واقع الأمَّة بين دوافع التغيير ومقومات النجاح
2021/05/24م
كلمات الأعداد
4,849 زيارة
محمد شريف – ولاية العراق
إنَّ وجود عوامل تدفع الإنسان نحو تغيير واقعه أمر لازم له قبل التفكير بالتغيير والعمل عليه، ولا يمكن للتفكير والعمل أن يكون منتجًا من دون وجود دراسة لمقوِّمات نجاحه، فبدون مقوِّمات حقيقية وكافية يصبح الحديث عن التغيير ضربًا من الخيال ومضيعة للوقت والجهد، وإذا نظرنا إلى واقع أمتنا الإسلامية نرى أنها تمتلك هذين الأمرين: دوافع التغيير، ومقومات النجاح.
أمَّا دوافع التغيير، فإنَّها تتمثل في أمور ثلاثة: فكرية، واقتصادية، واجتماعية.
فالدافع الفكري، وهو الأهم، يتمثل بالحاجة إلى إحلال أفكار الإسلام ومعالجاته بدل أفكار العلمانية الضحلة، وهذا ينطلق من العقيدة التي يعتنقها المسلمون، والتي أساسها أنَّ الكون والإنسان والحياة مخلوقة لخالق، وهو المدبر لشؤون خلقه؛ ما يقتضي وجوب الانقياد لأوامر هذا الخالق، واتِّباع رسالته التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم، والتي تتضمن حلولًا ربانيةً محكمةً لمختلف مشاكل الحياة البشرية، وتكون كفيلة بإنتاج طراز عيش فريد من نوعه، وهو ما كان واقعًا ملموسًا لدى المسلمين – وغيرهم – لقرون عدة، وتؤدي إلى عيش الناس في مجتمع منضبط غير مضطرب، يأخذ الحلول من محتوى فكري يؤمن بصحته وقدرته على المعالجات، مهما اختلف الزمان والمكان، ويكون بعيدًا عن الاضطراب الفكري والسلوكي الذي ينتجه تبنِّي الحلول بخلاف المحتوى الفكري الذي يؤمن به المجتمع.
قد يقول قائل: هل بقيت هذه المسألة دافعًا قويًا في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالأمَّة الإسلامية، فضلًا عمَّا نراه من سطحية تفكير غالب الجيل الحالي الذي تأثر في طريقة تفكيره وسلوكه، بل حتى في مظهره، بأفكار العلمانية النتنة؟
نقول إنَّ الربط بين ما نعانيه من أزمات بالإعراض عن شرع الله وبين تغييبه عن واقع الحياة هو حجر الزاوية في إنجاح أي مشروع دعوي يهدف إلى إحداث تغيير جذري على أساس مبدئي، قال تعالى: (فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤) ونفهم من الآية الكريمة أن اتِّباع هدى الله هو شرط السعادة، والإعراض عنه يجلب ضنك العيش وخسارة الآخرة؛ ليكون ذلك ركيزة أساسية في عمل الكتلة من خلال إذكاء هذه الفكرة في مجتمعات المسلمين لتكون سيادة أحكام الشريعة مطلبًا جماهيريًا أو رأيًا عامًّا على الأقل يسهل من خلاله الوصول للهدف المنشود.
ثم بعد ذلك يأتي العامل الاقتصادي وما تعانيه بلاد المسلمين من تدهور الوضع المعيشي في الترتيب الثاني من حيث الأهمية كدافع نحو التغيير، لا سيما إذا علمنا أنَّ ٣٧٪ من سكان البلاد الإسلامية يعيشون تحت خط الفقر، ويمثلون حوالى ربع سكان العالم، في حين إن بلدانهم تنعم غالبها بثروات كثيرة وبمقومات نهوض اقتصادي كبيرة. ونسبة الفقر هذه لا تعكس مقدار غنى أو فقر البلدان التي ينتمي إليها هؤلاء الفقراء، فقد تكون مرتفعة في بلد ينعم بالثروة، فأفريقيا على سبيل المثال تنتج ٩٥٪ من الألماس في العالم، في حين يقبع أكثر من نصف سكان هذه البلاد تحت خط الفقر، وهل يعقل أنَّ بلدًا مثل السودان بما يمتلك من أراضٍ صالحة للزراعة يعاني من أزمة خبز مثلًا؟! وهذا يعكس فشل إدارة هذه البلدان من الأنظمة الرأسمالية الحاكمة، وهذا يكشف حقيقة النظام الرأسمالي، فهو يجعل تركُّز الثروة بيد عدد قليل من مجموع الشعوب، فبحسب تقرير لمنظمة أوكسفام البريطانية غير الحكومية فإن ثروة 10% من سكان العالم تعادل ثروة بقية سكان العالم جميعًا!
