المجتمع المدني ومنظماته (6) :بطلان استناد المجتمع المدني إلى الأفكار الغربية «المؤسلمة»
2015/01/05م
المقالات
2,132 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
المجتمع المدني ومنظماته (6) :بطلان استناد المجتمع المدني إلى الأفكار الغربية «المؤسلمة»
د. ماهر الجعبري
انتهت الحلقة السابقة إلى تبيان استناد ترويج المجتمع المدني إلى الرأسمالية والعلمانية والليبرالية، وبأنه استناد لفكر غربي باطل فكرياً وإسلامياً، وذلك بعدما أصّلت الحلقات من قبلها خلفيات المجتمع المدني التاريخية والسياسية. وتتناول هذه الحلقة موضوع بطلان استناد المجتمع المدني إلى الأفكار الغربية «المؤسلمة».
هنالك حزمة من الأفكار الفرعية التي يبنى عليها المجتمع المدني تروَّج بين أبناء الأمة الإسلامية كبدائل فكرية عن مفاهيم إسلامية أصيلة أو كـ»توفيق» معها. وهذه الفئة من المفاهيم تندرج ضمن محاولات التضليل الفكري، وينخدع بها بعض المضلَّلَين فيدعون لها على أنها أفكار إسلامية أو تتوافق مع الإسلام، بينما هي في الحقيقة تُطرح لإشغال المسلمين بمطالب ترقيعيّة، ولصرفهم عن التفكير بالحل الجذري. ونتيجة لمحاولات «التهجين» الفكري لتلك المفاهيم ومحاولات تهريبها من خلال تغليفها بأغشية من الإسلام، ولذلك يتداولها بعض المسلمين بشيء من القبول. وتتضمن هذه المفاهيم كل من المواطنة، والحداثة، والتعددية، والمشاركة السياسية، وتداول السلطة. وفيما يلي مناقشة إسلامية لهذه المفاهيم الفرعية.
أولاً: بطلان المواطنة كمستند للمجتمع المدني
المواطنة ببساطة هي الانتماء للأرض والوطن دون غيرها من الانتماءات والولاءات الأخرى، واعتبار الوطن هو المرجعية التي تجمع الناس الذين يعيشون فيه. وبناء عليها يتمتع الإنسان بالمساواة مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، تعرّف حسب مفاهيم حقوق الإنسان: الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي لها. وتتجسد هذه المفاهيم عادة في التشريعات الوضعية.
ويتردد أيضاً مصطلح الجنسية بمعنى قريب كما يذكر أحد الكتاب بأن: «الجنسية معيار للتمييز في وقتنا الحاضر بين الأجنبي والوطني. وهي مفهوم وضعي علماني حديث الظهور يتم التمييز بموجبه بين البشر على أساس الانتماء الوطني لا الديني».
ويعتبر بعض الكتّاب أن المواطنة هي القلب النابض لمفهوم الديمقراطية أو روحها، وبالتالي فدحضها متعلق أيضاً بدحض الديمقراطية. وتعرف الموسوعة الحرة- ويكيبيديا المواطنة بأنها وحدة الانتماء والولاء من قبل كل المكوِّن السكاني في البلاد على اختلاف تنوعه العرقي والديني والمذهبي للوطن الذي يحتضنهم، وأن تذوب كل خلافاتهم واختلافاتهم عند حدود المشاركة والتعاون في بنائه وتنميته والحفاظ على العيش المشترك فيه.
ويطرح مفهوم المواطنة، كأحد مرتكزات المجتمع المدني ومجالات ترويجه، لصرف المسلمين عن التوحد على أساس العقيدة، ولمواجهة المشاعر المبدئية لدى المسلمين نحو تلك الوحدة. وقد جاء في وثيقة «الأردن أولاً» المقدمة للملك عبد الله، بعد أن أعدت بناء على تكليف منه، ما يؤكد أن مفهوم المواطنة يطرح في معرض الصراع مع المطالبين بالإسلام ومن يسمّونهم متطرفين، فقد نصّت على ما يلي: «الأردن أولاً، تكريس لمفهوم المواطنة، كحق أساسي لكل مواطن أردني، كفله الدستور، لا يجوز الانتقاص منه، وهي عامل إيجابي محفّز على تعميق المشاركة السياسية، وتخطي النزعات السلبية، وعنوانها: لا فضل لأحد على الآخر، إلا بما يقدمه لوطنه وشعبه». هكذا النص في الوثيقة المقترحة يبطل بشكل واضح مقياس التقوى (الذي ورد في حديث المفاضلة بين الناس)، مستبدِلاً به مقياس الوطن والمواطنة!
