بسم الله الرحمن الرحيم
أبو طلحة زيد بن سهل النجاري الأنصاري رضي الله عنه
ما عرفنا مهراً أكرمَ من مهر أبي طلحة لأم سليم…
فقد كان صداقها الإسلام
عَرف زيدُ بن سهلٍ النجَّاريُّ المُكنَّى بأبي طلحة، أنَّ الرميصاءَ بنتَ مِلحان النجاريَّة المُكناة بأم سُلَيْمٍ قد غدتْ أيِّماً (بلا زوج) بعد أن تُوفيَ زوجها؛ فاستطار فرحاً لهذا الخبر. ولا غروَ (لا عجب) فقد كانت أمُّ سليمٍ سيدة حصاناً رزاناً (حصينة الخلق ورزينة العقل) راجحة العقلِ مُكتملة الصفاتِ؛ فعزم على أن يُبادرَ إلى خطبتها قبل أن يسبقه إليها أحدٌ ممن يَطمحون إلى أمثالها من النساء. وكان أبو طلحة على ثقةٍ من أن أمَّ سُليمٍ لن تُؤثر عليه أحداً من طالبيها… فهو رجلٌ مكتملُ الرجولةِ مرموقُ المنزلةِ طائلُ الثروة… وهو إلى ذلك فارس بني النجار، وأحد رماة يثرب المعدودين.
مضى أبو طلحة إلى بيت أم سُليم، وفيما هو في بعض طريقه تذكر أن أم سُليمٍ قد سمعت من كلام هذا الداعية المكي مصعب بن عُمير، فآمنت بمحمد واتبعت دينه. لكنه ما لبث أن قال في نفسه: وما في ذلك؟ ألم يكن زوجها الذي توفي عنها مستمسكاً بدين آبائه، نائياً بجانبه -مُعرضاً عنه- عن محمد ودعوة محمدٍ!!
بلغ أبو طلحة منزل أم سليمٍ، واستأذن عليها، فأذنت له، وكان ابنها أنسٌ حاضراً، فعرض نفسه عليها. فقالت: إن مثلك يا أبا طلحة لا يرد، لكني لن أتزوجك فأنت رجلٌ كافر. فظن أبو طلحة أن أم سليم تتعلل (تتصنع له العلل والحجج) عليه بذلك، وأنها قد آثرت عليه رجلاً آخر أكثر منه مالاً وأعزَّ نفراً.
فقال لها: والله ما هذا الذي يمنعك مني يا أمّ سليم؟. قالت: وما الذي يمنعني إذن؟!. قال: الأصفر والأبيض.
قالت: الذهب والفضة؟! قال: نعم. قالت: بل إني أشهدك يا أبا طلحة وأشهد الله ورسوله أنك إن أسلمت رضيت بك زوجاً من غير ذهب ولا فضة، وجعلت إسلامك مهراً.
فما إن سمع أبو طلحة كلام أم سليم حتى انصرف ذهنه إلى صنمه الذي اتخذه من نفيس الخشب، وخصَّ به نفسه كما كان يفعل السادة من قومه؛ لكن أم سليم أرادت أن تطرق الحديد وهو ما زال حامياً، فأتبعت تقول: ألست تعلم يا أبا طلحة أن إلهك الذي تعبده من دون الله قد نبت من الأرض؟!. فقال: بلى. قالت: أفلا تشعر بالخجل وأنت تعبد جذع شجرةٍ جعلتَ بعضه لك إلهاً بينما جعل غيرك بعضه الآخر وقوداً يصطلي بناره أو يخبز عليه عجينه… إنك إن أسلمت (يا أبا طلحة) رضيت بك زوجاً ولا أريد منك صداقاً (مهراً) غير الإسلام. قال: ومن لي بالإسلام؟. قالت: أنا لك به. قال: وكيف؟. قالت: تنطق بكلمة الحق فتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم تمضي إلى بيتك فتحطم صنمك ثم ترمي به.
فانطلقت أسارير أبي طلحة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم تزوج من أم سليمٍ…
مُنذ ذلك اليوم انْضَوى أبو طلحة تَحت لواء الإسلام، ووضعَ طاقاته الفذةَ كلها في خدمته؛ فكانَ أحدَ السبعين الذين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية ومعه زوجهُ أم سُليم. وكان أحدَ النقباء الاثني عَشرَ الذين أمَّرهم الرسولُ عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة على مُسلمي يثرب. ثم إنه شهدَ معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَغازيه كلها، وأبلَى فيها أشرفَ البلاءِ وأعزَّه؛ لكنَّ أعظم أيّام أبي طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو يومُ أحدٍ. وإليكم خبره في ذلك اليوم.
أحَبَّ أبو طلحة رسولَ الله صلوات الله عليه حباً خالط شِغافَ قلبه وجرَى مَجرى الدّم من عروقه، فكان لا يشبعُ من النظرِ إليه، ولا يَرتوي من الاستماعِ إلى عذب حديثه. وكان إذا بقيَ معه جثا بينَ يديه، وقال له: نفسِي لنفسك الفداءُ، ووجهي لوجهِك الوِقاءُ.
