أمريكا تقود انحدار الغرب وهي فرصة يجب على المسلمين الاستفادة منها (2)
2021/07/31م
المقالات
1,569 زيارة
بقلم عبد المجيد بهاتي
لقد كتب الكثيرون عن تقهقر الغرب على مر السنين، لكن الموضوع لم يُؤخذ على محمل الجد، وفي بعض الحالات تم إنكاره من علماء غربيين بارزين مثل روبرت كاغان في كتابه «العالم الذي صنعته أمريكا»، ومع ذلك، فقد كانت أزمة كوفيد-19 الحالية دفعة جديدة لتحريك هذا النقاش، ففيروس كورونا أصاب قلب الحضارة الغربية ليكشف عن عيوب بنيوية عميقة – في المجتمعات الغربية والنظام الدولي الذي يترأسونه – وهدّد نفوذ الهيمنة الغربية على العالم، وقد طرح كاتب العمود الشهير سيمون تيسدال في صحيفة الأوبزيرفر السؤال التالي حول أزمة كوفيد-19: «هل هذه واحدة من تلك المنعطفات التاريخية التي يتغيّر فيها العالم بشكل دائم؛ حيث يتغيّر ميزان القوى السياسية والاقتصادية بشكل حاسم؟».
مواجهة الانكماش الاقتصادي
لقد كان أداء الاقتصاد الأمريكي أفضل من أداء نظامه السياسي، ويعدّ الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي؛ حيث يبلغ 21.4 تريليون دولار، وتتمتَّع أمريكا بأكبر حصة من الاقتصاد العالمي بنسبة 25٪[24]، والدولار الأمريكي هو العملة الاحتياطية بلا منازع في العالم، ويستخدم على نطاق واسع لتسوية المعاملات، أكثر من أي عملة أخرى، والشركات الأمريكية تهيمن على قائمة أفضل 20 شركة [25]، والفرد الأمريكي هو الأعلى دخلًا بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية[25]، وعلى الرغم من هذه الهيمنة الاقتصادية، فقد تقلّصت القوة الاقتصادية الأمريكية على مرِّ السنين.
في عام 1960م، بلغت حصة أمريكا من الاقتصاد العالمي 40٪، وعلى مر السنين، ومع سعي المزيد من الدول لتبوُّء المكانة الاقتصادية العالمية، انخفض الاقتصاد الأمريكي إلى نصف هذا الحد تقريبًا[27]؛ لكنه لا يزال قويًا بسبب نظام الدولار، بالرغم من معاناته من تدهور ملحوظ في القوة الشرائية بسبب الآثار التراكمية للتضخم. كان الدولار الواحد في عام 1960م يعادل في القوة الشرائية حوالى 8.84 دولار اليوم، بزيادة قدرها 7.84 دولار على مدى 61 عامًا، ووفقًا لمكتب إحصاءات العمل، فإن أسعار اليوم أعلى بنسبة 884٪ من متوسط الأسعار في عام 1960م[28]، ومن المتوقع أن تنخفض القوة الشرائية للدولار أكثر مع بدء خطة بايدن التحفيزية البالغة 1.9 تريليون دولار. لم تعد الشركات الـ500 فاحشة الثراء تعكس هيمنة الشركات الأمريكية في العالم، ففي عام 2020م تم تقاسم الشركات الـ500 بوسط 133 شركة صينية مقابل 121 شركة أمريكية، وكانت شركتان أمريكيتان وصلتا إلى مستوى أعلى 10 شركات[29]. أخيرًا، فإن تركيز الثروة في أيدي قلة في أمريكا يثير شكوكًا جديدة حول صحة المؤشرات التي تقيس دخل الأسرة الأمريكية، ولأول مرة وصل متوسط دخل الأسرة الأمريكية إلى 63,000 دولار في عام 2019م؛ ولكن بعد التعديل وفقًا للتضخم، توقف عند حد 1999 دولار فقط[30]. وفي الوقت نفسه أثرى أغنى 1٪ في أمريكا أنفسهم بشكل كبير من خلال كسب 50 تريليون دولار من 90٪[31]، وإذا استمرت مثل هذه الاتجاهات – وخاصة اغتصاب الثروة من قبل الرأسماليين الأمريكيين من فاحشي الثراء – فإن القوة الاقتصادية الأمريكية ستصير أقل مصداقية وفعالية، وستنتج اضطرابات محلية كما قال ابن خلدون و(ترشين).
