بسم الله الرحمن الرحيم
فشل الإسلام السياسي أم التيارات الإسلامية؟
عطية الجبارين- فلسطين
يكثر في هذا الوقت بعد أحداث مصر وتونس موضوع الإسلام السياسي ومدى قدرته على الحكم، ويتقوَّل البعض، لا سيما من طبقة العلمانيين، إن الواقع أثبت فشل الإسلام السياسي في الحكم وإدارة شؤون الدول، فهل هذا حقيقة أم تجنٍّ على الإسلام ؟! أم أن الفشل هو للنماذج المطروحة، والتي الإسلام منها براء؟.
بعد أن أفضت أحداث الربيع العربي إلى إزاحة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك عن الحكم وفتحت صناديق الاقتراع ليختار الناس من يمثلهم ويحكمهم، حصلت حركة الإخوان المسلمين على الأغلبية في مصر وشقيقتها في المنهج والتابعية (النهضة) على الأغلبية في تونس أيضاً؛ وذلك لشعور الناس العام بأن اتجاه الطرح إسلامي، ولمعاقبة فلول الأنظمة السابقة. فتحوُّل الإخوان من حركة معارضة ليس عليها تبعات ومسؤولية دولة وشعب إلى حركة مسؤولة عن إدارة شؤون الناس ورعايتهم. عندما استلم الإخوان دفة الحكم والمسؤولية في مصر وتونس لم يكن لديهم برامج ومناهج لكيفية إدارة الدول ورعاية الشؤون، واختلط عليهم أمر إدارة الدول وإدارة الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي تفننوا فيها فترات طويلة من الزمن مما جعلهم يسيرون على دساتير وبرامج ومناهج سابقة مناقضة لطروحاتهم، وهذه هي التي جلبت الشقاء للناس، وهي السبب فيما وصلت اليه الشعوب من انحدار. فعلى أرض الواقع لم ترَ الشعوب تغيراً في الحال والواقع لا في المجالات الاقتصادية ولا الاجتماعية ولا السياسية… ولا طرحت معالجات لمشاكل الناس والسير في المعالجة، أي إن الشعوب لم ترَ إلا تغير أسماء الحكام، وبقي الواقع على حاله مما أوجد حالة احتقان وتذمر ضد الإخوان في كل من مصر وتونس دفعت في النهاية للمطالبة برحيل الإخوان عن الحكم استغلها الجيش في مصر كما هو مخطط، فأزاح مرسي… والحال على وشك التكرار في تونس بهذا السيناريو أو بشكل آخر. فكان حال الإخوان في المشاركة أن لا أمل أبقَوا ولا مشاكل حلُّوا، وهذا ما أعطى الجرأة للعلمانيين لرفع صوتهم ووصف هذا الحال بأنه فشل للإسلام السياسي في الحكم، وفشل في معالجة وحل مشاكل الناس الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية كما هو مخطط أيضاً… وبعبارة أخرى أصبح هؤلاء وبصوت جهوري يطالبون بأن يكون الحكم للعلمانية والعلمانيين، فهم الأقدر والأجدر حسب رؤيتهم، يفصل فيه الدين عن الحياة، ويجعل الإسلام وأشياعه يأخذون دور العبادات فقط. أمام هذا الواقع الجديد المتجدد يبرز السؤال الطبيعي: هل الإسلام يعجز عن حل مشاكل الناس ولا يقدر على القيادة والحكم، أم أن المشكلة في النماذج المطروحة من بعض التيارات والحركات الإسلامية؟!
ان القول بفشل الإسلام السياسي وعدم قدرته على الحكم وتغيير الحال هو تجنٍّ وتطاولٌ على الإسلام وعدم فهم لحقيقته. ومن الخطأ والخطر الخلط بين الإسلام والمناهج والنماذج المطروحة من قبل بعض التيارات والحركات الإسلامية. ومن الظلم قياس الإسلام على الحركات واعتبار فشلها فشلاً له .
