أن هناك فرقًا بين أن توضع نظريات ويأتي الأمر للتطبيق فلا تجد من يطبِّق، إن الحق لم يكلِّف شططًا ولا عبثًا، إن الله يقول لنا: أنا كلفت بالتكاليف الإيمانية، ومن الخلق أمثالكم من استطاع أن يسير عليها وأن ينفذها؛ لذلك يعرض الحق لنا النماذج التي توضح ذلك. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى أمة أمية، وكان الإسلام جديدًا عليهم؛ ولذلك يعرض الحق نماذج قديمة، وهذه النماذج تؤكد لنا أننا في دين الإسلام لا نجد تعصبًا؛ لأن الدين الذي جاء من الله على آدم عليه السلام هو الدين الذي جاء به إبراهيم عليه السلام من عند الله، وهو الدين الذي نزل إلى آل عمران وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام.
إن الحق يعطي صفات التكريم لأهل أديان منسوبين إلى ما أنزله الله عليهم من منهج. وجاء الإسلام لينسخ بعضًا مما جاء في تلك الرسالات السابقة ويضعها في منهج واحد باق إلى يوم القيامة، هو منهج الإسلام، إنه مطلق العظمة. ها هو ذا الحق يقول: (إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٣٣).