الرأسمالية تسحق البشر بنظامها الجائر، والحل الوحيد هو في نظام الإسلام
م. محمد مصطفى – اليمن
يسيطر الاقتصاد الرأسمالي الغربي على اقتصادات العالم اليوم، ويُلزم جميع دول العالم على اتخاذه مرجعية (دستوريًا وعمليًا) لاقتصادهم، ومن بينها دول العالم الإسلامي! ويرى اقتصاديو الغرب أن المشكلة الاقتصادية هي في قلة الموارد والثروات بالنسبة للحاجات البشرية! وسمَّى نظريته تلك بـ»الندرة النسبية” وفلسفتها عنده أن الموارد أي السلع والخدمات نادرة بالنسبة للحاجات البشرية اللامحدودة، أي إن ميزان الموارد التي تلبي الحاجات البشرية ميزان غير ممكن التحقيق. أما الحلُّ عنده أنه لابد من زيادة الإنتاج حتى تقلَّ الفجوة بين الموارد والحاجات البشرية اللامحدودة، فبدلًا من أن يكون من يستطيعون استهلاك الموارد والانتفاع بها هم 50% من المجتمع، فإن زيادة الإنتاج تؤدي إلى زيادة الموارد «السلع والخدمات»، وهذه تَوفرُها في السوق يؤدي إلى زيادة نسبة المستفيدين منها لتسد حاجاتهم إلى 80% مثلًا. وهكذا، فكلما زاد الإنتاج زاد الانتفاع وسدَّت نسبة من حاجات المجتمع، ولكن الـ20% الباقية لابد من أنها لن تصل إلى الموارد لأنه لا يمكن أن تشبع السلع والخدمات حاجات البشر جميعهم!! كما يدَّعون، وبالتالي فإن البقية الباقية من النسبة الأخيرة، وهم غير القادرين على العمل، أو العاطلين عن العمل، أو الذين لايكفي دخلهم لسد حاجاتهم الأساسية؛ فلن يستطيعوا الوصول إلى الموارد التي يحتاجونها من السلع والخدمات المتوفرة ولن يستطيعوا أن يشبعوا حاجاتهم؛ وعليه فإن وجود الفقر بنظرهم حتميٌّ في هذا العالم!!!… والدولة التي تطبق النظام الرأسمالي تعتبر أن وجود هذه الطبقة الفقيرة أمر طبيعي!! ولا شأن لها بها! بل تعالجها بالترقيعات من خارج النظام بشكل لا يكفي ولا يخرج الفقير من فقره، ولا يعالجه معالجة تقضي على فقره… فهي لا تهتمُّ سوى بزيادة الإنتاج.
في المقابل، نجد عندهم أن من تمكَّن من الموارد أفضل تمكُّن، عن طريق ما يملكه من ثروة، تزداد ثروته، ويزداد نفوذه عن طريق المصانع أو المشاريع التي يملكها؛ فيتحكم بالسوق وبالأسعار!! ثم نجد أنه من باب حرية التملك التي يؤمن بها النظام الرأسمالي، فإن الفئة الأغنى تستحوذ على الثروات والموارد بكل سهولة فتتركز بيدها الثروة. ومن ثم نجدها تقف وراء السياسيين فتدعمهم ليشرعوا لمصلحتها، وتستخدمهم ليفتحوا لها الأسواق ويضعوا أيديهم على ثروات الشعوب والبلدان الأخرى عن طريق أخطبوط الاستعمار المتعدد الأذرع، والذي يتغذى منها بالحروب والديون الربوية ونهب الثروات… ومن هنا جاء مسمَّى «النظام الرأسمالي» وذلك لتحكُّم طبقة أصحاب رؤوس الأموال بطبقة الحكام في الأنظمة الغربية؛ ولذلك نجد دولة غنية غنًى فاحشًا بالموارد مثل أمريكا، وبالرغم من أنها هي الدولة العظمى، وتستبيح العالم فتنهب وتقتل دون رادع، إلا أنها ملأى بالأحياء الفقيرة وبالمشرَّدين والعاطلين عن العمل، وهؤلاء لم توفِّر لهم أمريكا شيئًا، بل إن ما أخذه ترامب من أموال المسلمين قد بشَّر به الشعب الأمريكي بمزيد من الوظائف! أي بمزيد من الأيدي العاملة التي تساهم في الإنتاج لمن يستطيع الإنتاج منهم حتى يتمكنوا من سدِّ حاجاتهم، ولم يتطرق لمعالجة الفقر والفقراء وغير القادرين على انتشال أنفسهم من الجوع والعوز! ففي الأنظمة الرأسمالية لا شأن للحكام بمثل هذه الفئة حتمية الوجود في نظرهم في المجتمع!!.