جاء الإسلام إلى الجزيرة العربية التي كانت قبائل مشتتة تدين بعبادة الأوثان، وليس لها حضارة بين الأمم، وبدأ الرسول B بالدعوة لهذا الدين الجديد حتى كوَّن مجموعة من الأتباع المؤمنين بهذا الدين عقيدةً وملتزمين أحكاماً وسلوكاً، ثم بدأ يبحث عمن ينصر هذه الرسالة حتى تحقق له المراد بإيمان أهل يثرب واستعدادهم للتضحية في سبيل نصرته ونصرة دعاته، فهاجر الرسول إليهم، ولحظة وصوله المدينة أعلن عن ميلاد أول كيان سياسي للمسلمين يحكم الناس بالإسلام ويرعى شؤونهم بالمفهوم الشامل للحكم والرعاية، وسار المسلمون على النهج بعد وفاة الرسول B فبايعوا أبا بكر الصدِّيق حاكماً لهم، واستمر كيان الخلافة حتى هدم زمن الخلافة العثمانية في عام 1924م. خلال هذا الحكم الطويل والممتد قرابة ألف وأربعمائة سنة،كان النجاح منقطع النظير. وهذا النجاح والإبداع لا يكون إلا للقيادة الفكرية الإسلامية، والقيادة السياسية. ومن مظاهر وعلامات هذا النجاح أن الإسلام نقل الشعب العربي من حالة فكرية منحطة تتخبط في دياجير العصبية وظلام الجهل إلى عصر نهضة فكرية تحمل رسالتها للأمم والشعوب الأخرى؛ ففتحوا البلدان وحرروا البشر؛ فانصهرت هذه الأمم والشعوب مع بعضها رغم الاختلاف بينها في القوميات واللغات والعادات والتقاليد والأديان؛ فأصبح أهل فارس والشام والعراق ومصر والقوقاز وآسيا الوسطى… أمة واحدة هي الأمة الإسلامية، وظلت كذلك رغم انفراط عقد الوحدة بينهما، وهدم كيانهم السياسي، ورغم كل محاولات الاستعمار إفساد عقائدهم وتسميم أفكارهم. ومن مظاهر وعلامات النجاح أن الأمة الإسلامية ظلت أعلى الأمم حضارة ومدنية وثقافة وعلماً، وكانت الدولة الإسلامية أعظم الدول، وكانت الشمس المشرقة بين الأمم، وكانت محط أنظار العلماء وطلبة العلم، فكانت جامعات قرطبة وبغداد ودمشق ومصر قبلة طلبة العلم من كافة أنحاء العالم آنذاك. ومن علامات النجاح في التطبيق أيضاً نشرها الأمن والأمان في البلاد الإسلامية، وكذلك رغد العيش الذي كان يعيشه رعايا الدولة، حيث إنه كانت تمر فترات في التاريخ الإسلامي لا يوجد من يأخذ أموال الصدقات وذلك للغنى والرفاهية ورغد العيش… حتى رعايا الدولة من غير المسلمين كانوا في سعادة ورفاهية لم يوجد لها مثيل في التاريخ لا قديمًا ولا حديثاً. وهذا كله يدلل على أن القيادة الفكرية الإسلامية هي وحدها الصحيحة، وهي وحدها الصالحة للناس. وهي قيادة ناجحة إذا طبقت على أرض الواقع.
إلا أنه من الخطأ أن ينسى المتابع أن الذي يحكم ويطبق الأفكار في الدولة هم بشر قد يصيبون وقد يخطئون، وقد يحسنون في التطبيق وقد يسيئون، فكانت الدولة تقوى وتضعف تنجح وتفشل تبعاً لحال الحكام. فحال الدولة الإسلامية في عهد عمر بن عبد العزيز غيرها في عهد مروان بن محمد. وحال الدولة في عهد هارون الرشيد غيرها في عهد المستعين بالله وحال الدولة في أوائل العهد العثماني غيرها في أواخره… فهذا التبدل في الحال بين النجاح والفشل، والارتقاء والانحطاط، والقوة والضعف، ليس راجعاً للفكر الإسلامي والقيادة الفكرية الإسلامية، بل هو راجع لحال الحكام وقدرتهم على اتباع وتطبيق المنهج السليم، أي إن الخلل والمشكلة في الذين يطبقونه وليس في الفكر.