تزايد تكاليف الحفاظ على جيش ضخم
على الرغم من وجود 800 قاعدة عسكرية في 70 دولة وإقليمًا، والإنفاق العسكري السنوي البالغ 734 مليار دولار، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما هو عليه من أقرب منافسيها (الصين)، فإن القوة العسكرية الأمريكية تتلاشى[32،33]. وفي عام 2010م، رفض البنتاغون رسميًا خوض حربين متزامنتين في مسارين مختلفين للعمليات العسكرية عن مذهبه الحربي. وفي عام 2010م، لم يعد تقرير الدفاع الرباعي ينظر إلى «متطلبات الحربين كعامل أساسي في تحديد تكوين القوة»[34]، كما تضاءلت الميزة العسكرية الأمريكية التي امتدت لعقود على الدول الأخرى، فضلًا عن قدرتها على ردع الأعداء وهزيمتهم. وفي عام 2018م، أشارت لجنة مستقلة مكونة من الحزبين حول استراتيجية الدفاع الأمريكية إلى أن «المزايا العسكرية الأمريكية طويلة الأمد قد تضاءلت» وأن «هناك شكوكًا حول قدرة أمريكا على الردع – إذا لزم الأمر – لهزيمة الخصوم والوفاء بالتزاماتها العالمية»[35]. هناك تعقيد إضافي يتمثل في قدرة أمريكا على جذب مجنَّدين جدد، فقد انخفض الاهتمام بين الشباب للخدمة في الجيش الأمريكي إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، وقد أصبح الوضع سيئًا لدرجة أنه لمجرد دعم القوات البرية الأمريكية (الجيش) وسلاح مشاة البحرية، فقد لجأت هاتان إلى زيادة الرواتب وخطط المكافآت غير العادية لجذب الشباب[36]، وليس هناك شك في أن الأداء العسكري السيئ لأمريكا في أفغانستان والعراق ساهم في تراجع القوة العسكرية الأمريكية. إذا استمرت هذه العوامل، فإن الحرب مع دول ليست صغيرة (مثل روسيا والصين) ستكون اختبارًا قاسيًا للقوة العسكرية الأمريكية، مما لا يرجح النصر. مع ذلك، فإن التهديد الأكثر إلحاحًا ينبع من التكاليف الاقتصادية والسياسية المطلوبة للحفاظ على الاشتباكات العسكرية الخارجية كما أوضح كينيدي، ومن المتوقع أن يؤدي الخلل السياسي في الداخل إلى جانب تراجع النفوذ الاقتصادي إلى إضعاف الالتزامات العسكرية الأمريكية في الخارج.