وفي مقابل ذلك، فإن الإسلام جعل المشكلة الاقتصادية، ليست كما يصوره البشر بعقولهم القاصرة أنها ندرة الثروات والخيرات والموارد، فالله أودع في هذه الأرض الخيرات الكثيرة التي تكفي جميع البشر إلى يوم القيامة، قال تعالى: (قُلۡ أَئِنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِي يَوۡمَيۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ ذَٰلِكَ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ ١٠) وقال تعالى: ( أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ ٢٠ )… ثم إن الله سبحانه وتعالى قد شرع للمسلمين نظامًا اقتصاديَّا، فيه المعالجة الحقيقية لكل مشاكل الإنسان الحياتية وحاجاته المادية. قال سبحانه وتعالى فيه: (وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ ٦٦) ولكن للأسف فهو غير مطبَّق اليوم، والواجب على المسلمين اليوم أن يقيموه في حياتهم؛ وهم واقعون تحت إثم عدم تطبيقه، بل إن الغرب (بحكَّامه ورأسمالييه) يعمل على منع تطبيقه، ومنع إقامة دولة الخلافة التي تطبقه؛ لأنه يعلم حقيقة أنه سيؤدي إلى قطع يده عن سرقة أموال الناس وأكلها بالباطل، ووضع حد لاستعماره.
والإسلام قد جعل حل المشكلة الاقتصادية يكمن في «توزيع الثروة»؛ من هنا جاء بأحكام اقتصادية تضمن وصول الثروة إلى كافة أفراد المجتمع فردًا فردًا، الفقير والغني، العاجز والقادر… ومنع تركُّزها في أيدي فئة غنية قليلة كما هو الحال في النظام الرأسمالي، ولعلَّ الآية الكريمة هي أصدق تعبير على تركيز الإسلام على توزيع الثروة، قال تعالى: ( كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ) وعلى هذا جاءت الأدلة الشرعية باستفاضة لتبيِّن أن المشكلة الأساسية هي فقر الأفراد، وعدم تمكين كل فرد منهم من حيازة المال والانتفاع به؛ فصبَّت علاجها على توزيع الثروة، على خلاف النظرة الرأسمالية للمشكلة الاقتصادية.
ففي الإسلام نرى أن هناك توجيهات في القرآن والسنة تشرع وتشجع على الإنفاق على المحتاجين من الفقراء والمساكين واليتامى وأبناء السبيل والغارمين، وغيرهم؛ حتى ليتولد أنطباع عام لدى عامة المسلمين أن الإنفاق والتصدُّق على الفقراء هو أول ما يتبادر إلى أذهانهم إذا ما أصاب الواحد منهم مكروه ليدفعه، أو فعل معصية ليغفرها الله له، أو إذا ما جاءه مولود، أو رزق برزق ليحصل على بركته… هذا وقد ذمَّ الله سبحانه وتعالى الحرص على المال وعدم إنفاقه على المحتاجين إليه من الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل، قال تعالى: (كَلَّاۖ بَل لَّا تُكۡرِمُونَ ٱلۡيَتِيمَ ١٧ وَلَا تَحَٰٓضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ١٨ وَتَأۡكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكۡلٗا لَّمّٗا ١٩ وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبّٗا جَمّٗا ٢٠). وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث المشرَّفة مستفيضة في هذا المجال توجِّه المسلمين وتحضُّهم على الإنفاق على أمثال هؤلاء وجعلتها كفارة لكثير من ذنوبهم، وفيها تقرب إلى الله، ففي الآية الكريمة، : (۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٦٠ ) فرض الله الزكاة على أغنياء المسلمين، وجعلها حقًّا لفقرائهم في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وتردُّ إلى فقرائهم، وحضَّ على الصدقة لهم، وكفالة اليتيم، وإطعام الجائع… وهذا ما يجعل التكافل والتعاضد الاجتماعي والأخوي منتشرًا بينهم.