إن الإسلام هو هو منذ أن أتى به محمد عليه الصلاة والسلام حتى قيام الساعة: مبدأ عقيدته وأحكامه وأفكاره ومعالجاته ومفاهيمه صحيحة وسليمة صالح لكل زمان ومكان؛ لأنه جاء لمعالجة مشاكل الإنسان وحاجاته. والانسان منذ الخليقة حتى قيام الساعة هو هو لا يتغير ولا يتبدل، فهو مجموعة من الحاجات العضوية والغرائز. وهذه المكونات وتنظيمها لا يتغير ولا يتبدل، والذي يتغير في حياة البشر الأشكال المادية والمدنية، وهذه لا علاقة لها بالنظام، فبذلك كان الإسلام صالحاً في السابق واليوم وغداً، ونجاحه وارتقاؤه أمر حتمي ومقطوع به إن اتبع في ذلك منهج الرسول في الدعوة والتطبيق. والفشل الحاصل اليوم راجع إلى خلل وخطأ في طرح المنهج الإسلامي الصحيح، وطرح نماذج بعيدة عن الصحة، وهي خلط للإسلام بغيره من الأفكار والمعالجات. فالاسلام مبدأ قائم بذاته، لا يأخذ من أفكار ومفاهيم الآخرين. فالخلط يفقده تميزه، وبالتالي لا يكون الموجود إسلاماً، فيكون الفشل حتمياً لأصحاب هذه المناهج والنماذج، وهذا ما حصل في مصر وتونس، وحصل سابقاً في السودان وغيرها، إذ أدخل هؤلاء أفكار الديمقراطية والدولة المدنية والسيادة للشعب… وخلطوها بأفكار الإسلام . فاعتبار هذا الفشل فشلاً للإسلام، وتحميله فشل تلك التيارات والحركات والأحزاب هو ظلم وتطاول على خير الأفكار والمعالجات وأفضلها وأرقاها، ومجافاة للحقيقة وتجنٍّ وجريمة كبرى. وإن مسألة تجزئة الإسلام لسياسي وغير سياسي هو مخالف لواقعه ولحقيقته وخطأ كبير فالإسلام جاء ليرعى شؤون الناس ويسوسهم في الداخل والخارج. وهذا هو المعنى الحقيقي للسياسة. فالإسلام يحوي عقيدة سياسية وعقيدة روحية، وبهما يرعى وينظم شؤون الدنيا وشؤون الآخرة.
إن الإسلام دين الحق، وفي سيادته سعادة ورفاهية الناس، وفي غيابه من واقع الحياة وعن التطبيق في المجتمع شقاؤهم، وما الحال المآساوي الذي يعيشه الناس إلا بسبب إقصاء الإسلام من واقع الحياة والتطبيق، أي في وجوده الخير وارتقاء الأمة وإنقاذ البشرية مما تكابده من ظلم وجور ومآسٍ. فالبشرية جمعاء تحتاج لعودة الإسلام لينير العالم بنوره، وينشر العدل في ربوع الأرض؛ فيتبدل الحال أمناً بعد الخوف، واستقراراً بعد الحروب الفتاكة التي يشهدها العالم، وغنىً بعد الفقر، وانفراجاً بعد الأزمات، فهو دين الرحمة والعدل. إن الفرج والخلاص للمسلمين خاصة وللبشرية عامة لكائن قطعاً، فهو وعد الله وبشرى رسوله الكريم. فالإسلام سيعود إلى واقع الحياة، وسيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.