شجّعت إخفاقات أمريكا بروز بعض القوى العظمى وتسبَّبت في صعود أخرى
من الواضح أن أمريكا تواجه انخفاضًا نسبيًّا متفاقمًا في القوة الاقتصادية والعسكرية بسبب نظامها السياسي المنهار، وقد أثَّر هذا أيضًا على قدرة أمريكا على إقناع أوروبا في القضايا الرئيسية، وتثبيط دول مثل روسيا والصين. كانت العلاقة عبر الأطلسي هي حجر الزاوية للنظام السياسي الأمريكي منذ سنوات ما بعد الحرب، وقد قطعت أوروبا عن طيب خاطر موقف أمريكا بشأن عدد كبير من القضايا، وقدّمت الدعم للإجراءات الأمريكية عند الضرورة، مع ذلك، فإنه بعد زوال الاتحاد السوفياتي، ظهرت الخلافات بين الشركاء عبر الأطلسي حول عدد من القضايا المهمة مثل اتجاه توسع الاتحاد الأوروبي، ومهمة الناتو الجديدة، وزيادة الأحادية الأمريكية في الشؤون الدولية، والسياسات تجاه الجنوب العالمي، وما إلى ذلك، وزادت الحروب المختارة ضد أفغانستان والعراق من خيبة الأمل المتأجِّجة لدى الأوروبيين تجاه أمريكا. وفي عام 2003م، أعرب دومينيك مويسي نائب مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية ومقرُّه باريس، عن أن «ما نشهده هو ظهور غربين، غرب أمريكي وغرب أوروبي، بحساسيات مختلفة ومشاعر مختلفة»[37]، وأدّت الأزمات المالية العالمية إلى أزمة منطقة اليورو، وأزمات الديون اليونانية، وحروب العملة، والخلافات حول التقشُّف مقابل التحفيز النقدي؛ ما أدى إلى تفاقم العلاقات بين الاثنين، كما أدَّى الربيع العربي وأزمة اللاجئين السوريين إلى تآكل الثقة في العلاقات عبر الأطلسي.
لكن لم تصل العلاقات إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق إلا بعد صعود ترامب، فقد سبَّب إصرار ترامب على زيادة أوروبا لحصتها من العبء المالي لحلف الناتو وعدم التزامه بالمادة رقم 5 من المنظمة، سبَّب انتقادات حادة من الحلفاء. وفي حديثها عن رفض ترامب إعادة تأكيد تعهد أمريكا بحماية أوروبا، قالت المستشارة ميركل: «إن الفرص التي يمكننا فيها الاعتماد بشكل كامل على الآخرين في طريقها للنفاد… يتعيَّن علينا نحن الأوروبيين أن نهتم بمصيرنا بأيدينا»[38]، وقد واصل ترامب دون توجُّس خطابه ضد أوروبا، ودعم علانية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتفكك الاتحاد الأوروبي، ووبَّخ ماكرون لاقتراحه أن أوروبا بحاجة إلى جيش للدفاع عن نفسها من أمريكا، وأشعل فتيل حرب تجارية [39]، وردَّت أوروبا على ذلك بتجاهل الولايات المتحدة والتزمت بتوقيع اتفاق تجاري شامل مع الصين، وهي تعلم جيدًا أن ترامب كان على وشك الخروج من البيت الأبيض. جعلت العلاقة عبر الأطلسي المتضرِّرة بشدة من التعاون إشكالية كبيرة، وهي نقطة أكدَّها داليو. في أول لقاء علني لهم، ذكّر ماكرون و(ميركل – بايدن) أن التحالف الفرنسي الألماني سيحمي استقلالية أوروبا ومصالحها، وشدَّد ماكرون في الاجتماع على «الاستقلال الاستراتيجي» عن الولايات المتحدة، في حين دافعت ميركل عن الاتفاقية التجارية التي تمَّ التوصُّل إليها مع الصين قائلة «إن مصالحنا لن تتقارب دائمًا»[40]، والتفاؤلُ بأن العلاقات بين القارة الأوروبية وأمريكا سوف تتحسن في وقتٍ قريبٍ ضعيفٌ.