إذاً، فالمواطنة مفهوم مرجعه الوطن وليس الدين، ولا يحدد للدين أي دور في تنظيم الحياة، وهو لا يعترف بالاختلافات على أساس المعتقد، ومن ثم فلا فرق فيها مثلاً بين المسلم والمرتد في الحقوق والواجبات. وهذا المفهوم يختلف اختلافاً عريضاً مع الإسلام، حيث توجب الأحكام الشرعية حد القتل على المسلم إذا ارتد ولم يتب، فيفقد حياته وهي أغلى حق في المواطنة عند منظريها. ثم إن مفهوم المواطنة يربط الناس على أساس الرابطة الوطنية التي هي رابطة غير مبدئية، وبالتالي فهي غير دائمة وغير صالحة لإيجاد أمة متماسكة، بينما يربط الإسلام المسلمين برابطة العقيدة الإسلامية، وهي رابطة مبدئية تحقق ديمومة تماسك المجتمع. والإسلام يُرجع الأمور كلها للمبدأ الإسلامي، ولا يوجد أية مرجعية للوطن في صياغة الحياة وأنظمتها بل هي مستندة للأحكام الشرعية ولا شيء غير.
التبعية الإسلامية لا المواطنة العلمانية
قد يختلط مصطلح المواطنة لدى بعض المسلمين مع مفهوم التابعية في الدولة الإسلامية، أو مصطلحات أخرى شبيهة ترددت لدى الفقهاء المسلمين مثل «الرعوية» و «أهل دار الإسلام”. والتابعية في الدولة الإسلامية تشمل الذين يعيشون ضمن دار الإسلام، أي الذين يخضعون لسلطان المسلمين ويعيشون ضمن حدود الدولة الإسلامية بغض النظر عن أوطانهم. وهذا بالطبع مفهوم مختلف، إذ يحمل التابعية في دولة الإسلام مسلمون وأهل ذمة من غير المسلمين. جاء في كتاب نظام الحكم في الإسلام الذي أصدره حزب التحرير تحت عنوان «شكل الحكم في الإسلام»: «وطريقة الإسلام في الحكم هي أنه يسوّي بين المحكومين في جميع أجزاء الدولة، وينكر العصبيات الجنسية، ويعطي لغير المسلمين الذين يحملون التابعية حقوق الرعية وواجباتها، فلهم ما للمسلمين من الإنصاف، وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف، بل هو أكثر من ذلك لا يجعل لأي فرد من أفراد الرعية-أياً كان مذهبه- من الحقوق ما ليس لغيره ولو كان مسلماً، فهو بهذه المساواة يختلف عن (الإمبراطورية)…».
إذاً، هنالك تبعية للناس في الدولة الإسلامية ودون تمييز، ولكن أسس النظرة مختلفة تماماً ما بين أسس شرعية وأسس ديمقراطية وضعية.
والناس حسب الشرع الإسلامي سواسية أمام القانون، سواسية في الأمور التي تتعلق بـ«إنسانيّتهم»، ولكن هنالك فروقاً واضحة في الأحكام الشرعية، حسب معتقداتهم؛ فمثلاً يتوجب على المسلم الجهاد، ولا يتوجب على الذميّ، الذي يتوجب عليه في المقابل دفع الجزية.
وحسب مفهوم المواطنة، فلكل مواطن الحق بالترشّح ليصبح حاكماً، بينما الإسلام لا يعطي هذا الحق إلا لمن كان مسلماً، مع أنه في الوقت نفسه يسمح دخول غير المسلم في مجلس الشورى لأن الشورى ليست حكماً، كما جاء ضمن مبحث «حكم الشورى» وتحت بند «عضوية مجلس الشورى» في كتاب نظام الحكم في الإسلام: «لكل من يحمل التابعية إذا كان بالغاً عاقلاً الحق في عضوية مجلس الأُمة، وله الحق في انتخاب أعضاء مجلس الأُمة، سواء أكان رجلاً أم امرأة، مسلماً كان أم غير مسلم. وذلك لأن مجلس الأُمة وكيل عن الناس في الرأي فقط، وليست له صلاحية الحكم والتشريع».