فلما كان يومُ أحدٍ انكشفَ المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَنفذ إليه المشركون من كلِّ جانب، فكسروا رباعيّته (سنه التي بين الثنيِّة والناب) وشجُّوا جبينه، وجرحوا شفته، وأسالوا الدّم على وجهه… حتىَّ إنَّ المُرجفين (الخراصين الكذابين) أرجفوا بأن محمداً قد قتل، فازداد المسلمونَ وهناً على وهن وأعطوا ظهورهم لأِعداءِ الله (جعلوا ينهزمون أمامهم). عند ذلك لم يَثبتْ مع رسول الله غيرُ نفرٍ قليلٍ في طليعتهم أبو طلحة.
– انتصبَ أبو طلحة أمامَ رسول الله صلوات الله عليه كالطود الراسخِ، بينما وقفَ النبي عليه الصلاة والسلام خلفه يَتترّسُ به (يجعله ترساً ووقاية من رماح الأعداء وسهامهم)؛ ثم وَترَ أبو طلحة قوسَه (شد قوسه) التي لا تفلُّ (لا تهزم)، وركبَ عليها سهامَه التي لا تخطئ، وجعل يذود بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويرمي جنودَ المشرِكين واحداً إثر واحدٍ. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتطاولُ من خلفِ أبي طلحة ليَرى مواقع سهامه فكان يردُّه خوفاً عليه ويقول له: بأبي أنت وأمِّي، لا تشرف عليهم (لا تطل عليهم) فيصيبوك، إن نحري دون نحرِكَ (إن عنقي فداء لعنقك) وصدرِي دون صدرِك، وجُعلتُ فداك…
وكان الرجلُ من جند المسلمين يمُرُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً ومعه الجعبة من السِّهام (كيس السهام)، فينادي عليه النبيُّ ويقول له: «انثرْ سهامك بينَ يدي أبي طلحة ولا تمضِ بها هارباً»
ومازالَ أبو طلحة يُنافح (يدافع) عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى كَسرَ ثلاث أقواسٍ، وقتل ما شاء الله أن يَقتلَ من جنود المشركين. ثم انجلت المعركة، وسَلم الله نبيهُ وصانه بِصونه.
وكما كان أبو طلحة جواداً بنفسِه في سبيل الله في ساعات البأس، فقد كان أكثَر جوداً بماله في مواقف البذل، ومن ذلك أنّه كان له بُستانٌ من نخيلٍ وأعنابٍ لم تعرفْ المدينة المنورة بستاناً أعظمَ منه شجراً، ولا أطيبَ ثمراً، ولا أعذبَ ماءً. وفيما كان أبو طلحة يُصلي تحتَ أفيائه الظليلةِ؛ أثار انتباهه طائرٌ غرِدٌ أخضرُ اللونِ أحمرُ المنقار، مُخضَّبُ الرجلين، وقد جعلَ يتواثبُ على أفنانِ الأشجار طرباً مغرداً مُتراقصاً، فأعجبه منظره، وسبحَ بفكره معه، ثم ما لبثَ أن رجع إلى نفسه؛ فإذا هو لا يَذكرُ كم صلى؟! ركعتين، ثلاثاً، لا يدري. فما إن فرغ من صلاتِه حتى غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا له نَفسه التي صَرفها البُستانُ، وشجرهُ الوارف، وطيرُه الغرِد عن الصلاة، ثم قال له: اِشهد يا رسول الله أنيِّ جعلتُ هذا البُستان صدقة لله تعالى، فضعهُ حيث يُحبُ الله ورسوله.
عاش أبو طلحة حياته صائماً مُجاهداً، وماتَ كذلك صائماً مجاهداً. وقد أثرَ عنهُ أنه بقي بعد وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً من ثلاثين عاماً صائماً لم يُفطر إلا في أيامِ الأعياد حيث يَحرمُ الصيامُ، وأنه امتدَّت به الحياة حتى غدا شيخاً فانياً، ولكنّ شيخُوخته لم تحُل دونه ودون مواصلةِ الجهادِ في سبيل الله، والضربِ في فجاج الأرضِ إعلاءً لكلمته، وإعزازاً لدينه، ومن ذلك أنّ المسلمين عزموا على غزوةٍ في البحر في خلافة عثمان بن عفّانَ، فأخذ أبو طلحة يُعدّ للخروج مع جيش المسلمين، فقال له أبناؤه: يرحمُك الله يا أبانا، لقد صِرت شيخاً كبيراً، وقد غزوتَ مع رسول الله وأبي بكرٍ وعمر، فهلاّ ركنت إلى الرَّاحة وتركتنا نغزو عنك؟. فقال: إن الله عزّ وجل يقول: ((انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا)) أي هبوا إلى الجهاد على أي حال كنتم، فهو قد استنفرنا جميعاً، شيوخاً وشباناً، ولم يُحدِّد لنا سناً. ثم أبى إلا الخروجَ.
وبينما كان الشيخ المُعمِّرُ أبو طلحة على ظهرِ السَّفينة مع جُند المسلمين في وسطِ البحر، مرض مرضاً شديداً فارقَ على إثرهِ الحياة. فَطفِق المسلمون يبحثون له عن جزيرة ليدفنوه فيها فلم يَعثروا على مُبتغاهم إلا بعدَ سبعةِ أيام، وأبو طلحة مُسجَّى بينهم لم يتغير فيه شيءٌ كأنه نائمٌ. وفي عرضِ البحر، بعيداً عن الأهلِ والوطن، نائياً عن العشير ( المعاشر من زوج وأهل وغيرهم ) والسكن.
دُفن أبو طلحة. وماذا يَضيرُه (يضره) بُعده عن الناس ما دام قريباً من الله عزَّ وجلَّ.q