الأستاذ بسّام فرحات
لطالما مثّلت مسألة الأقليّات أخطر معاول الهدم التي ساهمت في تقويض صرح الدّولة العثمانيّة: فهذه الأخيرة وبحكم امتدادها على ثلاث قارّات (آسيا ـ أفريقيا ـ أوروبا) ضمّت العديد من الأعراق والإثنيّات والمجموعات الدينيّة والمذهبيّة واللغويّة بما ساهم في إثراء مشهدها الاجتماعي والثقافيّ والسياسيّ… إلاّ أنّ الغرب الاستعماريّ حوّل هذا المعطى الإيجابيّ من عامل قوّة وتنوُّع وثراء إلى عامل ضعف واحتراب وانحلال لضرب الدّولة الإسلاميّة وتفتيتها والقضاء عليها، فعمل جاهدًا على قولبة الرّصيد البشري والثقافيّ للأمّة في كنتونات وغيتوات متناقضة وتقسيمه إلى ثنائيّات نمطيّة متنافرة حدّ الشّطط قبل الزجّ به في أتون صراع عرقيّ إثنيّ يكرّس التّمزيق والتّفتيت ويساعده في إحكام قبضته على المنطقة، وبذل مجهودات جبّارة لتركيز مفهوم مسموم للأقليّات بوصفهم مجموعات بشريّة مضطهدة وإثارته كقضيّة إنسانيّة،كما قام بتبنّي بعض الأقليّات ثقافيّا وسياسيّا وعسكريّا وحرّضها على التمرّد والخروج على الدّولة العثمانيّة لإضعافها وتفكيكها…
وحتّى بعد قضائها على الخلافة وتمزيقها للعالم الإسلاميّ لم تتوقّف الدّول الاستعماريّة عن إثارة النعرات العرقيّة والدينيّة واللغويّة، بل أخذت بتغذيتها وتركيزها استعدادًا لمرحلة ما بعد الاستعمار (الاستقلال الصّوريّ) بحيث حرصت في رسم حدود الدويلات القوميّة والوطنيّة الوليدة على جعل عامل الأقليّات سببًا مُولّدًا للمتاعب والقلاقل وبابًا مشرعًا للاقتتال والاحتراب بما يُفضي إلى ديمومة التدخّل في شؤون هذه الدّول والسّيطرة عليها والتحكّم في مقدّراتها وسيادتها وقرارها السياسيّ… بيد أنَّ النّسخة المغاربيّة لهذا المخطّط الاستعماريّ الخبيث تمثّلت في النفخ في رماد النّعرة الأمازيغيّة البربريّة المنطفئة منذ القرن الثّامن للميلاد بما قد يفتح المنطقة على فتنة حمراء دمويّة تزوّد الكافر المستعمر المتربّص بها بمبرّرات قويّة للتأثير في شأنها الدّاخليّ، والدّفع به نحو مزيد من التبعيّة والتمزيق والإضعاف والاستنزاف (والفتنة أشدّ من القتل)… هذه البذرة الخبيثة التي زُرِعت منذ الفترة الاستعماريّة بدأت منذ تسعينات القرن المنصرم في طرح ثمارها المسمومة في تزامن مريب مع الصّحوة الإسلاميّة وبإشراف استعماريّ مكشوف؛ حيث أُدرِجت اللغة البربريّة في مناهج التّدريس، وتُرجمت معاني القرآن الكريم إليها، وخُصِّصت الفضائيّات والإذاعات للنّاطقين بها، كما اكتسحت الأحزاب السياسيّة القائمة على أساس القوميّة الأمازيغيّة الأوساط السياسيّة المغاربيّة بما زاد طين تعفّنها وارتهانها بلّة، وقد انخرطت في هزّ استقرار المنطقة متسلّحة بترسانة من البحوث (التاريخيّة والأركيولوجيّة: أي علم الآثار الذي يعنى بالكشف عن مخلفات الماضي التي تعكس تطور الحياة البشرية، والأنثروبلوجية: أي دراسة جوانب الإنسان في المجتمعات السابقة والحالية) التي تدّعي لنفسها المصداقيّة العلميّة فيما هي تنهل واقعًا من مخيّلة الاستعمار الجدباء في شكل أساطير حوّلها البهرج الأكاديميّ المزيّف والماتراكاج الإعلاميّ المضلّل إلى حقائق تستند إليها النّعرة الأمازيغيّة البربريّة في تأسيس مشروعها الانفصاليّ على أرض الواقع المغاربيّ.
بذرة فرنسيّة مسمومة
لعلّه من فضول القول التأكيد على أنّ النّعرة الأمازيغيّة البربريّة من ألفها إلى يائها ما هي إلاّ إفراز استعماريّ وافد مسقط مفتعل لا عهد للمنطقة المغاربيّة به قبل استحواذ القوّات الفرنسيّة عليها أواسط القرن 19م، فقبل هذا التّاريخ لم يكن البربر أنفسهم واعين بأنّهم ينتمون إلى جنس آخر غير العرب، فهذا المعطى هو ثمرة أبحاث أكاديميّة تاريخيّة وأركيولوجيّة وأنثروبولوجيّة بعيدة عن متناول سواد النّاس أثارتها المدرسة التّاريخيّة الفرنسيّة خدمة للاستعمار وأهدافه التوسّعيّة، ولا يمكن لأيّ باحث جادّ ونزيه أن يزعم أنّ البربر، منذ نهاية القرن 08 الميلادي إلى حدود النّصف الأوّل من القرن 20م، قد أبدوا رغبة في التميّز عن العرب أو عبّروا عن تبرّمهم منهم أو أظهروا بوادر للثّورة عليهم أو استشعروا في أنفسهم كيانًا سياسيّا وثقافيّا مختلفًا عنهم… فبعد صدمة الفتح من (27هـ) إلى (50هـ) ـ وهي ردّة فعل طبيعيّة ناشئة عن غريزة البقاء بالدّفاع عن النّفس، تلقّف البربر الإسلام واحتضنوه لغة وعقيدة وثقافة وحضارة، وفتحوا له صدورهم وقلوبهم وسخّروا له سيوفهم ودماءهم وأرواحهم وأموالهم… وبقدوم موسى بن نُصير (90هـ) حسن إسلامهم وأسقطت عنهم الجزية وأصبحوا جزءًا عزيزًا من الأمّة الإسلاميّة، وانصهروا في بوتقة العقيدة الإسلاميّة العظيمة التي هضمت من قبل وثنيّة العرب وزندقة الفرس وهرطقة الرّوم والقبط وما هزلت ولا صدئت..وإنّ هزيمة البربر العسكريّة أمام الفاتحين لا تفسّر إقبالهم على اعتناق الإسلام وتلبّسهم به وذوبانهم فيه، فقد هزمهم من قبل الفراعنة والقرطاجيّون والرّومان والبيزنطيّون والقوط؛ ولكنّهم ظلّوا مع ذلك محافظين على كيانهم وديانتهم وتميّزهم؛ ولكنّها العقيدة الإسلاميّة في سموّها وقوّتها ومطابقتها للفطرة البشريّة وقدرتها الفائقة على طحن الفوارق العرقيّة والإثنيّة واللغويّة… ولئن عمّ الإسلام جميع البربر، فإنّ التعريب اللّسانيّ تعثّر وتباطأ واستثنى سكّان المناطق المعزولة المنيعة الذين تحصّنوا بها، وحالت تضاريسهم الوعرة دون اختلاطهم بالعرب الفاتحين، فالحاصل والثّابت أنّ العنصر البربريّ هو العمود الفقريّ لسكّان شمال أفريقيا ـ إن لم يكن ذلك عرقًا ودمًا فنسبًا ومصاهرةً ـ وإنّ التّصنيف الثّنائيّ النمطيّ القائم على جنسين (عرب/بربر) الذي أرادته فرنسا قالبًا جاهزًا للفتنة والصّراع ما هو في الواقع إلاّ ثنائيّة من داخل الجنس البربريّ نفسه (بربر ناطقون بالعربيّة/بربر ناطقون بالأمازيغيّة)… وما هي إلاّ أربعة عقود عن الفتح حتّى تحوّل مشعل نشر الإسلام من العرب إلى البربر: ففتح الأندلس (92هـ/711م) يُعدّ بامتياز إنجازًا بربريًّا صرفًا قيادةً وجيشًا، كما استحال شمال أفريقيا على أيديهم منارة إسلاميّة تشعّ بنورها على الصّحراء الأفريقيّة وجنوب أوروبا (القيروان ـ الزّيتونة ـ القرويّين…) وقلعة متقدّمة للإسلام السنّي المالكيّ الخالص، ومنجمًا عدًّا لجلّة العلماء والقادة المجاهدين (أسد ابن الفرات ـ الإمام سحنون ـ يوسف بن تاشفين ـ ابن خلدون ـ ابن منظور…) وسدًّا منيعًا أمام المطامع الاستعماريّة المختلفة (الصليبيّين ـ النورمان ـ الوندال ـ الإسبان ـ البرتغاليّين…) لقد كانت بلاد البربر قبل الفتح الإسلاميّ وعلى امتداد تاريخها القديم مطمع الحضارات وحمار الشّعوب القصير ومنجمًا للمرتزقة والجواري والعبيد ومطمورة لقرطاج وروما وبيزنطا… وما إن نُفخت روح الإسلام الزكيّة في الجسد البربريّ المتهالك كما نُفخت من قبل في الجثّة الجاهليّة حتّى كان الدّفع الحضاريّ من ذيل الأمم إلى سنامها والتحوّل الجذريّ من الضعف والموت والانحطاط والتخلّف إلى القوّة والحياة والعزّة والرّيادة والرقيّ مصداقًا لقوله تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ)[الأنعام: 122] ـ وتواصل حال المنطقة على ما هي عليه 13 قرنًا ـ جزءًا عزيزًا من أرض الإسلام ومكوّنًا عضويًّا من مكوّنات الأمّة الإسلاميّة لا تكدّر صفاءه ونقاءه هرطقة أو نعرة شوفينيّة منتنة ـ إلى حدود سنة 1830م تاريخ تدنيس الجيوش الفرنسيّة لأرض الجزائر… ولو كانت النّعرة البربريّة حيّة حينها لاستغلّتها فرنسا في احتلالها للبلاد؛ ولكنّ شيئًا من ذلك لم يقع، بل على العكس يذكر التّاريخ أنّ من صُنِّفوا بربرًا فيما بعد هم الذين تصدّوا للاستعمار الفرنسيّ عند دخوله وقاوموه لأجيال ورفعوا في وجهه راية العروبة والإسلام وأجبروه على المغادرة خاسئًا وهو حسير.
العلم في خدمة الاستعمار: المسألة البربريّة
أمّا كيف نجحت في تكريس النعرة الأمازيغيّة البربريّة وبعثها من أجداث المتاحف وكتب التّاريخ وجعلها حقيقة ميدانيّة وواقعًا معاشًا، فإنّ فرنسا وما أن استقرّ بها المقام في شمال أفريقيا حتّى اتّبعت سياسة خاصّة تجاه البربر أسمتها (المسألة البربريّة) سعت من خلالها في مرحلة أولى إلى إحداث شرخ في التّركيبة السكّانية وزرع بذور التّفرقة والتّفتيت بين مكوّناتها وتحطيم وحدتهم وانسجامهم وبثّ روح الطائفيّة والعرقيّة بينهم وتقسيمهم إلى جنسين مختلفين متعاديين متناحرين (عرب/بربر) نزولًا عند القاعدة الاستعماريّة الذهبيّة (فرّق تسد)..ثمّ في مرحلة ثانية تهميش العرب وإقصائهم ومحاربتهم في مقابل النّفخ في صورة البربر ـ حجمًا ودورًا ـ ونحت ملامح هويّة بربريّة أمازيغيّة ـ لغةً وعقيدةً وثقافةً، وتعميمها على المنطقة برمّتها في إطار حربها الصليبيّة على الإسلام والمسلمين… ولتحقيق ذلك سارت السّلطات الاستعماريّة الفرنسيّة في خطوتين متوازيتين متكاملتين:
الخطوة الأولى: عمليّة ميدانيّة: فقد فرنست لسان المجتمع المغاربيّ، وأذكت حركة التّبشير، وغذّت الفتنة بين المالكيّة والإباضيّة، وشنّت حربًا شعواءَ على الثّقافة الإسلاميّة، فمنعت تداولها، وحظرت تلقّيها ونشرها، وأغلقت مؤسّساتها، وجفّفت منابعها، ونكّلت بأعلامها ورجالاتها وحَمَلتها، حتّى إنّها سنّت قانونًا يقضي بإعدام كلّ من يُدلي إلى السّلطات بوثيقة مكتوبة بالعربيّة (نعم)….وفي محاولة وقحة لاستنساخ أندلس جديدة، استصدرت سنة 1929م مرسوم (الظّهير البربريّ) الذي يقضي بفصل المناطق البربريّة في المغرب الأقصى وعزلها عن محيطها العربيّ، وإغلاق المحاكم الشّرعية فيها وفرض القوانين العرفيّة عليها لطمس عروبتها وإسلامها كمحطّة نحو فرنستها وتنصيرها…
أمّا الخطوة الثّانية، فنظريّة: وقد رامت من ورائها توظيف العلم في خدمة أغراضها الاستعماريّة وشرعنة افتراءاتها وأعمالها الإجراميّة في حقّ شعوب المنطقة بإخراجها في ثوب (البحوث العلميّة التاريخيّة والأركيولوجيّة والأنثروبولوجيّة) الموثّقة الثّابتة المطابقة للواقع المغاربيّ المعاش… فاستعانت بطاقم من أقطاب علمائها وآثاريّيها (لويس رين ـ دولافوس ـ بالو ـ روني باسي ـ مويي ـ مارسال كوهين ـ ستيفان قزال ـ شارل أندريه جوليان ـ جورج مارسي…) وجعلت منهم نواة للمدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة… فاستحدثوا (علم البربريّات) وأسّسوا (أكاديميّة البربر) في باريس منبرًا لتشويه تاريخ المنطقة وطمس حقائقه وتحريف ثوابته، وضخّموا كلّ تحرّك للبربر وعدّوه (ثورة ذات منزع قوميّ بربريّ معاد للعرب والمسلمين) وأسقطوا تفاسيرهم وقراءاتهم الفجّة على تمرّد كسيلة والكاهنة والخوارج حتّى إنّهم جعلوا من تحريف بسيط ناشئ عن سوء فهم لتعاليم الإسلام (ديانة برغواطيّة)..لقد مثّل علم الأنثروبولوجيا والكشوف الأثريّة أداة في يد السلطات الاستعماريّة لدمج المغرب العربيّ فيها عن طريق ربط شعبه وثقافته وماضيه بفرنسا ـ ما أمكن لهم ذلك ـ وبأوروبا إذا تعذّر عليهم (وذلك أضعف الإيمان) وكان الولاة والجنرالات والمقيمون العامّون الفرنسيّون يتابعون شخصيّا نتائج البحوث والحفريّات، كما أنّ مصلحة الآثار كانت ملحقة مباشرة بالدّاخلية ومرتبطة بالأمن القوميّ الفرنسيّ… وقد كرّست المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة قناعات ومسلّمات نافية بشكل مسبق أيّ إمكانيّة بحث في قضايا شمال أفريقيا في إطار العلاقة مع الشّرق، حتّى إنّ تاريخ المنطقة وما يتعلّق بالبربر وأصولهم ولغتهم وكتابتهم وثقافتهم لا يُنظر إليه إلاّ في إطار العلاقة مع أوروبا. أمّا العلاقة مع الشّرق فمرفوضة ابتداء… ولم تتورّع هذه (المدرسة) في سبيل ذلك عن التضليل والانتقائيّة والطّمس والتّشويه وإخفاء المعلومات وتزويرها وإقصاء أبحاث واختلاق نظريّات وإضافة معطيات بما يجيز لنا أن نتحدّث عن (أساطير مؤسّسة للنّعرة الأمازيغيّة البربريّة).
أسطورة الأصل الأوروبيّ :
إنّ السّؤال المركزيّ الذي تتأسّس حوله الإشكاليّة يتعلّق بأصل البربر، إذ على ضوء الإجابة عنه يمكن إمّا ترسيخ البربر في فضائهم الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ أو فصلهم عنه وربطهم بأوروبا وإدماجهم بفرنسا وبالتّالي شرعنة استعمارهم… لقد أجمع النسّابة العرب من مختلف الطبقات والأجيال حول الأصل المشرقيّ العربيّ للبربر والرّبط بينهم وبين قبائل بني مازيغ وبني صنهاج التي انتقلت من جزيرة العرب إلى بلاد المغرب منذ الألف العاشرة قبل الميلاد… كما أجمع النسّابة البربر أنفسهم من صاحب الحمار إلى حسن الوزّان على انتماء البربر إلى العرق العربيّ إمّا عبر مازيغ بن كنعان بن حام بن نوح (بالنّسبة لفرع البرانس) أو عبر قيس عيلان المضريّ العدنانيّ (بالنّسبة لفرع البتر) أو عبر حمير (بالنّسبة للطّوارق)… وبصرف النّظر عن المصداقيّة العلميّة لهذا الإجماع، ومدى حجّيته ومطابقته للحفريّات الأثريّة والأبحاث الأركيولوجيّة والأنثروبولوجيّة، فإنّ المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة أقصت هذا الاحتمال بشكل مسبق ونفته ابتداء، وخاضت أبحاثها بهذه الخلفيّة المغرضة في إطار مخطّطها الهادف إلى عزل البربر عن محيطهم الشرقيّ وحشرهم قسرًا في محيطها الغربيّ لاستيعابهم وتذويبهم فيها؛ فقد روّجت لنظريّات متعدّدة تلوي عنق الحقيقة وتحقّق لها غايتها مثل نظريّة الأصل الأوروبيّ للبربر، أو نظريّة الأصل الحامي، أو نظريّة جنس البحر الأبيض المتوسّط… وقد طعن الباحثون النّزهاء فيها جميعها وبيّنوا تهافتها، لاسيّما وأنّها قائمة أساسًا على فرضيّة مستحيلة تتمثّل في إمكانيّة الملاحة البحريّة بين ضفّتي المتوسّط والتي لم تكن متاحة قبل العصر الحجريّ الحديث… كما أنّ البحوث الجينيّة واللغويّة المقارنة لم تصدّقها بل جاءت متعارضة معها؛ ممّا اضطرّ (الدكتور فالو) رئيس البعثة الأثريّة للاعتراف في تقريره الرسميّ إلى والي الجزائر العامّ سنة 1949م (بعدم واقعيّة إدماج المغرب العربيّ بأوروبا نهائيًّا)… وبسقوط هذه النظريّة الفجّة تهاوى الحلم الاستعماريّ بدمج المنطقة المغاربيّة في الكيان الفرنسيّ وبترها عن جسمها المشرقيّ… إلاّ أنّ المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة لم تيأس وارتمت مرغمة مكرهة في أحضان النظريّة الإنثروبولوجيّة القاضية بأنّ البربر يتحدّرون من سلالات ما قبل التّاريخ المحليّة بالمنطقة على غرار الحضارة العاتريّة والحضارة الموستيريّة والحضارة القفصيّة والوهرانيّة… وقد روّجت لها بكثافة في محاولة منها لتدجين البربر وجعلهم أهليّين محليّين بعد أن تعذّرت أَوْربتهم، الأمر الذي يضمن هو الآخر عزلهم عن عمقهم العربيّ الإسلاميّ، ونفي أيّ صلة لهم بالمشرق… وقد ركبت في سبيل ذلك وبكلّ وقاحة كلّ المحظورات من قبيل إقصاء أبحاث وإخفاء معلومات وتوخّي أسلوب انتقائيّ طامس للحقائق مشوّه لها. فلإخضاع المغرب العربيّ إلى منطق هذه النظريّة أقصت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة ليبيا من دراستها وعزلتها عن باقي المنطقة وصمتت عن نتائج أبحاث ما قبل التّاريخ فيها لا لشيء إلاّ لأنّها ممرّ وعنصر ربط، فمواقعها التاريخيّة تثبت سيرورة الانتشار الجغرافيّ ومساره التاريخيّ من الشّرق نحو الغرب، وتؤكّد بالتّالي التّواصل الحضاريّ والبشريّ بين المشرق والمغرب عبر تشابه الصّناعات الحجريّة والمنحوتات والأساليب الفنيّة وانتقال النّشاطات الزراعيّة والفلاحيّة… كما غيَّبت المعلومات المتوفّرة عن الحضارات الوهرانيّة والموستيريّة والعاتريّة التي تثبت أنّ أصحابها مجموعات مهاجرة من الشّرق… وتعمّدت إخفاء نتائج الحفريّات المتعلّقة بالإنسان القفصيّ التي تربطه مباشرة بنماذج بشريّة من آسيا الغربيّة؛ ممّا يؤكّد أنّ ما اعتبرته هذه المدرسة الاستعماريّة (حضارات محليّة) ما هو إلاّ أجناس طارئة على المنطقة المغاربيّة وعناصر مهاجرة ـ من الشّرق تحديدًاـ حاملة معها مكتسباتها الفلاحيّة والرعويّة، ناهيك وأنّ شمال أفريقيا خالٍ من أصول نباتات الحبوب والحيوانات المدجّنة في شكلها البرّي بما ينفي قطعًا أصالة تلك النّشاطات ويُثبت يقينًا استقدامها من خارجه… فالنظريّة الأنثروبولوجيّة التي تشبّث الاستعمار بتلابيبها أوهن من بيت العنكبوت لا تصمد أمام النّقاش العلميّ الموثّق، ولا يمكن أن تطمس أصالة البربر الشرقيّة وأرومتهم العربيّة القديمة.
أسطورة التجانس العرقيّ
حفاظًا منها على المنطق الدّاخليّ للنظريّة الأنثروبولوجيّة ادّعت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة أنّ البربر مجموعة عرقيّة وإثنيّة متجانسة وشعب موحّد تجمع بين أفراده سمات جينيّة ومميّزات ثقافيّة وحضاريّة مشتركة تميّزه عن سائر الشّعوب وترقى به إلى مستوى الأمّة ذات الحضارة العريقة، وطفقت تروّج لمقولات من قبيل (اللّوبيّون هم سكّان شمال أفريقيا الأصليّون ـ الشّعب البربريّ ـ الحضارة البربريّة ـ الأمّة البربريّة..) قبل أن يستقرّ بها الاصطلاح عند (الشّعب الأمازيغيّ ـ أمازيغ العالم ـ الحضارة الأمازيغيّة…) وهو كلام إنشائيّ يفتقد لأدنى مصداقيّة علميّة مسوق على عواهنه تحت ضغط هواجس الاستعمار الانقساميّة يُكذّبه الواقع ويفنّده البحث العلميّ النّزيه… فالثّابت تاريخيًّا أنّ مصطلح (بربر) صفة مشحونة بمعاني الاستنقاص والاستهجان تفيد معنى الهمجيّة والتوحّش والتخلّف، أطلقه الإغريق والرّومان وقصدوا به مجموعات بشريّة تقطن شمال أفريقيا من غرب النّيل إلى المحيط الأطلسيّ ومن المتوسّط إلى تخوم الصّحراء، وهو متّسع جغرافيّ استوعب العديد من الشّعوب والقبائل المختلفة عرقيًّا وإثنيًّا… كما أنّ مصطلح (أمازيغ) الذي يعني (الرّجل الحرّ النّبيل) والذي أشاعه أصحاب النّزعة البربريّة في أدبيّاتهم وعمّموه على كامل سكّان شمال أفريقيا فإنّه ليس عَلَمًا على كلّ البربر، بل هو اسم لقبيلة كبرى من قبائلهم اتّصفت بتلك الصّفة، وقد عُمِّم هذا الاسم من باب تسمية الشّيء بأبرز ما فيه، كما عمّم الإسبان اسم قبيلة (المور) على سائر البربر ثمّ على مسلميّ الأندلس (الموريسكيّون)… فالبربر شعوب وقبائل متعدّدة منحدرة من إثنيّات وثقافات مختلفة، وإنّ الادّعاء بتجانسها العرقيّ والإثنيّ مجرّد أسطورة من اختلاق المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة، وهذا باعتراف أحد أقطاب منظّريها (الدّكتور روني باسي) حيث قال في كتابه (البربر) ص 11 (هناك معطى غير قابل مطلقًا للنّقاش، وهو أنّ البرابرة اليوم ـ معرّبين أم غير معرّبين ـ لا يشكّلون بأيّ طريقة من الطّرق مجموعة عرقيّة إثنيّة متجانسة) والفضل ما اعترف به الأعداء… هذا الحكم الذي يرقى إلى مستوى المسلّمة التاريخيّة البديهيّة يكتسب مصداقيّته وحجيّته من تواتره وانطباقه على واقع البربر عبر سيرورة تاريخهم من العصر الحجريّ إلى يوم النّاس هذا بالمشاهد الملموس. فقد أثبتت الحفريّات والتّنقيبات والكشوف الأثريّة أنّ منطقة شمال أفريقيا شهدت في العصر الحجريّ الحديث حضارات مختلفة متمايزة من حيث طرق العيش والعادات الغذائيّة والأدوات المستعملة والصّناعات الحجريّة والأساليب الفنيّة (الحضارة العاتريّة ـ القفصيّة ـ الموستيريّة ـ الوهرانيّة…) وأنّها كانت تعكس نماذج بشريّة متنوّعة من حيث السّمات والبنية الهيكليّة؛ ممّا أجاز لنا التحدّث عن (الإنسان القفصيّ ـ إنسان بئر العاتر ـ إنسان مشتى العربيّ ـ أصحاب الرّؤوس المستديرة..)… هذا الخليط العرقي الإثني اللاّمتجانس والذي ميّز فترة ما قبل التّاريخ تواصل مع الفترات التّاريخية القديمة والوسيطة؛ إذ نجد له صدى في كتب النسّابة الإغريق والرّومان والعرب وفي نقوش المعابد الفرعونيّة، فقد تحدّثت كلّها وبصراحة عن قبائل وشعوب متعدّدة ومتنوّعة مختلفة من حيث سحنتها وسماتها الخلقيّة وبنيتها الهيكليّة ومعتقداتها وعاداتها وتقاليدها تؤثّث الفضاء المغاربيّ وتشغل مناطق مختلفة فيه (الأمازيغ ـ التحنو ـ التمحو ـ اللّيبو ـ المشواش ـ القهق ـ السبد ـ الأسبت ـ القايقش ـ الشّيت ـ الهسا ـ البقن ـ الكيكش ـ المور ـ جدالة…) وممّا يؤكّد هذه المعلومات أنّ النماذج الحاليّة المعاصرة للبربر تعكسها بأمانة، فيمكن أن نلاحظ اليوم بكلّ يسر خمس مجموعات عرقيّة بربريّة متباينة في مظهرها: المجموعة الأولى متميّزة بطول القامة والشّعر الأشقر والعيون الملوّنة وهي منتشرة في بلاد القبائل والأوراس (زواوة ـ كتامة..). المجموعة الثّانية متميّزة بقصر القامة والسّمرة والشعور السّوداء والعيون العسليّة، وهي منتشرة في جبال الرّيف والأطلس المغربيّين (غمارة ـ هوّارة…).المجموعة الثّالثة تتميّز بالطّول وبياض البشرة وخفّة الشّعر والوجوه العريضة والشّاحبة، وهي منتشرة في أواسط الصّحراء ومناطق سوف ومزاب والجريد (فطناسة ـ هرماسة ـ قرماسة ـ برغواطة…). المجموعة الرّابعة متكوّنة أساسًا من طوارق الصّحراء وتتميّز بطول القامة والأطراف وضيق الصّدر والبطن مع غلبة السّمرة والملامح الزنجيّة (صنهاجة ـ زناتة ـ لمتونة…). المجموعة الخامسة تتميّز بالقصر والسّمرة وضخامة الجثّة والرّؤوس الكبيرة المستديرة ومجالها غرب النّيل إلى الحدود التونسيّة (اللّيبو..) وهو تنوّع يعكس بلا شكّ تعدّدًا في الأصول والأعراق… فعن أيّ تجانس عرقيّ وإثنيّ للبربر نتحدّث؟؟…