بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الحملة الصليبية الماكرة التي تقودها أميركا على الإسلام والخلافة الراشدة نقول:
(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ )
ما أن أُعلن عن دولة الخلافة المزعومة، وأُعلن البغدادي خليفةً أول، حتى أصبح هذا الموضوع هو الموضوع الأول على المسرح الدولي، وأصبح ما كان متداولاً في الخفاء بعيداً عن الإعلام معلناً مكشوفاً، وصدق ما كان يقوله حزب التحرير من أن دعوة الخلافة تشكل هاجساً يؤرق الغرب، هي وصاحب الدعوة الأبرز إليها وهو الحزب.
فالغرب الذي يملك أدوات متابعة كافية ومحترفة من أجهزة استخبارات ومراكز أبحاث ومفكرين وسياسيين وإعلاميين… بات يدرك تمام الإدراك أن الأمة الإسلامية تتجه نحو إقامة الخلافة منذ سنوات طويلة، ويدرك أن وتيرة هذا التقدم تتسارع باستمرار. وهو بالرغم من كل محاولاته الجادة لإيقافها، لم يستطع حتى التخفيف من سرعتها.
والغرب، وعلى رأسه أميركا، بالرغم من أنه يملك المبادرة في السياسة الدولية، ويستطيع تحريكها لمصلحته، وتسييرها بالاتجاه الذي يريده، إلا أن الأمة انتزعت منه المبادرة في محطات كثيرة، وفرضت عليه فيها أن يكون عندها الفعل، وعنده ردة الفعل، وذلك بمفاجأته بأعمال جريئة تكشف عن خيريتها ومعدنها الأصيل، وتكشف عن إصرار الأمة بمجموعها على كسر الطوق والانعتاق عن الغرب بإسلامها. وكانت بمفاجأته تضطره إلى التدخل بمكر شديد وبإجرام مفرط ليضطرها إلى أن لا تعيد المحاولة مرة أخرى، وآخرها كان طرح الخلافة بشكل جدي في سوريا… وإن ما شهدته ثورة الأمة في بلاد الشام من تآمر دولي عليها بقيادة أميركا لوأد الثورة فيها وإيصال الناس إلى حالة اليأس والاستسلام، كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى هي الغالبة، وقد كانت مشيئة عجيبة، فقد شاء سبحانه أن يجعل في الذي شاءته أميركا من إحاطتها بتآمر دولي سبباً قوياً لمطالبة الناس بالخلافة والحكم بالإسلام حيث ألجأهم التآمر اللئيم عليهم إلى الله وحده ليخلصهم فنادوا بمناداتهم المشهورة «مالنا غيرك يا الله».
لقد أعيت ثورة الشام فعلاً الغرب، وعلى رأسه أميركا، وهو لئن استطاع أن يمسك بالأمور من جديد في كل من مصر وتونس واليمن… إلا أنها كلها لم تصل إلى ما وصلت اليه ثورة الشام من التصريح بالخلافة والاجتماع عليها، فقد تبنتها جماعات مقاتلة كثيرة، وشكلت رأياً عاماً عند الناس، ويمكن القول إنها قربت بين أحاديث الرسول عن الفتن في آخر الزمان وبين الواقع، فأصبحت علاماتها ظاهرة للعيان، وصار الناس يربطون هذه الأحاديث بواقعهم ربطاً يطمعهم أن يكونوا أصحاب ما في هذه الأحاديث من خير، وأهلاً لما جاء فيها. ومن هذه الأحاديث:
«إن الله تكفّل لي بالشام وأهله» و«إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم» و«الأمان والإيمان حين تقع الفتن بالشام» و«عقر دار الإسلام بالشام» و «يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها الغوطة، وفيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ» و «صفوة الله من أرض الشام، وفيها صفوة من عباده، وليدخلّن الجنة من أمتي ملة لا حساب لهم ولا عذاب»… وتفتحت معها أذهان المسلمين أكثر على أحاديث عامة أخرى مثل: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة». وحديث: «تقاتلكم اليهود فتقتلونهم…» وبات المسلمون يشعرون أن معية الله قريبة منهم، فتفاعلوا مع هذا الأمر تفاعلاً حياً. والمحصلة التي صارت تتجمع لدى المسلمين أن الحكم الجبري آذنٌ على الانتهاء، وأن بشرى رسول الله الصادق المصدوق بخلافة راشدة على منهاج النبوة هي بانتظار أن يفتح الله سبحانه بتمام توفيقه بابها، وأن عقر دارها سيكون في الشام، وأن يهود سيقاتلهم المسلمون فيقتلونهم، وأن الإسلام سينتشر حتى لا يترك الله بيت حضر ولا مدر إلا سيدخل الإسلام فيه بعز عزيز أو بذل ذليل…
في ظل هذه الأجواء الجادة والمهددة، والمقلقة للغرب، تم الإعلان عن إقامة ما سمي بـ«دولة الخلافة في العراق والشام» والذي أقامها هو تنظيم يكتننفه الغموض والشك، وهو مثار جدل واسع في أوساط القاعدة التي نشأ منها ثم انسلخ عنها وراح يهاجمها. وهو كان قد اتُّهم أن أكثر معاركه كانت مع المقاتلين المسلمين في سوريا الذين رصدوا تعاوناً وتنسيقاً بينه وبين النظام السوري في كثير من الحالات. واللافت أنه قبل الإعلان مباشرة، كان هذا التنظيم قد خاض معارك خاسرة في سوريا مع المجموعات المقاتلة وفقد مناطق واسعة في الشمال، (حلب وريفها…)، والشمال الشرقي (الميادبن والطبقة والرقة… ) وأعلن أو كاد أنه سيوقف نشاطه ومعاركه في بلاد الشام، ولكن فجأة تبدلت الأمور؛ إذ حدثت انتفاضة عسكرية في العراق ضد المالكي كان اشترك فيها العشائر والضباط البعثيين بقيادة عزة الدوري نائب الرئيس صدام والذي راح يعمل هو ومن معه تحت ستار جيش الطريقة النقشبندية مع تنظيم البغدادي الذي أعطي في هذه الانتفاضة دور (رأس الحربة) فدخل في معارك شرسة مع الجيش العراقي النظامي الذي انفرط عقده في تلك الفترة نتيجة انكفاء الضباط والجنود المحسوبين على العشائر عن خوض المعارك معه، أو ما قيل عن فرارهم وتسليم الثكنات وما فيها من السلاح الثقيل له، وتمكينه مالياً من حقول نفط ووضع يده على بعض البنوك (البنك المركزي في الموصل)… وكانت الإشارة واضحة إلى أن مؤامرة جديدة على الإسلام، وعلى مشروع الدولة الإسلامية بالخصوص تنفذ، وأنها ستستغرق سنوات نظراً لما أعطي تنظيم البغدادي من إمكانيات ضخمة. وهذا ما وجدنا الإعلام الغربي وتابعه الإعلام العربي يركز عليه. ثم وجدنا أن هذا التنظيم راح يخوض معاركه باسم الإسلام، ويذبح باسم الاسلام، ويسبي النساء باسم الاسلام ويهجر النصارى باسم الاسلام، ورافقت