ويبين الكتاب المذكور المساواة في الأمور الإنسانية بالقول: «وأيضاً فالإسلام ينظر للرعايا الذين يحكمهم نظرة إنسانية محضة، بقطع النظر عن الطائفية، والجنس، والذكورة، والأنوثة. وتكون سياسة الحكم المرسومة لهم بوصفهم الإنساني فقط، حتى يكون الحكم لمصلحة الإنسانية، ليخرجها من الظلمات إلى النور. ولهذا كان الرعايا متساوين في الحقوق والواجبات المتعلقة بالإنسان باعتباره إنساناً، من حيث تطبيق الأحكام الشرعية على الجميع، والقاضي حين يفصل الخصومات، والحاكم حين يحكم، لا يفرق بين الناس، بل يعاملهم على السواء بوصفهم يحملون التابعية لا بأي وصف آخر».
أما مشروع دستور الدولة الإسلامية (الذي أعده حزب التحرير) فيحدد هذه الحقوق والواجبات كلها بالأحكام الشرعية، وبالتالي فالإسلام (لا الديمقراطية أو الشراكة في الوطن) هو المرجع (الوحيد الأوحد) في سنّها وتشريعها، فقد ورد ضمن المادة 5: «جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية يتمتعون بالحقوق والواجبات الشرعية». ومن ثم يُحرّم الدستور التمييز بينهم حسب المادة 6: «لا يجوز للدولة أن يكون لديها أي تمييز بين أفراد الرعية في ناحية الحكم أو القضاء أو رعاية الشؤون أو ما شاكل ذلك، بل يجب أن تنظر للجميع نظرة واحدة بغض النظر عن العنصر أو الدين أو اللون أو غير ذلك». وأكد مرجعية الشرع في المادة 7: «تنفذ الدولة الشرع الإسلامي على جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين على الوجه التالي:
أ – تنفذ على المسلمين جميع أحكام الإسلام دون أي استثناء.
ب – يُترك غير المسلمين وما يعتقدون وما يعبدون ضمن النظام العام.
ج – المرتدون عن الإسلام يطبق عليهم حكم المرتد إن كانوا هم المرتدين، أما إذا كانوا أولاد مرتدين وولدوا غير مسلمين فيعاملون معاملة غير المسلمين حسب وضعهم الذي هم عليه من كونهم، مشركين أو أهل كتاب.
د – يعامل غير المسلمين في أمور المطعومات والملبوسات حسب أديانهم ضمن ما تجيزه الأحكام الشرعية.
هـ – تفصل أمور الزواج والطلاق بين غير المسلمين حسب أديانهم، وتفصل بينهم وبين المسلمين حسب أحكام الإسلام.
و – تنفذ الدولة باقي الأحكام الشرعية وسائر أمور الشريعة الإسلامية من معاملات وعقوبات وبيّنات ونظم حكم واقتصاد وغير ذلك على الجميع ويكون تنفيذها على المسلمين وعلى غير المسلمين على السواء، وتنفذ كذلك على المعاهدين والمستأمنين وكل من هو تحت سلطان الإسلام كما تنفذ على أفراد الرعية إلا السفراء والقناصل والرسل ومن شاكلهم. فإن لهم الحصانة الدبلوماسية.»
هكذا يعرّف الإسلام التابعية للدولة ويجعل الشرع الإسلامي هو المرجع الوحيد الأوحد في تشريعاتها، بينما يعرّف مفهوم المواطنة الذي يطرحه الفكر الغربي الحقوقَ حسب مفاهيم حقوق الإنسان (المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) الوضعية، وهي خليط لا يمكن أن يتجانس مع الأحكام الشرعية.
إذاً، فالمناداة بالمواطنة على أساس الوطن، كمدخل لتشريع منظمات المجتمع المدني، من قبل من التبس عليهم الأمر من المسلمين، هي مناداة بشعار كفر تم تحويره وتفصيله ليتوافق مع الإسلام، وهي مناداة باطلة، ويبطل بالتالي استناد ترويج المجتمع المدني للمواطنة.
