بذور الحرب العالمية الأولى أنبتت الشرق الأوسط الحالي: مآسي، وكوارث، وكيانات هزيلة، ومنح فلسطين لليهود.
2014/10/30م
المقالات
2,175 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
بذور الحرب العالمية الأولى أنبتت الشرق الأوسط الحالي:
مآسي، وكوارث، وكيانات هزيلة، ومنح فلسطين لليهود.
د. عبد الواحد شاهدة
كثير مِنْ سياسات الشرق الأوسطِ اليومِ يُمْكِنُ فهمها مِن الدسائسِ السياسيةِ التي صاحبت الحرب العالمية الأولى؛ لذلك كان من الضروري أن يعرف المسلمون تاريخ تلك الحقبة المأساوية وأن يتعلموا دروساً حقيقية منها لفهم حيل الاستعمار الجديد التي تحاك اليوم – والتي لا تزال توقع الخراب في أجزاء كبيرة مِن العالم.
كما يعرف أكثر الناسِ فإن عام 2014م يوافق الذكرى المئوية الأولى لانطلاق شرارة الحرب العالمية الأولى، وقد حاول البعض في بريطانيا إعادة كتابة التاريخ لتقديم المبرر لهذه الحرب. وهؤلاء هم عموماً الذين أيّدوا العمليات العسكرية في أفغانستان والعراق في القرنِ الحالي، بينما شرع كتاب آخرون في دراسة نقدية لأهوال حرب روّعت حياة عشرات الملايينِ من القتلى والجرحى، متسائلين – وهم ينظرون إلى غزة وسوريا – فيما إذا تعلَّم العالم أي درس مطلقاً من هذه الحرب.
في هذه الحرب أرسل ساسة بريطانيا لويد جورج، وكرزون وكتشنر وبلفور عدة ملايين من الناس إلى الموت في حرب لا شأن لها بـ “الأمن القومي”؛ بل كان كل ذلك من أجل الحفاظ على مكانة بريطانيا في أوروبا ومصالحها في كافة أنحاء العالم.
لذا، من الجدير أن ندرس الإرث البغيض لتلك الحرب التي لا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم، لا سيما أن الحرب العالمية الأولى أسست للفوضى والمظالم والنزاعات في الشرق الأوسط الحديث؛ كما وضعت بذورَ الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
حصاد بذورِ البؤسِ – سايكس بيكو وأنظمة الحكم العميلة وإلغاء الخلافةِ
الشرق الأوسط الحديث مليء بالحروبِ والقمع والظلم. وهو سلسلة من الدول الوطنية التي أنشئت بشكل مصطنع إثر الحرب العالمية الأولى، والتي تدار من قبل أنظمةِ حكم عميلة أقيمت في ذلك الوَقت لخدمة مصالحها بالإضافة إلى مصالح نخبة صغيرة ومصالح أجنبية بدلاً مِنْ خدمة شعوب المنطقةِ. وحُكَّام هذه الأنظمة مكروهون على نطاق واسع مِن قِبل الشعوب التي يحكمونها. حيث يستخدم هؤلاء الحكام قوّاتهم المسَلَّحة لغرضين رئيسيينِ. أولاً: لقَمْع شعوبهم – بخاصة إذا رأوا منهم بادرة نقد سياسيِ أَو مشاعر إسلامية؛ وثانياً لخِدْمَة أيّ مصالح عسكرية غربية يطلب منهم القيام بها.
في هذا الإطار نجد أن أطول هذه الأنظمة العميلة وجوداً هي المملكة العربية السعودية والأردن. وقد ولدت فكرة العربية السعودية في وزارةِ الخارجية البريطانية قَبْلَ حوالى قرن، وأهدرت هذه المملكة منذ ذلك الحين كميات ضخمة مِن ثروةِ البلاد الاقتصادية. وتمتعت عائلتها الحاكمة بعلاقات وثيقة مع بريطانيا والولايات المتحدةِ مُنذ ذلك الوقت. كذلك الأردن، فهو نظام حكم عائلي مماثل للنظام السعودي، أنشئ من قبل البريطانيينِ بعد الحرب العالمية الأولى. حيث نصّبتْ بريطانيا أشخاصاً من نفس العائلةِ، المعروفة بشكل واسع بخيانتها للإسلامِ والمسلمين، لحُكْم العراق، ولحكم سوريا لفترة قصيرة – لترى أسرتهم يطاح بها في هذين البلدين من خلال انقلابات عسكرية وانقلابات مضادة تبنتها دول مختلفة مثل بريطانيا والولايات المتّحدة.