تصرفاته المستهجنة حملة إعلامية ليس على تنظيم البغدادي فحسب بل على فكرة الدولة الاسلامية ودولة الخلافة، وأصبحت العناوين تتناول ألفاظاً تهدف إلى تعويد آذان الناس على استمرائها والألسنة على تكرارها، وذلك من مثل ما ورد من عناوين: «محاربة الدولة الإسلامية تثبت أن الانتصار على الإرهاب معقد» وما نقل عن أوباما من قوله: «إن القضاء على الدولة الإسلامية يستغرق وقتاً» و«وبعد جلسة واحدة مع أوباما، أردوغان يقرر ضرب الدولة الإسلامية» و«تقرير الأمم المتحدة: الدولة الإسلامية ترتكب جرائم مروعة»، بينما كانوا يطلقون عليها قبل إعلانها للخلافة لقب «داعش» فاستبدلوها بعبارة «الدولة الإسلامية». وكان واضحاً من هذه الألفاظ المكر ضد دولة الخلافة، وتشويه صورتها، وإسقاطها من نفوس المسلمين، وشن حملة عالمية عليها. هذا وقد وصل الأمر بالغرب إلى إنشاء تحالف دولي يدعي أنه ضد تنظيم البغدادي بينما هو في حقيقته حملة جديدة من حملات الغرب الصليبية على الإسلام، وستستبيح فيها أميركا من جديد حرمات المسلمين وانتهاك كراماتهم ونكايتهم في دينهم، وبالتالي ممارسة الاعتداء على بلاد المسلمين بعد جعل أجوائها مكشوفة وضرب المرافق الاقتصادية فيها من حقول نفط ومطارات وغيرها بحجة ضرب الإرهاب. وهذا يعني أنها ستعيد، وفي سوريا بالذات، مثل تلك المآسي التي ارتكبتها قريباً في كل من أفغانستان والعراق. وهدفها الأول من كل ذلك هو منع الخلافة الراشدة من أن تقوم، وضرب التوجه الإسلامي في بلاد الشام، وترتيب وضع المنطقة من جديد عبر استيلاد دول جديدة وذلك من ضمن ما يسمى بـ مشرع أميركا للشرق الأوسط الجديد.
إن ما يجدر ذكره هنا أن هذا الإعلان لا يعني إلا أمراً واحداً، وهو أن مشروع الخلافة صار هو محور الصراع بين المسلمين والغرب، وهذا يشير إلى نجاح الدعوة لهذا المشروع بشكل مذهل والحمد في ذلك لله وحده، وهو قد تم بفضله وحده. والغرب يعي تماماً أن نجاح هذا المشروع في أي قطر من أقطار المسلمين يعني انتشاره بسرعة في كل أقطار المسلمين؛ لذلك هو يعمل على الالتفاف على ذلك بإعادة صياغة المنطقة وتفتيتها وتمزيقها من جديد إلى مزق متناحرة متدابرة طائفياً وعرقياً ومذهبياً بشكل لا يمكن معه أن تتآلف فيما بينها ولا يكون فيها قابلية الضم… وبالخلاصة، فإننا والأمة أصبحنا أمام مشروعين جادين: مشروع الأمة في الخلافة الذي يعيد الأمة إلى سابق عزها ومجدها في دينها، وفي مقابله مشروع أميركا الذي تجر معها دول الغرب والعالم وحكام المسلمين في تحالف دولي للقضاء عليه. وهنا يجب أن يعي المسلمين حقيقة الصراع هذا لإفشال الغرب في حملته الصليبية هذه، وجعل الناس يعون على حقيقة الدولة الإسلامية وبالتالي معرفة من يمثلها جيداً ويطرحها على أصولها؛ ومن أجل ذلك علينا القيام بجهد مضاعف في مواجهة ما يقوم به الغرب، وما يقوم به تنظيم البغدادي.