ثانياً: بطلان مفهوم الحداثة كمستند للمجتمع المدني
تعتبر الحداثة من مرجعيات الدعوة إلى إفساح المجال للمجتمع المدني، وتأتي تلك الدعوة استجابة لمتطلباتها. وحسب الموسوعة الحرة- ويكيبيديا، فإن كلمة (حداثة – Modernity أو عصرنة أو تحديث) تعبر عن أي عملية تتضمن تحديث وتجديد ما هو قديم، وهي تستخدم في مجالات عدة، “لكنّ هذا المصطلح يبرز في المجال الثقافي التاريخي ليدل على مرحلة التطور الثقافي والفكري التي طبعت أوروبا بشكل خاص في مرحلة العصور الحديثة (التي تلي مرحلة العصور الوسطى)». وهذا الارتباط الثقافي والتاريخي للمصطلح هو مربط الفرس في الموقف من تداوله بين المسلمين.
يمكن القول إنه ليس هنالك تحفّظ على المعنى اللغوي للحداثة والتحديث، خصوصاً وهو يرتبط مثلاً بالشؤون المادية لحياة الناس مثل تحديث التقنيات والعلوم. يعني بالعموم لا يبدو ثمة مانع فكري من تداول كلمة الحداثة إذا اقتصرت على الجوانب المادية «المدنية» في حياة الناس، بل هي مما يتوجب على الأمم أن تسعى لها لتحقق الرفاهية لشعوبها. ولكن الإشكالية الفكرية تتمثل في تحديث وعصرنة الجوانب الحضارية المرتبط بثقافة الأمة، وهي أيضاً في بروز مصطلح الحداثة في الجانب الثقافي وارتباطه بالخلفية التاريخية الأوروبية، وذلك ما يجعل استعماله فيما هو مخصص له (أساساً) هو استعمال لمفهوم كفر وترويج لفكر يناقض الفكر الإسلامي. فمثلاً، قام «التاريخ الثقافي» للأمة الإسلامية على تطبيق الإسلام في كافة مناحي الحياة تحت ظل الخلافة الإسلامية، ومن ثم فتطبيق مفهوم الحداثة (الانقلابي على ثقافة السلف حسب المصطلح الذي يطرحه الغرب) يعني تحديث هذا الجانب الحضاري، أي إلغاء فكرة الدولة الإسلامية! وهنا لا بد أن يتساءل المسلم: كيف يمكن أن يتم تحديث الأحكام الشرعية التي تحدد هذا النظام إلا إذا تم التخلّي عنها واتباع غيرها؟ كيف يتم مثلاً تحديث نظام العقوبات؟ هل يتم تغيير حكم قطع يد السارق إلى حكم السجن مثلاً من أجل متطلب الحداثة؟ أم يتم تعطيل حكم رجم الزاني المحصن من أجل التحديث؟ أم يتم تغيير النظام السياسي القائم على وحدة كيان الأمة ويتم الإقرار بنظم الدويلات تمشياً مع مبدأ استقلال الدول والشرعية الدولية الحديثة؟
إن الذي يتقبل مصطلح الحداثة الغربي وغيره من المصطلحات التي تمتزج فيها معاني الكفر بمعان مقبولة إسلامياً، أو تتشابه أو تتقاطع مع بعض المفاهيم أو المصطلحات الإسلامية، هو كالذي يدافع مثلاً عن مشروعية الذهاب للكنيسة لأجل «الصلاة» لأن الله سبحانه وتعالى يقول: «وأقيموا الصلاة». فهذا البحث المجتزأ عن الكلمات وعدم وضعها في سياقاتها الحقيقية يؤدي حتماً إلى خلط الإسلام بالكفر خلطاً فظيعاً ينتج سماً قاتلاً.
وعليه فلا يمكن الاستناد لمفهوم الحداثة (الثقافي) لا لترويج المجتمع المدني، ولا لترويج غيره من المفاهيم الغربية.