ولكن الإسلام لم يترك معالجة الفقر لهذه التوجيهات العامة فحسب، بل أوجد منظومة من الأحكام الشرعية في الاقتصاد، وفي مختلف شؤون الحياة، من شأنها أن تحلَّ المشكلة الاقتصادية التي تعاني منها البشرية الا وهي»توزيع الثروة» بحيث تصل إلى جميع أفراد المجتمع، وسنذكر بعضًا من هذه الأحكام ليتبين المسلمون قبل غيرهم أن الإسلام هو الدين الحق في كل أحكامه، وكيف لا وهو دين منزل من لدن الله العليم الخبير:
– جعل الإسلام الملكيات ثلاثة أنواع: ملكية فردية، وملكية الدولة، وملكية عامة. والملكية العامة أذن الشارع فيها أن تشترك الجماعة بالانتفاع بها، ومنها المعادن التي لا تنقطع كمنابع البترول، ومناجم المعادن التي لا تنقطع، أي التي تكون غير محدودة المقدار بكمية قليلة، فإن مردود هذه المعادن، والتي عادة ما تكون ثرواتها هائلة تعود لعامة أفراد الرعية، وهذه وحدها كفيلة بإيجاد حالة من الكفاية لدى الجماعة ومن غير تفريق، ويمنع الشرع الدولة من تملُّكها؛ ولكن يسمح لها بالإشراف على استخراجه. ويمنع الشرع كذلك الأغنياء من أصحاب الشركات الضخمة من تملُّكها؛ ولكن يسمح لها فقط أن تأخذ أتعاب استخراجه مثلًا. ويأخذ الناس النفط والغاز والكهرباء وغيرها من الطاقة مجانًا، ومن ثم تعيد إليهم الدولة فوائض الأسعار. ففي تعريف الملكيات العامة يقول الإمام الماوردي في «الحاوي»: «هي ملكية جماعة المسلمين للأموال التي لا يجوز للأفراد ولا للدولة التصرف برقبتها، أو الاستفراد بمنفعتها؛ إذ المالك لهذه الأموال المجتمع ككل، يشترك فيها مجموع الناس شركة إباحة، ولا يجوز التصرف بها بيعًا ولا إقطاعًا ولا هبة، ولا يجوز للدولة هنا إلا تنظيم الاستفادة منها» وورد في كتاب «النظام الاقتصادي» للشيخ تقي الدين النبهاني: «الملكية العامة هي إذن الشارع للجماعة بالاشتراك في الانتفاع بالعين. والأعيان التي تتحقق فيها الملكية العامة هي الأعيان التي نصَّ الشارع على أنها للجماعة مشتركة بينهم، ومنع من أن يحوزها الفرد وحده». فرعاية الدولة للملكيات العامة يساعد ويساهم في توزيع الثروة بين أفراد المجتمع ويمنع تكدسها بين أيدي أناس معدودين محدودين، كما أنه يساهم في تحقيق منفعتها على أكبر قدر مستطاع من الناس.كما يساهم في جعل مختلف السلع التي تعتمد في صناعتها على النفط ومشتقاته في جعل هذه السلع رخيصة.
– تحريم الإسلام للربا،، قال تعالى: ( وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ ) وقال سبحانه ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩) والربا من آثاره الخبيثة أنه يجعل المال يتكدَّس بيد طبقة من الـمُرابين الطفيليين الذين يثرون على حساب المحتاجين دون إنتاج، ويوجد طبقة واسعة من الـمَدينين الـمُعسرين… وبالنسبة إلى آثار الربا على حياة الناس المعيشية فإنه يؤدي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار، وتعقُّد الحياة الحياة الاجتماعية. فالربا يعتبره الإسلام جريمة يعلن مرتكبها حربًا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم جريمة يعتبر ارتكابها أشدّ من الزنا. والربا قديمًا كان يؤدي إلى الاسترقاق؛ وذلك عندما لا يقدر المدين على السداد؛ فيكون الحل أن يبيع المدين نفسه للدائن لسداد دينه. أما اليوم فقد أصبح للربا مؤسساته الدولية النافذة، وله دوله التي تفرضه على المجتمعات الفقيرة وتستعبدها في حال عجزها وتمصُّ خيرات الدول وتقضي على تنمية الشعوب وإبقائها تحت نقمة الدول الغنية وشروطها القاسية، أي إنها اليوم تسترق الشعوب.