أما بالنسبة إلى الغرب: فعلينا فضح مخططاته، وكشف أهدافه، وتتبع جرائمه بحق المسلمين، وكشف بيان تزييفه للحقائق. وكذلك فضح المتعاملين معه من الحكام كونهم من أعمال الغرب الضارة وأدواتهم السامة، وبيان مدى تورطهم في التآمر مع الغرب على شعوبهم وعلى دينهم، وتحذير الناس من المال السياسي الذي يحاولون به شراء الثورة في سوريا لمصلحة أسيادهم في الغرب وتحويل أهدافها من الحكم بالإسلام إلى الحكم المدني العلماني الكافر. كذلك يجب التصدي للتآمر الحاصل من وجود الائتلاف الذي هو صنيعة الغرب وأحد أوراقها التي تلعب بها وله دور مستقبلي في تسليمه البلد ليكون منه الحكام المستقبليون والعملاء الجدد… كذلك توعية زعماء القبائل والعشائر التي تريد أميركا استعمالهم ضد تنظيم البغدادي على المدى القريب، وشراء ذممهم ليكونوا عملاء لها وإحدى أدواتها في مشروعها لاستعمار المنطقة من جديد على المدى البعيد… وكذلك توعية الرأي العام والمجموعات المقاتلة على خطورة ما يقوم به الغرب وعدائيته لهم ولدينهم والعمل على إقناع المخلصين منهم لأن يجعلوا من عملهم نصرة لدين الله وإقامة الدولة الإسلامية…
أما بالنسبة إلى ما يقوم به تنظيم البغدادي: إن الموضوع الأبرز الذي يجب تناوله في هذا الجانب هو أن هذا الإعلان ليس شرعياً، وبالتالي لا يرتب على المسلمين أي التزام؛ فالمسلمون بحاجة إلى بيان ذلك قبل كل شيء، حتى يبنى على الشيء مقتضاه، وحتى يبرئوا ذمتهم أمام الله فيما يتعلق بهذا الإعلان من أعمال، وحتى لا يتورطوا مع تنظيم البغدادي كردة فعل على ما سيرتكبه الغرب من إجرام بحق المسلمين، وكذلك حتى لا ينقلب المسلمون على فكرة الخلافة نتيجة ما يرتكبه تنظيم البغدادي من ممارسات فظة وغير إسلامية باسم الإسلام، وباسم الخلافة. كذلك علينا التنبه لكل ما يقوم به تنظيم الخلافة من أعمال منفرة باسم الإسلام، وبيان موقف الإسلام منه بشكل يجعل الناس يميزون بين التطبيق الصحيح وبين التطبيق السيئ… أما فيما يتعلق بالموضوع الأبرز وهو مدى شرعية هذا الإعلان فقد بيَّن حزب التحرير في جواب سؤال لأميره العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة بعنوان: «إعلان تنظيم الدولة إقامة الخلافة» أن هذا الإعلان هو «لغو لا يقدم ولا يؤخر في واقع تنظيم الدولة، فالتنظيم هو حركة مسلحة قبل الإعلان وبعد الإعلان» وقد ورد فيه:
1- إن أي تنظيم يريد إعلان الخلافة في مكان ما فإن الواجب عليه أن يتبع طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومنها أن يكون لهذا التنظيم سلطان ظاهر في هذا المكان يحفظ فيه أمنه في الداخل والخارج، وأن يكون هذا المكان فيه مقومات الدولة في المنطقة التي تعلن فيها الخلافة… فهذا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة: فقد كان السلطان فيها للرسول صلى الله عليه وسلم والأمان الداخلي والخارجي بأمان سلطان الإسلام، وكان لها مقومات الدولة في المنطقة المحيطة.
2- والتنظيم الذي أعلن الخلافة لا سلطان له على سوريا ولا على العراق، ولا هو محققاً للأمن والأمان في الداخل، ولا في الخارج، حتى إن الذي بايعوه خليفة لا يستطيع الظهور فيها علناً، بل بقي حاله مختفياً كحاله قبل إعلان الدولة! وهذا مخالف لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاز له صلوات الله وسلامه عليه قبل الدولة أن يختفي في غار ثور، ولكنه صلى الله عليه وسلم بعد الدولة كان يرعى الشؤون، ويقود الجيش، ويقضي بين الخصوم، ويرسل الرسل، ويستقبلهم علناً دون خفاء، فقبل الدولة يختلف عما بعدها… وهكذا فإعلان التنظيم للخلافة هو لغو لا مضمون له، فهو كالذين سبقوه في إعلان الخلافة دون حقائق على الأرض ولا مقومات، بل لإشباع شيء في أنفسهم، فذاك الذي أعلن نفسه خليفة، وذاك الذي أعلن أنه المهدي…الخ، دون مقومات ولا سلطان ولا أمن ولا أمان…!» وذكر كذلك أن «الخلافة دولة ذات شأن، بيَّن الشرع طريقة قيامها وكيفية استنباط أحكامها في الحكم والسياسية والاقتصاد والعلاقات الدولية… وليست هي إعلاناً لاسم دون مسمى يُطلَق في المواقع الإلكترونية».