من الجدير بالذكر أن الناس الذين عاشوا تحت ظل الخلافة العثمانية – حتى في عصرِها الهابط – تمتعوا بحياة أكثر استقراراً وأقل استبداداً من الحياة التي عاشها الناسِ في الشرق الأوسطِ خلال القرن الماضي. وظلت المنطقة لعِدّة قرون قبل تلك الحرب، في ظل الخلافةِ، موطن حضارة عظيمة قدّمتْ مجتمعاً فريداً عاشتْ فيه بسلام ووئام جاليات ذات أصول عرقية ودينية مختلفة.
في هذا السياق كتب بريندن كلفورد من جمعية بيفين مقالة عام2009م بعنوان” الإسلام وكارهوه”، يقول فيها:
«عاش الإسلام، أحد الثقافاتِ الرئيسيةِ في العالمِ، بدون دولة تحافظ على موقعِه في النظام العالمي قرابة 90 سنةِ. فقد قامت بريطانيا بتدمير الدولة الإسلامية أثناء الحربِ التي أعلنتْها على ألمانيا عام 1914م. فيما قال البعض إنّ تدمير الدولة الإسلاميةِ كَانَ أحد الأهداف التي من أجلها أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا. وأرى أن تدمير الدولة الإسلاميةِ هو السبب الرئيس لحال العالمِ اليوم الذي تَدْعو الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا إلى الحرب على الإرهابِ فيه». ويُذكّر بيفين القارئَ بأنه: «قبل قرن من الزمان قامَ القيصر الألماني بزيارة رسمية إلى الدولة العُثمانيةِ، فقابلَ السلطان، وصرّح بأنّ دولة إسلامية قوية جزء ضروري من أي نظام مستقرّ في العالم». وعلى العكس من الموقف البريطاني فإن السياسة الألمانية كانت مختلفة، حيث بين الكونت فون مولتكه الذي أصبح فيما بعد مشيراً (رتبة عسكرية في الدولة الألمانية) في مقالاتِه، وخطاباته، ومذكراته (عام 1893م الجزء1/p277) بأنّه كَانَ ممكناً تحديث الإمبراطوريةِ العُثمانيةِ كما هي، بناءّ على جذور إسلاميةِ.
إلا أن بريطانيا خشيت من تأثيرَ ذلك التحديث على مستعمراتِها – بشكل خاص في الهند – لذلك نهجت سياسة التوسّعِ في إمبراطوريتهم مِن الهند إلى مصر. وبالفعل، عندما دخل العُثمانيون الحربَ، معلنين أنها جهاد، كَانَ لدى كتشنر مخاوفُ حقيقيةٌ بأن هذا الإعلان سيمتد أثره إلى الهند ومصر والسودان.
كانت السياسة العثمانية، عند بداية الحربِ، تعتمد موقف الحياد. فهي لم تكن في وضع ماليّ أَو سياسي للدخول في الحرب. لكنّ بريطانيا رَفضتْ القبول بهذا الموقف، ورَفضتْ قُبُول أيّ مبادرات للتحالفِ مَعها – وبَدأتْ باستفزاز الدولة العُثمانيةِ، بخاصة من خلال تحالفها مع روسيا المعادية للعثمانيين.
وفي 5 نوفمبر/تشرين الثّاني 1914م، أعلنَت بريطانيا الحرب، بالاشتراك مع روسيا، مدعيتين وقوع هجوم عُثماني على روسيا في البحر الأسود. يَكْتبُ كلفورد ناقداً ذلك بأنّه كَانَ» أدعاءً مزعوماً يشوبه الغموض والمكر، مما يجعل وجود سبب للشكّ بأنّه شبيه بادعاءِ هتلر وقوع هجوم بولندي على ألمانيا في سبتمبر/أيلولِ 1939م»
اعتمدت بريطانيا في هذه الأثناء على الشريف حسين أمير مكة كحليف لها – وهو رأس العائلة الأردنيةِ المعاصرة، وكذلك على ابن سعود – مؤسس العربية السعودية المعاصرة ليحلوا مكان الدولة العثمانية في المنطقة العربية المحاذية لتركيا، وذلك إثر الانهيار السريعِ للدفاعاتِ العُثمانيةِ. ثم ما لبثت أن نفت الشريف حسين إلى قبرص، وأسست لابنيه إمارة في الأردن وأخرى في العراق، فيما منحت نجد والحجاز لآل سعود.