– تحريم الإسلام للاحتكار، والذي من ذيوله تركز الثروات بيد فئة من الناس المحتكرين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» مسند أحمد. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من احتكر على المسلمين أربعين يومًا ضربه الله بالجذام والإفلاس». فالاحتكار هو حبس ما يحتاج إليه الناس، سواء أكان طعامًا أم غيره مما يكون في احتباسه إضرار بالناس وتضييق الحياة عليهم، وهذا بإطلاقه شامل لكل شيء من المواد الغذائية، والثياب، والأدوية، وآلات ومواد الإنتاج الرزاعي والصناعي، كالمحاريث والأسمدة، كما يشمل منافع وخبرات العمال، وأهل المهن والحرف والصناعات، والفنيين، وأصحاب الكفاءات العلمية، إذا احتاجت الأمة إلى مثل تلك السلع والمنافع والخدمات؛ إذ (المناط) هو حقيقة الضرر من حيث هو بقطع النظر عن نوع الشيء المحتكَر، فيجبر هؤلاء على بذل ما لديهم، رعاية لحق الأمة، ودفعًا للضرر عنها في مثل هذه الظروف، بالثمن أو أجر المثل العادل، إذا امتنعوا عن ذلك. والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس، وفتح المجال أمام الناس ليحوزوا الثروات دون احتكار ولا منع، وفي نفس الوقت مساعدتهم في استغلالها. هذا الأمر يجعل الثروة في متناول أيدي أفراد المجتمع بحيث ينال كل فرد منها نصيبًا معينًا.
– نظام الوراثة في الإسلام يفتت أضخم الثروات ويجعلها تتوزع بين الورثة. فالإرث في الإسلام وسيلة من وسائل تفتيت الثروة، وليس تفتيت الثروة علة له بل هي بيان لواقعه، وذلك أن الثروة وقد أبيحت ملكيتها، قد تتجمع في يد أفراد حال حياتهم، فإذا مات هؤلاء فإن الإرث يفتت ثرواتهم بتوزيعها بين الورثة. ويلعب التوريث بالصورة التي وضعها الفقه الإسلامي دورًا مهمًا في إعادة توزيع الثروة بين الأفراد من الجنسين ممن يحق لهم الإرث. وفي حالة تطبيق الفقه الإسلامي للمواريث ينال الأفراد نصيبهم بصورة عادلة، ويتم تحويل الثروة إلى الأفراد المعوزين والفقراء بصورة آلية ودون تدخل السلطات؛ وهذا بخلاف ما عند الغرب حيث تتشكل الطبقة البرجوازية وتتغذى الطبقية من تركز رأس المال في يد واحدة. ويعمل تقسيم الميراث على تفكيك هذا التركز من خلال إعادة توزيع الثروة. ولهذا لم نشهد في التاريخ الإسلامي أية اضطرابات اجتماعية ناشئة عن الصراع الطبقي أو التفاوت الفاحش في السلوك الاستهلاكي.
– تحريم الإسلام لكنز المال، وكنز المال هو جمعه لغير حاجة، بل يجب تشغيله في مشاريع صناعية أو زراعية أو تجارية أو أي وصف آخر يقره الشرع حتى تبقى الثروة متداولة متحركة نشطة في المجتمع ينتفع بدخلها صاحبها والعاملون فيها والفقراء وباقي الأصناف من زكاتها ، وينتفع المجتمع بعامة من مشاريعها. وبالتالي فتخزين الثروة لغير حاجة أي كنزها دون تشغيلها في مشاريع هو حرام في الإسلام، قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ ٣٤) هذا عن أحوال الأغنياء. فمنع الإسلام للكنز والادخار وتشجيع الاستثمار يعود على المسلمين جميعًا بالخير. والمقصود بالاستثمار في الإسلام هو تشغيل المال لزيادته. والهدف من الاستثمار في الإسلام ليس مجرد تحقيق الربح؛ ولكن الهدف هو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والنهوض بالمجتمعات الإسلامية. إن النهي عن الاكتناز فيه توفير السيولة اللازمة لتمويل المشروعات ذاتيًا للتنمية، وتجنب الاقتراض بفوائد، وتعتبر فريضة الزكاة من أهم الدوافع للاستثمار، لأن الاكتناز يجعل المال يتآكل بسبب الزكاة. كذلك فإن تحريم الاكتناز في الإسلام يؤدي إلى التشغيل الكامل لرأس المال؛ حيث يجب توجيه رأس المال إلى الإنتاج. وهناك علاقة بين الادخار والاستثمار، فالاكتناز هو جزء الادخار الذي لم يوجه إلى الاستثمار.
من هنا كان الإتجار بمال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة.