فعندما يذكر حزب التحرير وجوب اتباع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حقق أثناء دعوته في مكة الأمور التي يجب توفرها في الدولة الإسلامية حتى تقوم. فقد حقق إيجاد الرأي العام المنبثق عن وعي عام على الإسلام وعلى الدولة الإسلامية لدى أهل المدينة. وحقق وجود القيادة السياسية معه من كبار الصحابة ممن آمنوا معه في مكة، وهي التي هيأها لكي تمارس الحكم بالإسلام من بعده، وقد تمثلت أكثر ما تمثلت بالخلفاء الراشدين ومن كبار الصحابة الذين كانوا يلازمونه ويتحملون معه أثقال الدعوة، وحقق بالنصرة تأمين القوة التي تحمي تطبيق الدولة للإسلام بأمانها الذاتي في الداخل وتحميه بأمانها الذاتي من الخارج، فكانت الدولة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة هي دولة بكل معنى الاعتبار، لها أرضها وجيشها وأجهزتها من معاونين وولاة وقضاة… وأنظمتها المتعلقة بالحكم والاقتصاد والاجتماع وسياسة التعليم والسياسة الخارجية، والتي بدأت تتشكل تباعاً مع نزول الوحي لمعالجة كافة شؤون الحياة التي تلزم المسلمين في حياتهم الفردية والمجتمعية؛ من هنا كانت دولة الإسلام الأولى محددة الأوصاف مكتملة الجوانب فيها مقومات الدولة في المنطقة التي أعلنت فيها ومتحقَّق فيها مواصفات دار الإسلام. ولو لم يكن الأمر كذلك لكان إقامة الدولة الإسلامية من أيسر الأمور؛ إذ كان يكفي إقامة أي جماعة لتقوم بهم أي دولة. كلا، بل إن إقامة الدولة يقوم على معايير دقيقة تتطلب التزاماً دقيقاً، وأي خلل ولو كان بسيطاً سيكون له تأثيره السلبي الذي سينعكس فيما بعد على الدولة الإسلامية بصورة متناسبة.
نعم، إن ما أعلنه البغدادي من خلافة لا يستند إلى الركائز الشرعية التي تتطلبها:
– فاعتبار الدار دار إسلام أو دار كفر، لا بد أن ينظر فيه إلى أمرين: أحدهما الحكم بالإسلام. والثاني أن يكون الأمان بأمان المسلمين أي بسلطانهم، فإن توفر في الدار هذان العنصران كانت دار إسلام، وتحولت من دار كفر إلى دار إسلام، أما إذا فقدت أحدهما فلا تصير دار إسلام. من هذا التعريف الشرعي لدار الإسلام ومدى تطبيق تنظيم البغدادي له نرى أنه:
تم الإعلان عن قيام دولة إسلامية من غير أن يتم الإعلان عن تبني دستور يبين الأحكام العامة للأنظمة الخمسة التي بها يكون الحكم إسلامياً والدولة إسلامية، وهي أنظمة الحكم والاقتصاد والاجتماع وسياسة التعليم والسياسة الخارجية، ولا نعرف الآن على ما تقوم به دولة الإعلان هذه، ولا بما تحكم.
لم تبيِّن دولة الإعلان طريقة الاستنباط الشرعية التي تبنتها والتي يجري على أساسها تبني الأحكام اللازمة لها للحكم.