وفي 1916م، وبموجب اتفاقيةِ سايكس بيكو، اتفقت الحكومتان البريطانية والفرنسية بكل بساطة على اقتسام غنائمِ الشرق الأوسطِ بينهما برسم” خَطّ في الرمالِ” بين عكّا وكركوك – حيث يأخذ البريطانيون ما هو جنوب الخَطِّ، ويأخذ الفرنسيون ما كَانَ شماله.
بعد الكثير من المناقشات والمراوغات والاتهامات المتبادلة بين الطرفين تركت بريطانيا مناطق سوريا ولبنان كغنيمة مؤقتة لفرنسا، بينما ذهبت شرق الأردن والعراق والحجاز إلى بريطانيا. واقتضت الاتفاقيات الأصلية اشتراك الدولتين في فلسطين؛ لكن بريطانيا استطاعت الفوز بسلطة الانتداب عليها. إلا أن بريطانيا أشركت أميركا وفرنسا في الإيرادات النفطية في الموصل، تلك التي اكتشفت بعد فترة قليلة من الحربِ.
لم تقسّم أحداث الحربِ ومؤتمرات السلامِ بعد ذلك الدولة العُثمانيةَ فحسب، بل عجلت في الانهيار الداخلي الذي انتهى بإلغاءِ الخلافةِ العثمانية في عام 1924م، ومنذ ذلك الحين، شهدت السَنَواتُ الـ90 التالية حروباً بين هذه الدول التي أقيمت بشكل مصطنع؛ كما مارست أنظمة الاستبداد والقهر والفساد قمع شعوبها بشكل مهول؛ إضافة إلى هدر الثروة الاقتصادية للمنطقةِ بعيداً عن أية مكاسب حقيقية للشعب صاحب الحق فيها؛ كما تعاقب على المنطقة عدد من الاحتلالات ضمن الصراع بين أوروبا وأميركا عليها للفوز بالثروات والنفوذ السياسي.
ما قَبْل وعد بلفورِ إلى الاحتلالِ الصهيونيِ لفلسطين
قبل الحرب العالمية الأولى، درس استراتيجيون استعماريون بريطانيون نتائجِ سيناريوهات محتملة لمنطقة الشرق الأوسطِ. ففي خطابه للمؤتمرِ الاستعماري في لندن عام 1907م، عبّر رئيس وزراء بريطانيا، هنري كامبيل بانَرمان (Bannerman)عن هذه المخاوف، ودَعا إلى تكوين لجنة للنَظْر في كيفية منع سقوطَ إمبراطوريتهم. وأوصى التقرير الصادر عن المؤتمر بما يلي:
1- التشجيع على التفكك والتقسيم والانفصال في المنطقةِ.
2- إنشاء كيانات سياسية مصطنعة تكون تحت سلطةِ البلدان الاستعمارية.
3- مُحَارَبَة أيّ نوع من الوحدةِ – سواء كانت فكرية أو دينية أو تاريخية – والقيام بإجراءات عملية لتَقسيم سكان المنطقةَ.
4- لتحقيق ذلك أُقترِحَ إقامة “دولة عازلة” في فلسطين، يسكنها شعب غريب قوي معادِ لجيرانِه وصديق للدول الأوروبيةِ ومصالحِها.
وبالنظر إلى الوراء يظهر أن هذه القرارات أصبحتْ سياسةَ استعمارية بريطانيةَ مِنْذ ذلك الوقتِ – أي قبل الحرب العالمية الأولى – ولعِدّة عقود بعد ذلك.
ضمن هذا السياقِ، يصبح من السهل فهم رسالة آرثر بلفور إلى اللّوردِ روتشيلد في 1917م، بدعم بريطانيا إنشاء وطن يهودي في فلسطين.
كَانَ هناك نِقاش كبير على مرِّ السنين حول مدى الدعم الذي عنته بالفعل الحكومة البريطانية في ذلك الوقتِ. واعتقدَ السّير أنتوني نتنج (Nutting)، فيما كتبه بعد سنين طويلة، بأنّ بلفور وآخرون كَانوا شركاء في خطة عمل صهيونية لطَرْد العرب الفلسطينيّينِ مِن المنطقةِ – بما يتلاءم كثيراً مع التوصية السياسية التي قدمت إلى بانرمان بإنشاء” دولة عازلة: يسكنها شعب غريب قوي”
لكن مؤرخين آخرينَ مثل جوناثان شنير(Schneer) نَظرَ إلى ذلك الوعد إلى الصهاينة كواحد من سلسلة من المساومات التي أرادتْ “استعمال” اليهود الصهاينةِ وزعماءِ الثورةِ العربيةِ بأشكال مختلفة، كُلّ ذلك من أجل الحفاظ على سيطرة بريطانية على فلسطين. في الإطار نفسه، يعترف شنير بتَدَاخُل المصالحِ في هذا الأمر حيث أرادت الحركة الصهيونية خروج العُثمانيين من فلسطين، بينما أرادت الحكومة البريطانيةَ خروج العُثمانيين من الشرق الأوسطِ بكامله – مع التنازل بأقل قدر من النفوذ الممكن لصالح فرنسا.
كذلك يضيف شنير أن وعد بلفور جاء ليحرّك يهود أميركا للضغط على الولايات المتّحدةِ لدُخُول الحرب إلى جانبِ بريطانيا ضدّ العُثمانيين. رغم ذلك، فإن بريطانيا كَانتْ في نفس الوقت تَتفاوضُ سرَّاً لعقد سلام منفرد مَع العُثمانيين، وكانت مستعدّة للتخلي عن وعدِ بلفور، فقط في حالة عدم حصولها على دعمِ مِن الولايات المتّحدةِ.
وهكذا، فيما بين1916م و1918م، عَرضتْ بريطانيا فلسطين إلى أطراف مختلفة في أوقات متقاربة. ففي الوقت الذي عرضتها على اللوبي الصهيوني كان هناك حوار لتَسليمها إلى العُثمانيين في حال لم يدخل الأميركيِون في الحربِ إلى جانبها ضد ألمانيا. كما كَانَ هناك وعد شفوي إلى الشريف حسين بأن تكون فلسطين جزءَاً من وطنه، بالإضافة إلى موافقتها على إشراك الفرنسيين فيها حسب الشروطِ الأصليةِ لاتّفاقية سايكس بيكو.
طبقاً للمؤرخِ جيمس بار، كانت الثقة بين “الحلفاءِ” بريطانيا وفرنسا والصهاينة ضعيفة جداً – بسبب الشعور بأنه كان هناك الكثير مِن الوعود المنكوثةِ – لدرجة أن الفرنسيين كانوا يمولون إرهابيين صهاينة قبل 1945م لمهَاجَمَة القوَّاتِ البريطانيةِ في فلسطين (في وقت كان الجنود البريطانيون يُساعدونَ في تَحرير فرنسا مِن النازيين!)
على أية حال، قَبلتْ أنظمة الحكم العربية العميلة الإذلال والوعود المنكوثةَ إلى جانب العبوديّةِ – ولم تظهر أي اهتمام حقيقي في الدفاع عن فلسطين أو تحريرها. بل كانوا منذ البداية حتى اليوم خط الدفاع الأول لتأييد الكيان اليهودي والدفاع عنه. مثال رئيسي واحد جرى ذكره في يوميات حاييم وايزمان، حيث كتب بأن القديس جون فيلبي، ضابط مخابرات بريطاني سابق ومستشار لابن سعود، قدّمَ اقتراحاً بأنه يجب عرض حافز مالي قدره 20,000,000 جنيه إسترليني لابن سعود مُقابل دعمِه لدولة صهيونية. ويَبْدو أن السببَ الوحيدَ لعدم تنفيذ ذلك هو عدم قبول وايزمان بالمضي قدماً بالعرض. q
2014-10-30