ولا ريب أن هناك ارتباطًا بين نسبة الفقر والبطالة، فبحسب ما نشره المكتب الإقليمي الخاص بالدول العربية لمنظمة العمل الدولية عام ٢٠١٦م، فإنَّ نسبة البطالة بين الشباب في الدول العربية تصل إلى ٣٠٪ وهذه المشكلة موجودة حتى في الدول الصناعية المتقدمة، ولو بنسب أقل. وهذا إن دلَّ فإنه يدلُّ على أن النظام الرأسمالي هو نظام سيِّئ لكل الشعوب بما فيها شعوبه.
أمَّا ما يخص الغذاء فبحسب الإحصاءات الرسمية يبلغ عدد الجياع في العالم ٨٢١ مليون جائع، ويعاني ١٥٠ مليون طفل في العالم من تقزُّم بسبب سوء التغذية، وأمَّا الأمن الغذائي،((1)) فبحسب التقارير الرسمية لعام 2019م، يعاني أكثر من ملياري شخص حول العالم من انعدام الأمن الغذائي، ولا ريب أنَّ انعدام الأمن الغذائي والسكن الصحي الملائم كفيل بإحداث مشاكل صحية عديدة في مجتمعات تعاني أصلًا من أنظمة صحية مهترئة.
إنَّ العيش تحت خط الفقر يعني المساس بشكل مباشر بحياة الشعوب، وجعل أساسيات العيش الكريم من مأكل وملبس ومسكن مناسب في مهب الريح، أفلا يكون ذلك كله دافعًا للبحث عن التغيير؟!
أمَّا المشاكل والأزمات الاجتماعية فلا تقلُّ أهمية عن سابقتها كدافع نحو التغيير، وهي في الغالب نتاج الأزمات الفكرية والاقتصادية آنفة الذكر، وسنضرب أمثلة على المشاكل الاجتماعية الأكثر أهمية وتأثيرًا في المجتمع، فمشكلة الإدمان على المواد المخدرة أصبحت مشكلة عالمية تعاني منها غالبية مجتمعات دول العالم، ففي عام ٢٠١٧م تحدَّث التقرير العالمي للمخدرات عن وجود ٢٧١ مليون مدمن حول العالم، وهو ما يمثل 5.5% من سكان العالم، منهم ٣٠ مليونًا يعانون من اضطرابات نفسية.
أمَّا عن جرائم الاغتصاب، فإنَّ ارتفاع عددها متوقع في ظل غياب الرادع؛ إلا أنَّ الغريب أن تكون السويد في المرتبة الرابعة، والولايات المتحدة في المرتبة الحادية عشرة، من بين أعلى الدول تسجيلًا لحالات الاغتصاب، ولم تكن بلاد المسلمين بمنأى عن هذه المشكلة أبدًا، مع أن هذا الأمر بعيد عن أن يكون من مشاكل المسلمين لو كان الإسلام هو المطبق؛ على أنَّ المستغرب في هذه الإحصائيات أنَّ هذه الدول تتمتع بأنظمة تدَّعي أنها أنظمة ديمقراطية رصينة، وليست مجموعات عائلية رأسمالية تحكم البلد، وتتسلَّط على رقاب الناس دون حسيب أو رقيب كما في الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين.