لم يجرِ إقامة المؤسسات التي يقتضيها تطبيق الإسلام، ولم يبين الجهاز الإداري لهذه الدولة والذي به سيقضي مصالح الناس.
لقد وجدنا أخذاً للجزية من غير أن يعلن عن توفر الشروط الشرعية لأخذ الجزية، وجدنا سبياً للنساء من غير تبيان الحالات التي اقتضت ذلك الواقع. وجدنا ذبحاً لغربيين من غير أن يعرف مناط الحكم الذي اقتضاه. وجدنا عقوبات نفذت ولم نجد قوانين طبقت مع أن العكس هو الصحيح… ومع كل هذا وجدنا تنفيراً عظيماً من الإسلام ومن مشروع دولة الخلافة لدى المسلمين وغير المسلمين
فعندما لا تبين دولة الإعلان هذه الأمور، ولا يجري القيام بها، فهذا يعني أن الحكم بالإسلام غير متحقق. بل أكثر من ذلك، فإننا لا نكاد نحصل على مشروع سياسي متكامل مسطر لدى هذا التنظيم لكي يدرك المسلمون واقعه ويبنوا على هذا الإدراك موقفهم من هذا المشروع ومن صاحبه. بل لم نرَ إلا ممارسات قاسية جداً قبل الإعلان وبعده، مع المسلمين ومع غيرهم، تعطي أبشع تصور عنهم وعن مشروعهم، وهذا ما جعل الشبهة تحوم حولهم والاتهام يقع عليهم من المسلمين قبل غيرهم.
وهنا ننتقل إلى الحديث عن الأمر الثاني الذي يجعل الدار دار إسلام أو لا، وهو الأمان. وفي هذا الأمر، فإن هناك كلاماً كثيراً على هذا التنظيم من حيث نشأة قيادته الحالية وسيطرة ضباط أمنيين عراقيين سابقين من ضباط البعث السابقين الذين كانوا تابعين لصدام حسين على قراراته، وهناك أسماء تتداول في هذا المجال. وكذلك تنسيقهم مع عزة الدوري نائب الرئيس صدام حسين، الذي يرأس ما يعرف بجيش رجال الطريقة النقشبندية، وتنسيقهم كذلك مع العشائر في الانتفاضة الأخيرة ضد المالكي وضد إيران والتي سبقت الإعلان… هذا وغيره يجعل علامة استفهام كبيرة تحوم حول هذا التنظيم، وكذلك رصدت تصرفاتهم في سوريا فوجدت أنها كانت تتم بالتنسيق مع النظام السوري في كثير من الجوانب، وأن المعارك التي كان يخوضها معه إعلامية صورية أكثر مما كانت حقيقية، وأن أكثر معاركه هناك كانت مع المجموعات المقاتلة الإسلامية، حتى اشتهر عنه أنه كان يحرر المناطق المحررة. هذا وقد ذبح من المسلمين مثلما ذبح من غيرهم. وأقبية سجونه مليئة بهم. مثل هذه الأمور تجعل هذا التنظيم مثار شبهة واتهام لا تسمح للمسلمين أن يركنوا إليه، ولا يعرفون أين قراره: هل هي عند قياداته غير المعروفة وغير الموثوقة بتصرفاتها، أم عند غيرهم ممن هم وراءهم…
وهناك أمران آخران يتعلقان بعدم مصداقية هذا الإعلان:
الأول: ويتعلق بشروط الانعقاد التي يجب توفرها في الخليفة، وإلا لم يكن خليفة، ومدى انطباقها على البغدادي. فمن هذه الشروط أنه يجب أن يكون حراً، أي غير مصادر القرار، حتى إنه جُعل من أسباب عزله المرض المؤثر على اتخاذ القرار، أو الأسر المفضي إلى مصادرة القرار. كذلك من هذه الشروط أنه يجب أن يكون عدلاً، أي تقياً غير واقع في المعاصي الظاهرة، وهذان الأمران يقتضيان أن يكون الخليفة معروفاً مشهوداً له بالخير، بينما البغدادي غير معلوم الحال. ولا يقال هنا الأصل سلامة الظن، بل إن شروط الانعقاد يجب التحقق والتثبت منها. وكذلك فإن من شروط الانعقاد أن يكون قادراً من أهل الكفاية على القيام بأعباء الخلافة، وهذه لم نجد لها أثراً حتى الآن، بل وجدنا ما ينقض وجودها.