كما تراجعت علاقة أمريكا مع روسيا إلى مستوى متدنٍّ جديد، لم نشهده منذ الفترة الأولى من الحرب الباردة، وبعد مواجهة عدد من العقبات على مرِّ السنين وعدم التكافؤ في القوة، لم يردع روسيا عن تحدِّي هيمنة أمريكا ودفع نفوذ أمريكا إلى الوراء في القوقاز وأوكرانيا وآسيا الوسطى. ففي عام 2008م، غزت روسيا جورجيا واحتلت أوسيتيا الجنوبية. وفي عام 2014م، ضمَّت شبه جزيرة القرم وشنَّت حربًا في أوكرانيا لإنشاء مجال لنفوذها في الجزء الشرقي من البلاد، وتمكَّنت روسيا من تحقيق ذلك، بينما كانت تواجه عقوبات صارمة من الغرب. وفي آسيا الوسطى نجحت روسيا في تقليص النفوذ الأمريكي في أوزبيكستان وقرغيزستان. وكتب وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس في صحيفة وول ستريت جورنال عن صعود روسيا الجديد، فقال: «نريد لروسيا أن تكون شريكًا، لكن من الواضح أن هذا غير ممكن الآن تحت قيادة السيد بوتين، الذي فرض تحدِّيًا في شبه جزيرة القرم أو حتى أوكرانيا، وأفعاله هذه تتحدَّى نظام ما بعد الحرب الباردة بأكمله»[41]، في المقابل أزعجت روسيا الغرب من خلال قطع إمدادات الغاز عن أوروبا خلال أشهر الشتاء القاسية، والاغتيالات الوقحة على الأراضي الأجنبية، والتدخل في الانتخابات الأمريكية والأوروبية. لقد كشف عرض روسيا للأسلحة السيبرانية المتطوِّرة والمعدَّات العسكرية المتطوِّرة في الصراع السوري وفي أماكن أخرى لصانعي السياسة الأمريكية أن روسيا لديها ميلٌ لتحدِّي الهيمنة الأمريكية في مناطق محددة.
السؤال هو: كيف سمحت أمريكا بحدوث ذلك؟ يمكن القول إن أمريكا في التسعينات كانت في ذروة قوتها الاقتصادية والعسكرية، وتتمتع بالتفوُّق العالمي باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، بينما كانت روسيا في وسط أزمة اقتصادية وسياسية عميقة، ولم تكن روسيا – التي تعاني من نزيف بسبب قروض صندوق النقد الدولي – في وضع يمكِّنها من وقف توسع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية السابقة، كما لم يستطع الكرملين منع أمريكا من إزاحة النفوذ الروسي في البلقان، وفقدان غواصة كورسك (K-141) في بحر بارنتس في عام 2000م وعدم قدرة الكرملين على إنقاذ الطاقم، قد لخَّصت المدى الذي تراجعت فيه روسيا عن وضعها كقوة عظمى[42]. مع ذلك، فإنه في غضون عقدين من الزمن، تمكَّنت روسيا رغم شيخوخة سكانها واقتصادها الضعيف من إعادة تأكيد نفسها وتحدِّي أمريكا، وسهَّل الصعود الضيق – القوة العسكرية فقط – لروسيا انشغال الولايات المتحدة بالحروب الكارثية في أفغانستان والعراق، وكذلك الأزمة المالية العالمية، فلم تكن أمريكا قادرة على مواجهة العدوانية الروسية في مناطق معيَّنة من العالم. من المؤكد أن روسيا لا تستطيع أن تنازع القيادة العالمية لأمريكا؛ لكنها تستطيع بالتأكيد أن تعطِّل الخطط الأمريكية وتتخلَّص من الهيمنة المطلقة لأمريكا على أوراسيا.
كما أن جهود الولايات المتحدة لاحتواء صعود الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ هي موضع تساؤل. منذ منتصف التسعينات، اعتبرت واشنطن الصين أكبر عدو لها، وحاولت الحكومات الأمريكية المتعاقبة إبقاءَ الصين محبوسة داخل حدودها من خلال مجموعة متنوِّعة من الإجراءات، وقد أشركت الولايات المتحدة الصين في إجراء محادثات نووية مطوَّلة داخل وخارج كوريا الشمالية؛ متعمِّدةً ذلك لتجنُّب التسوية الدائمة في الوقت نفسه، وقد استغلَّت أمريكا انتهاكات الصين لحقوق الإنسان في التبت وتركستان الشرقية ومعاملة جماعة فالون غونغ الدينية لتشويه سمعة القيادة الصينية وتركيزها على الداخل. لقد جعلت أمريكا الهند حصنًا منيعًا أمام توسع الصين نحو الغرب، وهيَّأت واشنطن الأسس لحرب مستقبلية بين البلدين من خلال حثّ الهند على إصلاح قدراتها العسكرية والنووية، في محاولة لمنع التوسع البحري الصيني، كما أدخلت الولايات المتحدة الهند في الحوار الأمني الرباعي (QSD) العقد الماضي، وأجرت هي والهند واليابان العديد من التدريبات البحرية لإرسال رسائل قوية إلى بكين للابتعاد عن المغامرة خارج سلاسل الجزر الأولى والثانية، فكان الهدف هو بتر أطراف الصين البحرية قبل أن تنمو، كما شجّعت واشنطن فيتنام والفلبين واليابان على إشراك الصين في النزاعات الإقليمية غير المجدية في الشرق وبحر الصين الجنوبي. مع ذلك، فإن الدعامة الأساسية لنفوذ أمريكا على الصين هي تايوان، وينظر الاستراتيجيون الأمريكيون إلى الجزيرة على أنها حاملة طائرات غير قابلة للإغراق، وقد عزّزتها الولايات المتحدة بمعدات عسكرية لإحباط أي محاولة للضم من الأرض الرئيسية، ومن ناحية أخرى، تعتبر الصين تايوان جزءًا لا يتجزأ من صين واحدة، ومصدرًا لإذلال كبير طالما دامت الجزيرة في فلك أمريكا.
على الرغم من الخطط الأمريكية المضنية التي تهدف إلى دعم احتواء الصين، تمكَّنت بكين من وضع البلاد على طريق نيزكي نحو الهيمنة الإقليمية، ونمت بسرعة لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم في عام 2010م، متجاوزة اليابان، وتتمتَّع حاليًا بنسبة 17٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة[44،43]. في غضون ثلاثة عقود، نما اقتصاد الصين كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للولايات المتحدة: من 6٪ في عام 1990م إلى 67٪ في عام 2019م [46،45]، بينما الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفياتي في ذروته وصل إلى 50٪ فقط بالنسبة للولايات المتحدة، وقد تنافست بشكل قوي مع أمريكا على السيادة العالمية.
إلى جانب النمو الاقتصادي الممتاز، زادت براعة الصين التكنولوجية بشكل كبير، لا سيما في مجال الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي، وقد حذّر رئيس شركة (Alphabet) (إريك شميدت) من تفوُّق الصين على الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي[47]. على الجبهة العسكرية، أحرزت الصين تقدُّمًا غير عادي في تقليص الفجوة مع أمريكا، وفي عام 2000م أشارت وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن «القوات البرية والجوية والبحرية لجيش التحرير الشعبي كانت كبيرة ولكن عفا عليها الزمن في الغالب»[48]، وبعد عشرين عامًا، لاحظت وزارة الدفاع أن «الصين على مدى العقدين الماضيين قد حشدت الموارد والتكنولوجيا والإرادة السياسية لتقوية وتحديث جيش التحرير الشعبي في جميع النواحي تقريبًا، وهي تتقدم بالفعل على الولايات المتحدة في بعض المجالات»[49]، والتحسُّن الواسع في القدرات العسكرية الصينية أمر مقلق حقًا للاستراتيجيين العسكريين الأمريكيين.
يكمن الخلل في استراتيجية احتواء الصين في الاعتقاد الخاطئ بأن تقييد طموحات الصين الإقليمية ودمج اقتصاد الصين في الوقت نفسه في النظام الاقتصادي العالمي الذي يهيمن عليه الغرب سيسمح للولايات المتحدة بإضفاء الطابع الديمقراطي وإدارة صعود الصين. في عام 2000م، ربط الرئيس كلينتون صراحة بين النمو الاقتصادي وتعزيز الديمقراطية مع دعم انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وقال: «بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، فإن الصين توافق على استيراد واحدة من أعز قيم الديمقراطية (الحرية الاقتصادية)، وكلما زادت الصين من تحرير اقتصادها، زادت قدرتها على تحرير إمكانات شعبها»[50]. فتحت الصين اقتصادها ببراعة وَفقًا لقواعد اللعبة الخاصة بها، في نمو اقتصادي مذهل، دون أن يتنازل الحزب الشيوعي الصيني عن السلطة، وقد استغرقت أمريكا عقدًا جيدًا أو نحو ذلك، قبل أن تتمكن من الرد على أخطاء سياسة الاحتواء في الصين.
في عام 2012م، أعلن الرئيس أوباما عن الاستراتيجية المحورية التي طال انتظارها بين الولايات المتحدة وآسيا، والتي تتألف أساسًا من إعادة وضع 60٪ من الأسطول البحري الأمريكي من أوروبا إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وحذا الرئيس ترامب حذو سلفه وبدأ حربًا تجارية مع الصين استهدفت على وجه التحديد صناعة التكنولوجيا الفائقة في الصين، ولم تؤثر أي من هذه الإجراءات على صعود الصين.
ينظر بعض المراقبين مثل دالي إلى فشل أمريكا في احتواء الصين كدليل على أن الصين ستحل محل أمريكا لقيادة العالم في المستقبل غير البعيد؛ ويتوقع آخرون، مثل فريد زكريا من قناة (CNN) أن الولايات المتحدة والصين ستستقران على ترتيب ثنائي القطبية مشابه للترتيب الأمريكي السوفياتي[51]، وتستند هذه الآراء إلى إعادة تقييم القوة الأمريكية وتراجعها الملحوظ.
في الواقع، لقد تنبَّأ بعض المفكرين البارزين في السياسة الخارجية الأمريكية بانحدار أمريكا قبل عقدين من الزمن، لكنهم وصفوه بالنسبي وغير المطلق. وفي عام 1997م، وفي ذروة القوة الأمريكية، توقَّع بريجنسكي زوال أمريكا الذي لا مفر منه، وكتب في صحيفة الجارديان: «إنه بمجرد أن تبدأ القيادة الأمريكية في التلاشي… ما ستورثه أمريكا للعالم…»[52]. وفي كتابه «الشؤون الخارجية» في عام 1999م، توقَّع هاس أن «التفوق الأمريكي لن يدوم» باعتباره «موقف وسياسة أمريكا الذي يقوم على من يأكل الآخرين حتمًا»[53[.
ليس هناك شك في أن استقطاب النظام السياسي الأمريكي وضعف قوتها الوطنية (لا سيما القوة الاقتصادية والعسكرية) أدَّى إلى انحدار الدولة الرائدة في العالم قبل جائحة كوفيد-19، وأدى التدهور في علاقات أمريكا مع أوروبا والتراجع عن روسيا والصين إلى تراجع تفوُّق أمريكا بشكل أكبر، وعلاوة على ذلك، فإن ضعف أمريكا يعني ضعف الغرب أيضًا، وقد قوّض سوء التعامل مع فيروس كورونا في الغرب الثقة في القيادة الأمريكية والأوروبية بشدة، وتركت قومية اللَقاح وصمة عار أخرى غير مواتية للكفاءة الغربية للقيادة، وهذا في تناقض ملحوظ مع دبلوماسية اللقاحات التي أجرتها روسيا والصين لتحسين صورتهما بين الدول الأكثر فقرًا في العالم.
فرصة المسلمين لإزاحة القوى العظمى
مع خروج العالم من الوباء، من الواضح جدًا أن هيمنة الغرب على العالم لن تظلَّ أبدًا كما هي، يقول الله تعالى: ]وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٞۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ ٣٤[، وهنا تكمن فرصة البلاد الإسلامية للتحرر من الهيمنة الغربية.
إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليئة بأمثلة عن كيفية الاستفادة من الوضع الدولي ومتابعة صراع القوى العظمى، كمثل الصراع بين الرومان والفرس، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدركًا تمامًا لقدراتهم، وهناك الكثير مما يمكن للمسلمين تعلمه وتطبيقه على وضعهم اليوم.
نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيئة سياسية قوية، حيث كانت قريش تراقب ميزان القوى بين الرومان والفرس؛ وذلك لأن قريشًا كانت لها اتفاقيات تجارية مع كلتا القوتين، وتابعت الأحداث لضمان الحياد في أي نزاع بين القوتين العظميين خشية أن يؤثر ذلك على تجارتها، وفي إحدى الحوادث، دخل أبو بكر في رهان على توقُّع قريش لانتصار روماني على بلاد فارس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدركًا تمامًا للضعف النسبي للرومان مقارنة بالفرس، وكان يعلم أن الرومان سيعكسون هذا الانحدار ليهزموا فارس في فترة زمنية معينة؛ ولذلك أمر أبا بكر بزيادة طول الوقت وعدد الإبل في رهانه مع قريش. في مناسبات أخرى، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل في أدق التفاصيل لتقدير ما إذا كان أولئك الذين يعطون النصرة لديهم القوة الكافية، ليس فقط لإقامة الدولة الإسلامية ولكن لتوسيعها وإزاحة الهيمنة الرومانية والفارسية، وحتى عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه لإقامة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، كان يراقب باهتمام الرومان والفرس لتقليل أي تأثير على إقامة الدولة الإسلامية.
لم يتجاهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضع الدولي أو ما كان يخطط له الرومان والفرس، وفي عام 629م أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمن المدينة المنورة مهدَّد من جهة قريش المعادية في الجنوب ويهود خيبر المحاربين في الشمال؛ مما جعل الوضع أكثر خطورة على الدولة الإسلامية الوليدة، وكان الرومان يبحثون عن قاعدة في شبه الجزيرة العربية، وكانت خيبر مرشحًا واضحًا، مع ذلك، فإن توقيع معاهدة الحديبية مكَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحييد التهديد اليهودي ومنع الرومان من توسيع سيطرتهم. لقد استمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النهج بعد موته، وعندما حارب أبو بكر وعمر بن الخطاب كلًّا من الرومان والفرس في وقت واحد، كانا يدركان جيدًا أنه بعد ستة وعشرين عامًا من الحرب، دخلت كلتا القوتين فترة تراجع نسبي، فاستفادت الدولة الإسلامية من هذا الضعف لتوجيه ضربة قاضية لكلا القوتين.
لذلك يتحتم على المسلمين أن يتابعوا بشكل منهجي الوضع الدولي، ويقيِّموا انحدار القوى العظمى وصعودها، ويبحثوا دائمًا عن فرص لإعادة الدولة الإسلامية ومن ثم توسيعها، فهل هناك ما يكفي من الشجاعة والصدق للقيام بهذه المهمة اليوم؟! قال الله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧).
المراجع:
[24] Amdad, K. (2020). Largest Economies in the World: Why China Is the Largest, Even Though Some Say It’s the U.S. the balance. Available at: https://www.thebalance.com/world-s-largest-economy-3306044
[25] Fortune. (n.d.) Fortune: Global 500, Fortune. Available at: https://fortune.com/global500/2019/search/
[26] OECD, (2021). Household disposable income (indicator). doi: 10.1787/dd50eddd-en
[27] Visual Capitalist, (2021) The U.S. Share of the Global Economy Over Time. Available at: https://www.visualcapitalist.com/u-s-share-of-global-economy-over-time/
[28] CPI Inflation Calculator, (2021) Value of $1 from 1960 to 2021. Available at: https://www.in2013dollars.com/us/inflation/1960?amount=1
[29] Fortune Media. (2020 FORTUNE Releases Annual FORTUNE Global 500 List. Available at: https://www.prnewswire.com/news-releases/fortune-releases-annual-fortune-global-500-list-301119164.html
[30] Telford, T. (2019), Income inequality in America is the highest it’s been since Census Bureau started tracking it, data shows. Washington Post, Available at: https://www.washingtonpost.com/business/2019/09/26/income-inequality-america-highest-its-been-since-census-started-tracking-it-data-show/
[31] Time, (2020). The Top 1% of Americans Have Taken $50 Trillion From the Bottom 90%—And That’s Made the U.S. Less Secure. Time, Available at:https://time.com/5888024/50-trillion-income-inequality-america/
[32] Vine, D. (2015). Where in the World Is the U.S. Military? Politico. Available at:https://www.politico.com/magazine/story/2015/06/us-military-bases-around-the-world-119321
[33] Statista, (2020). The 15 countries with the highest military spending worldwide in 2019. Statista. Available at: https://www.statista.com/statistics/262742/countries-with-the-highest-military-spending/
[34] Daggett S. (2010). Quadrennial Defense Review 2010: Overview and Implications for National Security Planning, Congressional Research Service. Available at: https://fas.org/sgp/crs/natsec/R41250.pdf
[35] New York Times, (2018). U.S. Military’s Global Edge Has Diminished, Strategy Review Finds. New York Times. Available at: https://www.nytimes.com/2018/11/14/us/politics/defense-strategy-china-russia-.html
[36] Arkin, W. (2019). Fewer Americans want to serve in the military. Cue Pentagon panic, The Guardian. Available at: https://www.theguardian.com/commentisfree/2019/apr/10/fewer-americans-serve-military-pentagon-panic
[37] Synovitz, R. (2003). U.S.: Two Years After 9/11, ‘Two Wests’ Emerging With Fundamental Differences. Radio Free Europe. Available at: https://www.rferl.org/a/1104302.html
[38] BBC, (2017). Merkel: Europe ‘can no longer rely on allies’ after Trump and Brexit. BBC. Available at: https://www.bbc.com/news/world-europe-40078183
[39] Sky News, (2018). Donald Trump ridicules Emmanuel Macron with jibe over First and Second World Wars. Sky News. Available at: https://news.sky.com/story/donald-trump-ridicules-emmanuel-macron-with-jibe-over-first-and-second-world-wars-11553193
[40] New York Times, (2021). Biden Tells Allies ‘America Is Back,’ but Macron and Merkel Push Back. The New York Times. Available at: https://www.nytimes.com/2021/02/19/us/politics/biden-munich-conference.html
[41] Gates, R. (2014). Putin’s Challenge to the West. Wall Street Journal. Available at: https://www.wsj.com/articles/SB10001424052702303725404579460183854574284
[42] Kitap Sun, (2000). RUSSIAN NAVY: Feelings of shame, disgrace. Kitap Sun. Available at: https://products.kitsapsun.com/archive/2000/08-22/0006_russian_navy__feelings_of_shame__.html
[43] ibid. 15
[44] Council of Foreign relations, (2020).Timeline: US Relations with China. Council of Foreign Relations. Available at: https://www.cfr.org/timeline/us-relations-china
[45] ibid. 15
[46] The World Bank, (n.d.). World Development Indicators. The World Bank. Available at: https://datatopics.worldbank.org/world-development-indicators/
[47] James, V. (2017). Eric Schmidt says America needs to ‘get its act together’ in AI competition with China. The Verge. Available at: https://www.theverge.com/2017/11/1/16592338/eric-schmidt-google-ai-competition-us-china
[48] Department of Defense, (2020). Military and Security Developments Involving the People’s Republic of China 2020. Department of Defense, Available at: https://media.defense.gov/2020/Sep/01/2002488689/-1/-1/1/2020-DOD-CHINA-MILITARY-POWER-REPORT-FINAL.PDF [48] ibid. 47
[49] ibid. 47
[50] Johns Hopkins University, (2000). Full Text of Clinton’s Speech on China Trade Bill. Available at: https://www.iatp.org/sites/default/files/Full_Text_of_Clintons_Speech_on_China_Trade_Bi.htm
[51] Zakaria, F. (2020).China-US rivalry poses world’s greatest challenge, but we can prosper. The Sunday Morning Herald. Available at: https://www.smh.com.au/national/china-us-rivalry-poses-world-s-greatest-challenge-but-we-can-prosper-20201125-p56hwe.html
[52] Brzezinsky, Z. (1997). The Grand Chessboard. New York: Basic Books. Pp. 210
[53] Haass, R. (1999). What to Do With American Primacy. Foreign Affairs. Available at: https://www.foreignaffairs.com/articles/1999-09-01/what-do-american-primacy.
2021-07-31