ثالثاً: بطلان مفاهيم المشاركة والتعددية السياسية كمستندات للمجتمع المدني
بمنطق تمرير المواطنة والحداثة نفسه، يتم أيضاً تمرير مفاهيم المشاركة السياسية، والتي هي أيضاً مرتبطة بمسألة التعددية الحزبية وتداول السلطة. والكثير من محاولات التضليل هذه مبنية على التلاعب في المصطلحات ما بين استخدام المعنى اللغوي، أو الارتكاز إلى التشابه في لفظ المصطلح الغربي مع معنى مقبول إسلامياً رغم الخلاف في المفهوم الذي يُغطّى ولا يُبرز، أو تتم من خلال محاولة تطويع المفاهيم الإسلامية لتوافق المفهوم الغربي على مبدأ «ليِّ أعناق النصوص».
تتعلّق التعددية بشكل عام بمعاني التنوع والتفاوت والاختلاف، وهي قبول الاختلاف في المجتمع الواحد، ويتم تداولها في عدة مجالات حسب موضوع الاختلاف، وبالتالي فهنالك عدة أنواع من التعددية. ويحصل أن ينظر إليها بعض المسلمين بالقبول من باب إقرار الإسلام للاختلاف في استنباط الأحكام الشرعية. إلا أن هذا المنظور (إن صحت تسميته بالتعددية الفقهية) ينطلق من المعنى اللغوي للتعددية، وليس هو المقصود في المصطلح الفكري، لأن هذا الاختلاف الفقهي الذي يقرّه الإسلام محصور في أمور ظنية (أحكام شرعية) تحتمل الخلاف في الأفهام، وهو منضبط بالنصوص الشرعية ولا يستند لغيرها، ولا يخرج عن إطار العقيدة الإسلامية المحددة بالقطعيّات اليقينية التي لا تحتمل الخلاف ولا التعدد. أما حسب المعنى المـُصطلح عليه في الثقافة الغربية، فالاختلاف والتنوع مفتوح الباب على مصراعيه، ولذلك فهو يشمل مثلاً التعددية الثقافية والسياسية والحزبية. وليس المقام هنا تفصيل كل هذه الأنواع.
ففي المجال الثقافي، تتعلق التعددية الثقافية بالسماح لكل الثقافات (والعقائد المتناقضة) التي تجد لها أنصاراً في المجتمع أن تطرح على الناس وأن يُروّج لها، وتصبح من مكونات المجتمع، ويسمح لها أن تتعايش فيما بينها بغض النظر عن أية خلفية. وهذا بالتأكيد يرسّخ الخلافات العقائدية فيما بينها. وهو بالتالي لا يجيز نفي أو استقصاء أي فكر من المجتمع حتى ولو ناقض عقيدة المجتمع. فمثلاً، توجب التعددية الثقافية السماح بانتشار الفكر الإلحادي والدعوة له، وتوجب ضرورة السماح للفئات التي ترتد عن الإسلام وتؤسس لثقافة جديدة تناقض الإسلام.
أما في المجال السياسي، وهو محل التركيز هنا، فالتعددية هي مفهوم ليبرالي ينظر إلى المجتمع على أنه مكوَّن من وحدات ومكونات سياسية متعددة ومختلفة في الأفكار والقناعات والمصالح، ويبرز كمظهر من أهم المظاهر الديمقراطية. ومفهوم التعدد والاختلاف هذا، في نظر البعض، يحول دون تمركز الحكم في فكر معين أو فئة معينة، وبالتالي يمنع من وجود ما يسمونه الحكم الشمولي المبني على فكر واحد (وفي العادة تسمّى دولة الخلافة في أدبيات الغرب السياسية حكماً شمولياً)، بل ويفتح المجال للمشاركة السياسية من قبل التيارات المختلفة والمتناقضة. وبالتحديد فالتعددية الحزبية، تتعلق بمصطلح سياسي لنظام سياسي يسمح بتعدد الأحزاب ولا يتيح لحزب أن يقوى لدرجة الهيمنة على سواه، ويتيح لكل القوى السياسية في البلاد لتعبر عن مواقفها وأهدافها بغض النظر عن مرجعيّاتها الفكرية ونظرتها للمصالح. ومن ثم تفتح المجال لهذه الأحزاب للمشاركة السياسية وللتنافس على الوصول إلى السلطة حسب صناديق الاقتراع.
إذاً،، فالمشاركة السياسية والتعددية الحزبية وتداول السلطة مبنية كلها على فكرة السماح لوجود تيارات سياسية متناقضة في المجتمع تقوم على أي فكر ترضاه أية مجموعة من الناس دون اعتبار لمعيار الفرق بين الكفر والإسلام كعملية تنخيلية، بل وتقوم على تشجيع الناس على الانخراط في العمل السياسي أو في منظمات المجتمع المدني ضمن هذه التيارات دون ضوابط عقائدية (إسلامية). وفي بيئة تستند إلى هذه المفاهيم الغربية، يُسمح بوجود الأحزاب الشيوعية والقومية والعلمانية، وبوجود منظمات المجتمع المدني التي تروّج للمفاهيم الغربية. (وأيضا يسمح بوجود الأحزاب الإسلامية بشرط أن توصف بأنها «معتدلة» ولا تكون «انقلابية» أو جذرية التغيير خوفاً من الانقلاب على الوضع والوصول إلى «الحكم الشمولي»)، يُسمح لكل هذه الفئات بالعمل ضمن الساحة نفسها وعلى أساس تنافسي، على أن لا تقوم أي منها بأعمال تؤدي إلى نقض العقد الذي يقوم عليه المجتمع، أو الانقلاب على نظامه السياسي، وإلا فلا تكون قد احترمت التعددية السياسية. وبالطبع فإن العقد الذي يجمع كل هذه التناقضات للتعايش ضمن البيئة السياسية نفسها لا يكون إلا علمانياً وضعياً.
وهذا هو جوهر المسألة، وهو أن هذا النمط السياسي لا يقبل استقصاء الآخر وحذفه عن الخريطة السياسية حتى ولو كان على باطل عقدي، بل هو لا يحدد «الحسن والصالح» من منطلق فكري، ولا يَعتبر بمفهوم الحق والحقيقة على أساس القدرة على الإقناع بالأدلة، بل بالقدرة على الحصول على أصوات الناس وتأييدهم «العددي».
وهذا يناقض الإسلام الذي لا يتعايش مع الباطل بل يقذف بالحق على الباطل فيصرعه فإذا هو زاهق، وكما يقول سيد قطب –رحمه الله- في كتابه: معالم في الطريق: «إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية»، وكما يصوّر بأن الإسلام والجاهلية خطان متوازيان لا يلتقيان ولا توجد جسور تربط بينهما. وبالطبع فإن تلك المفاهيم الغربية (كالتعددية) هي جسور صممت لردم الهوة بين الإسلام والعلمانية (الباطلة) من أجل الالتقاء في منتصف الطريق. وهذا المنتصف هو كفر بالإسلام لا محالة (ولو بجزء منه)، وهو باطل لأن الإسلام يؤخذ جملة، تمثلاً بقول الله سبحانه في سورة البقرة: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
فالذي ينادي بالتعددية السياسية لا بد أن يقبل بظهور أحزاب لا تقوم على أساس الإسلام، وأن يفتح لها المجال للتفاعل مع المجتمع، وأن تنشر أفكار الكفر فيه دون قيود، ومن ثم أن يفسح لها أن تحاول الوصول إلى السلطة، وإن استطاعت إلى ذلك سبيلاً فلا بد له أن يتنحى لها لتأخذ دورها في هذا التداول على السلطة. وهذا يعني أن يرضى الناس بالاحتكام إلى نهج الحزب الذي يصل للسلطة حتى ولو طبق أنظمة الكفر. وهذا لا يحتاج إلى رد لشدة وضوح مناقضته للإسلام، إذ كيف يمكن للإسلام أن يُشرّع تمكين الكفر من الحكم، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.)
بين المشاركة السياسية ووجود الأحزاب الإسلامية
لا يصح أن يختلط مفهوم المشاركة السياسية مع مفهوم وجوب الاشتغال بالسياسة من قبل المسلمين عموماً. فالإسلام أوجب على المسلمين الانخراط بالعمل السياسي، من باب وجوب الاهتمام بأمر المسلمين، ومن باب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب النصح للمسلمين وساستهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله، قال: لله وكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين وعامتهم أو أئمة المسلمين وعامتهم» (رواه أبو داود).
ولذلك من المعلوم أن الاشتغال بالسياسة فرض على المسلمين، بل إن العقيدة الإسلامية هي عقيدة سياسية، توجب نشرها للغير وهذا عمل سياسي. ولكن الاشتغال بالسياسة الذي يسمح به الإسلام (بل يوجبه) هو فقط الذي يتم حسب الأحكام الشرعية، ولا يناقض الإسلام ولا يكون فيه إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وصحيح أن الإسلام أوجب قيام أحزاب سياسية وأجاز تعدّدها، ولكن هذا الفرض (الشرعي) شيء، ومفاهيم المشاركة السياسية والتعددية الحزبية (الغربية) شيء آخر. ومع ذلك، فمن خلال هذه الفريضة الشرعية قد يدلّس البعض لتقبل فكرة المشاركة السياسية كما يطرحها الغرب، مع أن الإسلام يحرّم إقامة أحزاب لا تقوم على العقيدة الإسلامية، ولا يسمح لها العمل في الدولة الإسلامية، بل إن الذين يحملون أفكار كفر من أبناء المسلمين (كعقائد لهم) يتحوّلون إلى مرتدين يفقدون حق الحياة وليس فقط حق تأسيس الأحزاب والمشاركة السياسية !
وإن وصول فئة أو حزب غير إسلامي إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع أو من خلال التمرد على حاكم مسلم، أو عن طريق التسلط على السلطة وتحكيم الكفر هو منكر تجب مواجهته ومحاربته. وهذا التصدي يكون على الأسس الشرعية: بالعمل السياسي كما هو حال الأمة الآن، أو بالخروج بالسلاح في وجه مغتصب السلطة، والذي يغيّر الحكم بالإسلام إلى حكم بالكفر (في حالة تغيير الخلافة إلى دار كفر)، وذلك كلّه حسب تشخيص الواقع المبحوث. ولا يمكن إقرار الحكم بالكفر حسب مبدأ تداول السلطة (الغربي).
إذاً، لا شك أن هذه مفاهيم غربية تتناقض مع وجوب الحفاظ على الاحتكام بالإسلام، وتتناقض مثلاً مع ما يوجبه الإسلام من مقاتلة الفئات (والأحزاب) التي تخرج على سلطان دولة الإسلام، وتطالب بالحكم على أساس مفاهيم الكفر لأنها تكون مرتدة.
هذه هي حقيقة الإسلام التي لا يتحرّج المسلمون من بيانها كما هي لا كما يحب الغرب أن يسمعها، وهي تتناقض تناقضاً جوهرياً مع التعددية الحزبية وتداول السلطة والسماح بالمشاركة السياسية للأحزاب الكافرة. وبالطبع لا تطبق هذه المفاهيم الغربية إلا ضمن جو من الديمقراطية، وبالتالي فهي من تفريعات الديمقراطية.
وعليه فلا يمكن أن تكون حزمة مفاهيم التعددية الباطلة شرعاً مدخلاً لتشريع وجود منظمات المجتمع المدني، لأن ما يبنى على باطل هو باطل قطعاً.
رابعاً: بطلان استناد المجتمع المدني إلى مفهوم الإصلاح
إن طرح موضوع الإصلاح، من قبل القوى الغربية وأبواقها بين المسلمين، هو كلام حق يراد به باطل. وهم يطرحون منظمات المجتمع المدني كأدوات للإصلاح في حالة فساد السلطة.
والإصلاح مصطلح قرآني لا كفر فيه، ولا يمكن اعتبار من ينادي بالإصلاح أنه ينادي بمفاهيم كفر، فالله سبحانه وتعالى يقول في سورة هود على لسان نبيه شعيب: ]إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [. فالقرآن يقررّ أن الإصلاح عمل ممدوح شرعاً.
ولكن الإشكالية في الترويج له هي مسألة سياسية تتعلّق بكيفية التعاطي معه، وفي دوافع من يروّجه. وهي أيضاً إشكالية فقهية، تتعلق بمجال العمل للتغيير السياسي ومحلّه وكيفية وطريقة التغيير.
إذاً، لا بد أن يوضع مفهوم الإصلاح في مكانه الصحيح، ويجب أن لا تتناقض المطالبة به مع المطالبة بالحل الجذري لقضية الأمة المصيرية، ولا مع أحكام التغيير واستئناف الحياة الإسلامية من جديد حسب طريقة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وإلا أصبحت المطالبة به على أساس مثل هذه الآية وحدها دون اعتبار بقية الآيات والأحكام الشرعية، كمثل النهي عن الصلاة من باب ] فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[دون إكمالها.
فالإصلاح الذي يطرح عالمياً وعربياً، هو حل ترقيعي للانشغال ببعض الجزئيات والاكتفاء بمعالجتها (مرحلياً حسب ما يطرح البعض) بهدف تحقيق إصلاحات جزئية في حياة الناس وفي المناخ السياسي العام لتجميله، أو بهدف إلهاء دعاة التغيير بهذه الجزئيات وإشغالهم بها عن التغيير الجذري.
وقد التقت على هذه المناداة بالإصلاح الجزئي (الترقيعي) عدة أطراف منها:
1- الغرب وعلى رأسه أميركا بهدف احتواء الأصوات المطالبة بالتغيير الجذري وصرف المسلمين عن الوصول للخلافة، ومن أجل تحسين صورة أنظمة تسبّح بحمد أميركا أو أوروبا صباح مساء.
2- الحكام للحفاظ على كراسيّهم وعروشهم وتحت الضغط الأميركي.
3- بعض الأحزاب والشخصيات السياسية للحصول على حصة في كعكة الحكم ولتحقيق أهداف سياسية وحركية محدودة.
4- منظمات المجتمع المدني لتحصيل الأموال المرصودة لهذه العملية، ولإبراز القائمين عليها كشخصيات عامة تطالب بمواقعها في محافل الأنظمة والحكم.
وللأسف التقت مع هذه الأطراف أيضاً حركات تحمل شعار الإسلام، وباتت تروِّج للمفهوم على الطريقة الغربية بلباس إسلامي، وباتت تعلن أنها تطالب فقط بإصلاحات جزئية مخالفة جوهر الإسلام «الانقلابي» في التغيير الحضاري.
إن في ما عبّر عنه سيد قطب في كتابه: معالم في الطريق في قوله: «إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية… فإما إسلام وإما جاهلية… وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج». بعد الآية الواردة أعلاه في معرض رفض التعددية الحزبية (على غير أساس الإسلام)، رداً مناسباً للمناداة بالإصلاح الجزئي والحلول الترقيعية. وبكل بساطة، هل يمكن أن يكون لسان حال أميركا والأنظمة العربية ]إنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ[ حتى تتوافق معها «جهات إسلامية» في دعواها للإصلاح !
إذاً، تقبّل كلمة الإصلاح كمصطلح قرآني، يقترن بتقييدها بالإصلاح الكلي وحسب الأحكام الشرعية وبتطبيق الإسلام كاملاً في الحياة، وهذا يصبح حلاً وتغييراً جذرياً، ولا يلتقي حينها مع مصالح الغرب، ولا مع مصالح الحكام، ولا يقبل تجزئة الإسلام إلى ما يمكن وما لا يمكن تطبيقه. ولا يكون طريق الإصلاح من خلال الأعمال السياسية التي تتناغم مع ما تفسحه الحكومات من نوافذ للعمل، بل يكون بالصراع الفكري مع كل أفكار الكفر التي تحاول أن تفسح لها مجالاً في المجتمع، وبالكفاح السياسي ضد كل القوى التي تحاول أن تهيمن على المجتمع وتنفذ برامجها، وبكشف المخططات التي تحاك ضد الأمة، وذلك من أجل استئناف الحياة الإسلامية في كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إن خلاصة هذه الحلقة أن كل تلك المنطلقات الغربية التي تم «أسلمتها» واستخدمت لترويج مفاهيم المجتمع المدني هي حزمة من أفكار الكفر جملة وتفصيلاً، وهي أفكار تناقض الإسلام، أو تخدم مشاريع الكفار دون أدنى شبهات، ولذلك فدعوات استناد المجتمع المدني إلى مثل تلك المفاهيم هي دعوات باطلة لا تُقبل من مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.[انتهى]
2015-01-05