– فرض الإسلام على الدولة الإسلامية تأمين الحاجات الأساسية لأفراد رعيتها من مأكل وملبس ومسكن، ولم يتركهم للعبة تحكم الأغنياء بالأسعار، ولم يترك الإسلام الفقراء هكذا من غير معالجة لأوضاعهم المادية كما هو الحال في النظام الرأسمالي. فالنظام الإسلامي من شأنه أن يؤمن بأنظمته الكفاية لكل أفراد المجتمع، ويكون فرضًا على الدولة الإسلامية أن تؤمن لأفراد الرعية حاجاتهم الأساسية من مأكل ومسكن وملبس كحد أدنى، يقول الأستاذ عبد الرحمن المالكي في كتاب (السياسة الاقتصادية المثلى): «… والإسلام يمكِّن كل فرد من أفراد الرعية من إشباع حاجاته الأساسية (المأكل والملبس والمسكن)، وجعل لكل فرد أن يملك من مصادر الاقتصاد الأربعة (الزراعة والصناعة والتجارة وجهد الإنسان) أكثر كمية يستطيعها، وأن يعمل للحصول عليها قدر المستطاع لإشباع هذه الحاجات الأساسية، ولتمكينه من إشباع الحاجات الكمالية، فكانت إباحة الملكية والعمل فيها هي الأساس وهي الأصل …».
فكل هذه الأحكام، وغيرها من مثلها، يساعد ويساهم في تفتيت الثروة وتوزيعها لدى أكبر شريحة من أفراد المجتمع، ولا تبقى هذه الأموال محبوسة عند طائفة من الناس، لتتسع أبواب روافدها، وتقل أو تنعدم أبواب وصولها إلى باقي أفراد المجتمع من الفقراء كما هو حاصل في النظم الوضعية السقيمة كالنظام الرأسمالي السائد اليوم في معظم أنحاء المعمورة. ومن هنا نقول إن البشرية تكتوي بالفقر والغلاء والفساد الاقتصادي بسبب نظرة النظام الرأسمالي المصلحية للحياة والوضعية والتي يتبناها الاستعمار السياسي وأدواته من صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة وغيرها، بزيادة ثروات الأغنياء الذين يتحكَّمون في مفاصل الدول ولا يلقي بالًا للفقراء، ويدَّعي عدم وفرة الثروة بينما هو يسرقها، وكم ينافق عندما يقيم المؤاتمرات العالمية التي يتحدث فيها عن مشكلة الفقر ومشكلات التنمية المستدامة… بينما تتخم جيوب الأغنياء الجشعين وتمتلىء البنوك من أرصدة الرؤساء المنهوبة من جيوب الفقراء! فنحن المسلمون نعيش في قلب ثروات العالم، فأين تزويع الثروة العادل الذي جاء به الإسلام! وها هي أفريقيا الغنية بالثروات لاتكاد تطعم منها!. وهكذا نرى أن من ضيَّع حكمًا من أحكام الإسلام أحوجه الله إليه. نعم، إنه لا حلَّ للمشكلة الاقتصادية في العالم الا باقامة نظام الاسلام المتمثل بدولة الخلافة التي يعمل لها حزب التحرير بديلًا حضاريًا عن النظام الرأسمالي الفاسد في كل شيء لانقاذ البشرية منه قبل فنائها على يديه.
وخير ما نختم به كلامنا هو ما نذكره عن رسول هذه الأمة وأسوتها إلى قيام الساعة ومن بعده عن الخلفاء الراشدين الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نعض على سنتهم بالنواجذ… فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يوزع المال من الغنائم على جميع المسلمين، دون تخصيصٍ أو استثناءٍ لأحد منهم إلا لسبب شرعي، وكان الخلفاء الراشدون يوزعون الأرض المفتوحة على المسلمين كي ينتفعوا منها ويعمروها، ولم تكن الدولة تستحوذ عليها وتحتكرها لنفسها، فقد روى ابن القيم في (زاد المعاد) في غنائم الطائف: «… ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الغنائم والناس، ثم فضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعًا من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسًا أخذ اثني عشر بعيرًا وعشرين ومائة شاة…» ووزع عمر رضي الله عنه الأموال على المسلمين دون محاباة ولا تفضيل أحدٍ على أحدٍ – إلا لأمر شرعي- لا لجنس، ولا لون، ولا عشيرة، ولا منصب… وقد ذكر المؤرخ البلاذري في كتاب (فتوح البلدان) قال: «عندما بدأ عمر رضي الله عنه بتسجيل أسماء الناس قال: بمن نبدأ؟، قال له عبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك، قال: لا، بل نبدأ ببني هاشم وبني المطلب، وفرض للعباس ثم لعلي رضي الله عنهما، ثم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قدّم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لهم أعلى المخصصات، ثم أهل بدر، ثم الذين بعدهم، وعندما قرر راتبًا لأسامة بن زيد أكبر من راتب ابنه عبد الله قال عبد الله: أسامة ليس أفضل مني، قال عمر: ولكن أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وفرض لكل مولود مئة درهم، فإذا ترعرع مئتي درهم، فإذا بلغ رشده زاد له في العطاء. ويقول «والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال!!..».