ومن المشكلات المجتمعية الأخرى التي تعصف بمجتمعات المسلمين ازدياد حالات الطلاق بشكل مضطرد وعزوف الشباب عن الزواج، فبحسب إحصائية صادرة عن مجلس القضاء الأعلى العراقي عام ٢٠٢٠م شكلت نسبة الطلاق ٢٣٪ من حالات الزواج، أمَّا في مصر فقد كشف الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عام ٢٠١٩م أنَّ حالات الطلاق وصلت إلى ٢٣٧.7 حالة طلاق بمعدل حالة كل دقيقتين، ولا تختلف دول مجلس التعاون الخليجي عن هذه الإحصاءات كثيرًا، ولا يخفى أنَّ هذه المشكلة تولِّد آثارًا وخيمة على المجتمع من فقدان الأطفال للأسرة الحاضنة السليمة، والآثار النفسية المترتِّبة عليهم، وعلى النساء المطلَّقات بشكل خاص، وتُدخل المجتمع في دائرة مغلقة من الأزمات.
هذا غيض من فيض مشاكل المجتمع، وهناك مشاكل عديدة أخرى لا يتَّسع المقام لذكرها، بل نكتفي بالإشارة إليها كعقوق الوالدين، والأمية، وقطيعة الأرحام، والعنف الأسري، وسوء الخلق، وغيرها، وهذه نماذج من مشاكل المجتمع وليست كلها، فاستبدال أنظمة من وضع البشر بنظام الله تعالى نتيجته الشقاء حتمًا.
إنَّ تصدِّي أي كتلة للعمل على تغيير هذا الواقع المرير يجب أن يتضمن دراسة موضوعية واعية للعوامل الكفيلة بإنتاج التغيير. فإيجاد حلول لمشاكل اقتصادية واجتماعية لمجتمع ما لا بُدَّ أن يسبقه عامل فكري، يتمثل في فكرة عميقة شاملة ومستنيرة حول الحياة التي يعيشها البشر، وهذه هي العقيدة الإسلامية، التي تقوم على أنَّ لهذا الكون خالقًا مدبرًا لشؤونه، وهذه هي الفكرة الكلية التي يعتنقها أكثر من مليار وثمانمائة مليون مسلم على وجه الكرة الأرضية، وهي كفيلة بترسيخ قاعدة أنَّ حل جميع هذه المشاكل عند ربِّ البشر، العالمِ بخلقه المدبرِ لشؤونهم، إضافة إلى أنَّ سر نجاح هذه الفكرة في إنجاز التغيير هو أنَّها عقيدة مقنعة للعقل موافقة للفطرة، فلم تأتِ حلًا وسطًا، بل نتاج عملية تفكير تنتج قناعة محكمة بالفكرة، ودافعًا للعمل على إيجادها في واقع الحياة.
لكن هذا الحل أو الفكرة يفتقر إيجادها في واقع الحياة إلى عمل كتلوي جماعي وليس فرديًا، وقد ظهرت طلائع هذه المحاولات عندما انبرى الرائد الذي لا يكذب أهله، حزب التحرير، لهذه المهمة منذ خمسينات القرن الماضي رافعًا غايته، وهي استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة شعارًا لمسيرة عمله.
إنَّ العامل الفكري لا بُدَّ له من عامل بشري يتمثل في جماعة مفكِّرة مؤثرة في المجتمع، تلتفُّ حول القيادة الأولى، وتتقبَّل مشروعها، وتعمل معها على وضع لمسات التطبيق وآلياته، وفئة أخرى مقودة تتَّقِد في داخلها جذوة الإسلام، وتتوق إلى تطبيقه، وتبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك، وتتولَّى جعل الفكرة موضع التطبيق، وتمثِّل هذه الطبقة الحجر الأساس في ديمومة الإنتاج، وكذلك تمثِّل خط الدفاع عن المنجَز في حالة الاعتداء.
