مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
2014/12/15م
المقالات
3,785 زيارة
مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
يبين الله سبحانه في هذه الآيات ما يلي:
-
يُذكِّرنا الله سبحانه أن إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – قد رفعا قواعد البيت الحرام (الكعبة) بأمر الله سبحانه، وكانا وهما يبنيان البيت يسألان الله سبحانه أن يتقبل عملهما خالصاً لوجهه الكريم.
( وَإِذْ يَرْفَعُ ) أي واذكروا إذ يرفع.
( الْقَوَاعِدَ ) جمع قاعدة وهي الأساس، ونحو ذلك قولهم “قعّدك الله تعالى – في الدعاء – بمعنى أدامك الله تعالى وثبتك” ولذلك يقال لكلّ ما هو ثابت في الأرض وأصل لما فوقه يقال له قاعدة وجمعه قواعد[1] “يرفع القواعد” مجاز عن البناء على القواعد، وذلك لأن ( الْقَوَاعِدَ ) على الحقيقة يبقى على حاله فلا يرتفع، ولكن لأن هيئة القواعد قبل البناء عليها منخفضة فلما بني عليها ما فوقها أصبحت هيأتها مع ما فوقها هي الارتفاع فكان الرفع للبناء وليس للقواعد، أي أن العلاقة المجازية هي السببية.
( تَقَبَّلْ مِنَّا ) قرينة على أن إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – كانا يبنيان بيتاً لله وليس مسكناً لهما بل بيتاً للعبادة لأن ( تَقَبَّلْ ) مرتبط بالعمل الذي هو قربى إلى الله ولا يستعمل في غيرها.
-
أما هل كان إبراهيم – عليه السلام – هو أول من بنى البيت من البشر أم سبقه إلى ذلك غيره فإن في ذلك روايات عدة لعل أرجحها أن آدم – عليه السلام – هو أول من بناه كما جاء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث الله – عز وجل – إلى آدم عليه السلام فقال له ولحواء: ابنيا لي بيتاً. فخط جبريل وجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى إذا أصاب الماء نودي من تحته حسبُك آدم، فلما بنياه أوحى إليه أن يطوف به، فقيل له: أنت أول إنسان وهذا أول بيت“[2] ثم أعاد إبراهيم – عليه السلام – بناءه بعد أن أخذه الطـوفـان فيما أخذ، حتى جاء إبراهيم – عليه السـلام – وأعلمه الله مكانه في وادٍ غير ذي زرعٍ وقام ببـنـائـه هـو وإسماعيل – عليهما السلام -.
وكذلك دلالة ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ) التي ترجح أن مكان القواعد كان موجوداً وبنى إبراهيم – عليه السلام – فوقها.
ثم قوله سبحانه ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) الحج/آية26 والذي يفيد كما قلنا سابقاً أنَّ الله أعلم إبراهيم مكان البيت، وفي هذا ترجيح كذلك أن موقعه كان دارساً غير معروف فأعلمه الله سبحانه إبراهيم – عليه السلام -.
وبذلك فالأرجح أن البيت قد بُني قبل إبراهيم – عليه السلام – وأن آدم – عليه السلام – هو الذي بناه، وبعد الطوفان جُهِلَ مكانه، إلى أن جاء إبراهيم – عليه السلام – فأعلمه الله مكانه وأمره ببنائه ورفعه إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام -.
-
يخبرنا الله سبحانه أن إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – كانا وهما يرفعان القواعد في البيت يسألان الله سبحانه:
أ. أن يتقبل عملهما خالصاً لوجهه الكريم فهو سبحانه سميع الدعاء العليم بإخلاص النية فيه.
ب. أن يجعلهما مسلمَيْن لله خاضعَيْن لأمره سبحانه وأن يجعل من ذريتهما أمةً مسلمةً كذلك.
ج. أن يعلمهما مناسك الحج التي قاما ببناء البيت لأجلها ليكونا أول من يطوف بهذا البيت ويتم المناسك.
د. وأن يتوب عليهما إنه سبحانه التواب الرحيم.
هـ. وأن يبعث سبحانه في الأمة المسلمة من ذريتهما رسولاً منهم يعلمهم القرآن والسنة، ويطهرهم من الشرك فإنه سبحانه العزيز القوي الذي لا يعجزه شيء، والحكيم الذي يُحكم تدبيره ويفعل ما يريد.
( وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا ) (مِنْ) هنا للتبعيض فلم يدعُ إبراهيم لكل ذريته لأنه علم من الله سبحانه أنه سيكون من ذريته ظالمون ( قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).
( مَنَاسِكَنَا ) معـالم الحج فأراهما الله المناسك: الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات إلى المزدلفة فمنى ورمي الجمار وطواف الإفاضة وجميع المناسك.
وأصل (النَسَك) بفتحتين غاية العبادة وشاع في الحج، وواحد (المناسك) منسَك بفتح السين وكسرها وهو المتعبَّد، ولذا قيل للعابد ناسك.
( ) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ) أي محمّداً صلى الله عليه وسلم ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى – عليه السلام -“[3] يشير بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الآية الكريمة وإلى قوله سبحانه: ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) الصف/آية6.
[1] أما (القواعد) بمعنى عجائز النساء فهي جمع (قاعد) أي التي قعدت عن الحيض، فلا تلحق بها تاء التأنيث لأن هذا الوصف لا يستعمل إلا للإناث فلا تلحق به تاء التأنيث لأن استعماله لا يلتبس بين الذكور والإناث، أما لو قصد به القعود الذي هو خلاف القيام لقيل (قاعدة) ولم يجز حينها أن تسقط تاء التأنيث للتمييز فيقال قاعد صفة مذكرة وقاعدة صفة مؤنثة.
[2] تفسير الطبري: 1/547
[3] تفسير الطبري: 1/556، المستدرك: 2/600
2014-12-15