والثاني: إنه عندما حدث الإعلان ذُكر أنه تمت مبايعة البغدادي من قبل أتباعه، على اعتبار أن من قام بهذا العمل هم أهل للمبايعة وليس من تخلى عن هذا الفرض. أولاً هناك من المسلمين من لم يتخلَّ عن الفرض، بل هناك من يطالب به الآن وخاصة في سوريا وتنظيم البغدادي على عداء معهم، وثانياً هناك رأي عام مؤيد للخلافة ولكنه رافض لتنظيم البغدادي والإعلان الذي أعلنه. ومعلوم أن السلطان في دولة الخلافة هو للمسلمين والخليفة هو نائب عنهم. ولا نجد من يؤيده إلا من قام به.
وبالخلاصة، فإن ما حدث من إعلان يراد من ورائه سرقة مشروع الخلافة من أهله بالدرجة الأولى. وبالتالي تحويله إلى مشروع فاشل يخسر الحاضنة الشعبية الكبيرة التي تحققت له. وهنا يمكن التركيز على أمرين:
الأول: مجانبة دولة الإعلان لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم كل المجانبة، فدولة الخلافة الراشدة التي تكون على منهاج النبوة تكون محصلة عمل دؤوب تم فيه الإعداد الكامل لكل متطلباتها. وتكون محصلة للطريقة الشرعية التي تم الالتزام بها طوال فترة من الزمن كافية لإعداد ثلة من رجال الدولة الذين ينضجون على فكرة الإسلام وطريقته، وإقامة دولة تعلن نفسها على رؤوس الأشهاد، لها مقومات دولة مستقرة من أرض وجيش وأمن وأمان وتطبيق إسلام وظهور أحكام، ولها خليفة معروف الحال.
والثاني: يمكن اعتبار هذا الإعلان هو من أجل إجهاض مشروع الأمة، وبالتالي فرض المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد. وهذا يقتضي منا مواجهته والتغلب عليه، وهذا ممكن للغاية، ولا يحتاج إلا للإيمان بالله والثقة بأنه وحده هو القادر الناصر المعز المذل الذي يؤتي ملكه من يشاء وينزعه ممن يشاء، يحتاج إلى المخلصين الصادقين الذين يستحقون نصر الله مهما كانوا مستضعفين.
فالدولة الإسلامية أناط بها الشرع تطبيق الكثرة الكاثرة من أحكامه، وجعلها حافظةً لعقيدته، وحارسةً له من الضياع، وناشرةً له بالدعوة والجهاد، ومحققة له ظهورَه على الدين كله… لذلك كانت الدولة الإسلامية التي أمر الإسلام بإقامتها هي دولة صاحبة رسالة مبدئية تقوم على عقيدة عالمية أوجب الإسلام إيصالها إلى العالمين، وإنسانية تعالج بأحكام الإسلام كل مشاكل الإنسان كإنسان، وحضارية بحيث إنها بأحكامها الشرعية المنوطة بها أوجدت حضارة متميزة بها وطريقة معينة في العيش، وأقامت مجتمعاً متميزاً في أفكاره ومشاعره وأنظمته وشخصيات أفراده. إنها مشروع الأمة العظيم. وهذه الصورة مختزنة في عقول المسلمين وتمثلها سيرة الخلفاء الراشدين أصدق تمثيل؛ ولن يضره من خالفه ولا من ناوأه حتى يأتي أمر الله، وعن أصحابه قال الرسول صلى الله عليه وسلم «وهم ظاهرون». قال تعالى: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [q