مع القرآن الكريم: الآثار الدينية للحكم بغير ما أنزل الله (2)
2006/12/30م
المقالات
2,039 زيارة
مع القرآن الكريم:
الآثار الدينية للحكم بغير ما أنزل الله (2)
4- الحرمان من التوفيق إلى التوبة:
من أشد ما يمكن أن يعاقب به المرء في الدنيا، أن يُحرم من التوفيق إلى التوبة. وإن العمل الذي يؤدي إلى هذا الحرمان، لابد وأنه -بداهة- من شر الأعمال عند الله، والقرآن الكريم يبين أن من الأعمال التي تعرض فاعلها للحرمان من التوبة: تحريف ما أنزل الله، وإخضاعه للهوى أخذاً أو رداً، وقد ذكر أن أعداء هذه الأمة ومريدي الشر بها من كفار أهل الكتاب وأوليائهم من المنافقين هم أرباب ذلك الفعل الشنيع فقال تعالى مواسياً رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لا يحزن من فعالهم: ( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [المائدة 41].
قال ابن كثير في تفسيرها: «نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل: ( مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي أظهروا الإيمان بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون ( وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا) أعداء الإسلام وأهله». فهؤلاء وأولئك بسبب انحرافهم عن الشريعة بتبعيضها وتحريفهم إياها بتأويلها كانت عقوبتهم من الشدة بحيث تتلائم مع فظاعة جرمهم: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) أي أن الله تعالى حتَّم عليهم أن لا يتوبوا من ضلالتهم بحجب توفيقه إياهم إليها، فلا يرجعون عن كفرهم… هؤلاء الذين لم يرد الله أن يطهر من دنس الكفر ووسخ الشرك قلوبهم بطهارة الإسلام ونظافة الإسلام فيتوبوا».
5- خفة الدين وضعف الإيمان:
يضعف الإيمان -تصوراً وسلوكاً- في جمهور الناس إذا لم يجد من يرعاه بشريعة تُقام، وحد يُطبق، وشعيرة تُظهر، وبقدر ما يكون الانحراف عن أحكام الله بقدر ما يكون لذلك أثر معاكس في حالة الأمة الإيمانية لأن أحكام الله من شأنها أن تنشر الهداية، وتمكن للأخلاق، وتيسر أسباب العبادة، وتخفف على الناس التكاليف، في حين أن أحكام غيره ليس من ورائها إلا الميل العظيم والضعف في الدين. قال تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) [النساء 26-28].
فالإعراض عن شريعة هذا شأنها، هو إعراض عن الهداية والتوبة والتخفيف وعن البيان والإيمان، وليس أدل على خطر الإعراض عن الإيمان من قول الله تعالى: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [النساء 65]. فعندما ينتشر على مستوى الأمة عدم تحكيم الرسول، ويستشري فيها عدم التسليم لحكمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بحيث لا ترعوي لذلك، ويستوي عندها أن تتحاكم إلى الشرع المنزل أو إلى الشرع المبدل، عند ذلك تصير الأمة إلى فوضى في الديانة، واضطراب في السلوك وهشاشة في الإيمان. وهذا ما وقع كثيراً في عصرنا هذا عندما نُحيت الشريعة عن الحكم في أكثر بلاد المسلمين، مما نشأ عنه ما يسميه الأستاذ محمد قطب بظاهرة (التخلف العقيدي) حيث يقول: «… هذا التخلف العقيدي -الذي هو عقدة العقد في حياة الأمة في الفترة الأخيرة- قد وصل إلى أقصى درجاته في القرن الأخير خاصة، حين نُحيت الشريعة الربانية عن الحكم على يد الغزو الصليبي الجائح». وقال: «إننا نريد هنا أن نحدد المعيار الذي نقيس به مرجع المسلمين في كل أمر من أمور حياتهم، والمعيار كذلك هو حياة الأجيال الأولي في المسلمين التي طبقت هذا الدين في عالم الواقع التزاماً بمقتضيات الإيمان، سواء في مجال التصور، أو مجال السلوك.
فكلما اقتربنا من الكتاب والسنة من حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم فنحن “متقدمون” عقيدياً وسلوكياً كذلك، وكلما تأخرنا عن الكتاب والسنة وعن حياة السلف الصالح فنحن متخلفون في مجال العقيدة، وبالتالي في مجال السلوك».
6- الصد عن سبيل الله:
إذا كان المسلمون في ديارهم يضارون في إيمانهم بتضييع الحكام لشريعة الله، فإن غير المسلمين كذلك ليسوا أقل ضرراً، ولا أدنى ضياعاً، ففي الأجواء البعيدة عن حكم الله ورسوله تتهيأ الفرصة لأكبر صد عن سبيل الله، إذ كيف يقبل الناس على الدخول في دين يرونه غير معظّم عند أهله، وغير مطبق في دياره، بل محارب في أكثر الديار؟!
إن الصد الأكبر عن سبيل الله هو أحد الآثار القبيحة للحكم بغير ما أنزل الله. وفي كتاب الله نجد ارتباطاً وثيقاً بين الانحراف عن شرع الله والصد عن سبيل الله، فعلاقتهما ببعضهما علاقة السبب بالمسبب، قال تعالى عن مشركي العرب الذين اعتاضوا عن اتباع شرع الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة صادين الناس عن الإسلام ( اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [التوبة 9].
وتحدث القرآن عن صنفين متقابلين من أهل الكتاب في قوله تعالى: ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ) [النساء 160-162]. ففريق كانوا يتعاطون الرشوة على الحكم فيكون من نتيجة ذلك أن يصدوا الناس عن الدين إضافة إلى أكلهم الربا وأموال النـاس بالباطل. فاســتحقوا بذلك التضييق عليهم والتوعد بالعذاب الأليم. وفي مقابلتهم قوم من أهل الكتاب آمنوا بشـريعتهم ثم آمنوا بالشريعة الحقة الناســخة فكـانوا مثلاً يقتدى بهم فاستحقوا بذلك الأجر العظيم وقد ضرب الله مثلاً في موضع آخر بفريقين آخرين: قال تعالى: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) [محمد 1-3]. فبسبب اتباع الفريق الأول للشيطان وما عنده من الباطل، كانوا كفاراً صادين عن سبيل الله، وبسبب أن الآخرين اتبعوا الحق الذي لا محيد عنه كانوا من أهل الإيمان والإصلاح وتكفير السيئات.
ولهذا الارتباط الوثيق بين الانحراف عن شرع الله والصد عن دين الله استحق الصادون عن السبيل اللعنة والطرد من رحمة الله. قال تعالى: ( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ) [الأعراف 44-45]. إن الحاكمين والمتحاكمين إلى غير ما أنزل الله هم على رأس هؤلاء الظالمين. فكم أخرجوا أناساً من الدين، وكم أضاعوا الآخرة على كثير من العالمين. فهم في الوقت الذي يكلفون فيه بنشر الدعوة ويؤتمنون على حفظ الشريعة، نراهم يصدون عن هذه الدعوة، ويضيعون هذه الشريعة بل ويضعون العقبات أمام هداية الناس إلى الصراط المستقيم. فهم مستحقون للعنة لأنهم مسؤولون عن قسط كبير من الضياع الذي تعانيه البشرية كلها بسمؤوليتهم عن غياب الإسلام القائم في كيان قوي متقدم.
يقول الأستاذ محمد قطب: «إن الضياع الذي تعيشه البشرية في أزمنتها الحاضرة، يدفع ألوفاً من البشر كل عام ممن يبحثون عن طريق الخلاص أن يدخلوا في الإسلام في أوروبا وأميركا وأستراليا وأفريقيا… ولو كان الإسلام حاضراً في هذه اللحظة متمثلاً في مجتمع إسلامي حقيقي، لكانت هذه الألوف قد أصبحت ملايين» بل عشرات الملايين، بل مئات الملايين…
2006-12-30