أمَّا حلول الأزمات الاقتصادية، فتحتاج إلى عوامل مادية تجعل الأفكار قابلة للتطبيق، ومنتجة في الوقت نفسه. فبلاد المسلمين تزخر بالثروات مما يسيل لعاب أعدائها في السيطرة عليها، من نفط وغاز ومعادن مختلفة، منها ما هو مكتشف ومنها ما هو في طور الاكتشاف، ما يجعل الدولة الإسلامية دولة غنية لديها الموارد المهمة التي تجعلها من الدول التي لا مناص للدول الأخرى من التعامل التجاري معها، ممَّا يزيد من دخلها ويجعلها قوة اقتصادية مؤثرة في الساحة السياسية العالمية، فضلًا عن وفرة الأراضي الصالحة للزراعة، والمياه العذبة اللازمة للسقي… إلخ، كل هذه العوامل تجعل تأمين غذاء الناس أمرًا يسيرًا.
إنَّ ما ذكرناه من ثروات طبيعية من معادن تدخل في أحكام الملكية العامة، وأراضٍ زراعية، إضافة إلى تطبيق أحكام الزكاة، كفيلة بالقضاء على مشكلة الفقر، ولا شكَّ في ذلك، كما أنَّ عوائد الدولة من التصدير والإنتاج كفيلة بتوفير السيولة النقدية اللازمة للتنمية المستدامة والتطور التكنولوجي. هذا وقد أصدر حزب التحرير كتابه المتبنى في هذا الصدد (النظام الاقتصادي في الإسلام) وأتبعه بـ (السياسة الاقتصادية المثلى) ليكون المرتكز الفكري لتطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد، والتي لا تمتُّ بصلة إلى ما نعرفه من أنظمة الاقتصاد الرأسمالية المتغوِّلة.
أمَّا ما يخص الأزمات الاجتماعية، فالشريعة الإسلامية فيها معالجات وافية لما تمَّ ذكره في هذا الصدد، وقد أصدر حزب التحرير كتابًا بهذا الخصوص عنوانه: (النظام الاجتماعي في الإسلام) فيه أحكام الإسلام لمختلف المشاكل الاجتماعية بشيء من التفصيل، والقائم على أحكام ربَّانية توجد الطمأنينة والاستقرار الأسري القائم على العفة والطهارة، والذي يقف على طرف نقيض من النظام الرأسمالي المتهتِّك الساقط الجدران.
إنَّ ما تم توضيحه من عوامل نجاح مشروع التغيير من العامل الفكري العقدي الربَّاني، والثروة البشرية الاستراتيجية، والخصائص الاقتصادية لبلاد المسلمين… فإنه موجَّه لعموم المسلمين الذين اعتادوا على وجود هذه الدول القائمة الفاشلة، والمستمِدة شرايين حياتها من النظام الرأسمالي الفاسد؛ ولكن المسلمين اليوم باتوا على اطلاع عام على هذه المقومات المتينة، وعلى تاريخهم المجيد؛ وذلك من خلال ما يطلعون عليه من حياة عز المسلمين يوم كانت لهم دولة إسلامية، كانت هي الدولة الأولى في العالم لقرون طويلة، ومن خلال ما يروى لهم من مآثر الخلفاء الراشدين وغير الراشدين ممن طبقت عدالتهم وقوتهم وحنكتهم الآفاق حتى خضع لها حكام الغرب أنفسهم
إن مما يقوي توجُّه المسلمين نحو إقامة حياتهم على أساس دينهم هو أن التاريخ الإسلامي كان في معظمه ترجمة لتعاليم الإسلام في الجهاد والحكم والرعاية وقيام كل حياة المسلمين عليه… فالدولة الإسلامية هي جزء من الإسلام، ومهما حاول الغرب أن يغيَّر هذه الفكرة ويحاربها فإنه قد فشل وسيستمر فشله، وستقوم للإسلام خلافته الراشدة التي بشَّر الصادق المصدوق سيد ربع سكان الكرة الأرضية سيدنا محمد ﷺ أنها تكون في آخر الزمان بقوله: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة».
قال تعالى: (وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥).
(1) هو الحالة التي يتحقق فيها الحصول على الغذاء الكافي والآمن والمغذي لكل الافراد، وفي كل الأوقات، بشكل يلبي احتياجاتهم الغذائية، كما يناسب أذواقهم الغذائية المختلفة بما يدعم حياة نشطة وصحية.
2021-05-24