المجتمع المدني ومنظماته: التصنيف والفكرة(2)
2014/08/30م
المقالات
3,421 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
المجتمع المدني ومنظماته: التصنيف والفكرة(2)
د. ماهر الجعبري
تناولت الحلقة الأولى من هذه السلسلة توضيح الخلفية التاريخية التي ينبثق عنها المجتمع المدني. وتتناول هذا الحلقة التصنيفات والارتباط الأيديولوجي، إضافة إلى ما أشارت إليه الخلفية التاريخية من خلفية فكرية، في سياق انبثاق المفهوم كنتاج حركة التغيير في أوروبا وارتباطه بثقافتها.
إن مفهوم المجتمع المدني الدارج حالياً، وخصوصاً المروَّج في البلدان العربية، يتطلب بعض التفصيل لوجود بعض الاختلافات حوله. وتستخدم في الأدبيات عدة مصطلحات أخرى تشير إلى المفهوم نفسه تقريباً منها مثلاً المجتمع الأهلي والمنظمات غير الحكومية NGOs))، والقطاع غير الهادف للربح، أو القطاع الثالث، ويدرج حالياً استخدام مصطلح منظمات المجتمع المدني.
والمفهوم الحالي للمجتمع المدني يدور حول وجود مؤسسات غير حكومية تطوعية مستقلة عن الجهاز الحكومي تشكل قطاعاً ثالثاً بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، تقوم على وجوب فكرة الطوعية والعمل المؤسسي والاستقلال عن مؤسسات الحكومة. وهذا المفهوم يتناول مجمل المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية غير الحكومية وغير الإرثية وغير الهادفة للربح، والتي تكون حلقة تواصل وتفاعل بين الدولة والناس، وهي تفسح المجال للفاعلين في المجتمع، وتمكّن الأفراد من المشاركة في الحياة العامة، وتوفر لهم أدوات وآليات للعمل العام.
يميّز بعض الكتّاب بين منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية من حيث وجود عنصر الارتباط الخارجي في تمويل هذه المنظمات، وهنالك جدلية بين الكتّاب والمنظّرين حول طبيعة وتفاصيل المكونات التي يمكن أن تندرج ضمن تشكيلات المجتمع المدني ونوعيّتها، ومن الصعب حصر تنوّع منظمات المجتمع المدني في شكل أو وظيفة أو نمط واحد. فمن الناحية التأصيلية تُحدَّد مكونات المجتمع المدني بالمنظمات والمؤسسات والهيئات التي تقام على أساس تطوّعي اختياري من قبل مجموعة أفراد خارج أطر الدول (غير حكومية) وخارج علاقات السوق الرأسمالي (غير ربحية)، وهي بذلك تشمل المنظمات الأهلية الخيرية والدعوية والتنموية والثقافية والرياضية …الخ، وقد يستثني هذا التعريف تشكيلات أخرى فاعلة يعتبرها البعض جزءاً من المجتمع المدني كالأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات.
وبينما يُلحق بعض الدارسين والمنظرين الأحزاب السياسية ضمن تشكيلات المجتمع المدني، لأنها تطرح برامج اجتماعية واقتصادية وتعليمية نحو المجتمع، وتسعى إلى التأثير في سياسة الحكومة أو الدفاع عن مصالح وتطلعات أقليّات وفئات اجتماعية معينة، يستثنيها آخرون من تلك التشكيلات كونها تسعى للوصول إلى السلطة (فتصبح حكومية).
وكذلك الحال بالنسبة للمؤسسات القائمة على أساس الدين أو الطائفة أو الانتماء العرقي، إذ يدرجها بعض المنظرين كونها تسعى إلى التغيير والدفاع عن حقوق وتطلعات فئات واسعة في المجتمع، وتضغط على مراكز القرار، في حين يرفض بعض الدارسين إدراجها ضمن تصنيفات المجتمع المدني لكونها تتناقض مع مبدأ المواطنة (الأساس في المجتمع المدني) الذي لا يقوم على الدين أو الجنس أو العرق أو الانتماء الجهوي أو العرقي (حسب المفهوم الغربي).
وإضافة للجدل الدائر حول انخراط الأحزاب والجمعيات والروابط والمؤسسات الدينية أو الطائفية ضمن تشكيلات المجتمع المدني، هنالك جدل حول اعتبار النقابات المهنية والنوادي ومؤسسات البحث العلمي والجامعات والمعاهد الأهلية ضمن مؤسسات المجتمع المدني. وكذلك الحال بالنسبة للجمعيات الخيرية والإغاثية، مع أنه من ناحية التعريف العام، يمكن اعتبار كل تلك الأصناف مكونات أساسية في المجتمع المدني.
ولا تختلف هذه التصنيفات في الكتابات العربية عن تلك الدارجة في الثقافة الغربية المعاصرة، كما يبين إصدار لمركز المجتمع المدني في بريطانيا بأنّ طبيعة تلك التعريفات تعتمد على الأنماط السياسية في الدول أكثر من اعتمادها على الميول الثقافية، ويعتبر أن قدرة المفهوم تعتمد على طبيعة وجوده على أرض الواقع أكثر من تعريفة النظري العام.
وبناء على هذا الاختلاف في تحديد ما يندرج وما لا يندرج تحت التصنيف، ولارتباط المجتمع المدني بالعلمانية، يتساءل بعض الكتاب عن وضعية الجمعيات الإسلامية الخيرية ومدى دقة إدراجها ضمن مؤسسات المجتمع المدني، وأيضاً يشكك بعض المنظرين في جدوى ضم النقابات والجمعيات والاتحادات الطلابية لمؤسسات المجتمع المدني كونها عرضة للهيمنة عليها من قبل «العناصر الإسلامية» من خلال الانتخابات، حسب تعبيرهم. ومن هنا تبرز إشكالية نظرية في التصنيفات عندما يتعلّق الأمر بالإسلام لأنه يناقض الأساس الذي يقوم عليه المجتمع المدني.
هذا على مستوى التصنيف النظري، أمّا من الناحية العملية والواقعية، فإن أغلب تلك المؤسسات والتشكيلات هي محل استهداف من قبل الجهات الدولية، وكونها ليست جزءاً من الأنظمة والحكومات فهي بالتالي تشكل المجتمع المدني على أرض الواقع، ولذلك فإن أدبيات موقع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على الإنترنت (UNDP)، اعتمد كافة التشكيلات المذكورة أعلاه بالإضافة للصحافة المستقلة كأجزاء من مكونات المجتمع المدني.
إذاً فالخلاصة هنا أن تشكيلات المجتمع المدني، التي هي المؤسسات غير الحكومية وغير الربحية والتي تحمل رسالة محددة تسعى لتحقيقها «تنظيريّاً» أو عملياً، قد تشمل بالإضافة إلى المؤسسات الأهلية ذات البرامج المحددة: الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات الشعبية والمهنية والحركات الاجتماعية الأخرى، وكذلك الصحافة المستقلة ووسائل الإعلام الأخرى والغرف التجارية والصناعية والجامعات والمعاهد العليا ومؤسسات الأبحاث. ولكن الاهتمام السياسي والفكري هنا لا يشمل كل هذه التشكيلات، بل يركّز أساساً على تلك المنظمات الأهلية ذات النشاط في مجال ترويج الأفكار والسياسات الغربية والبرامج الاجتماعية التي تناقض ثقافة الأمة الإسلامية.
هذا من حيث التصنيف والتعريف، أما النواحي الفكرية والارتباطات الأيديولوجية للمجتمع المدني فهي محل تفصيل فيما يأتي.
اتّضح من خلال الاستعراض التاريخي لتطور مفهوم المجتمع المدني الارتباط الحتمي بينه وبين ظهور وتطور المبدأ الرأسمالي، ولذلك فليس ثمة عسر في توضيح الارتباط الأيديولوجي للمجتمع المدني بالليبرالية والرأسمالية، وما انبثق عنها من ديمقراطية، ومن تفصيلاتها كمفاهيم الحريات وحقوق الإنسان، والمواطنة وغيرها. وقد تبين أن انبثاق المجتمع المدني جاء كجزء من ردة فعل على هيمنة الكنيسة على المجتمع والدولة. إذاً فهو في هذا السياق تماما كمفهوم العلمانية من حيث الانبثاق في الفكر الغربي.
ولتعزيز هذا الارتباط الأيديولوجي بالفكر الغربي، أقتبس بعض ما جاء في كتابات الباحثين والأكاديميين في هذا المجال من أجل التوثيق، ولإزالة أية شبهة حول تقرير هذا الارتباط وأنه حقيقة واقعة وليس انعكاساً لخصوصية فكر الكاتب على النظرة للمجتمع المدني، وذلك من أجل سحب البساط مقدماً ممن يحاول أسلمته، فمثلاً يقول المفكر الجابري بوضوح: «ليس ثمة شك في أن النموذج المجتمعي الذي نصدر عنه اليوم، صراحة أو ضمناً، عندما نتحدث عن المجتمع المدني، هو النموذج الليبرالي الأوروبي الذي يشكل النظام الرأسمالي هيكله ونسيج علاقاته». ويرى الجابري أن المجتمع المدني هو «المجتمع الحديث الذي يتخذ شكله تدريجياً مع التحول الديمقراطي… وإذن فالمجتمع المدني هو النتيجة العملية للتحول الديمقراطي». أما الكاتب جميل هلال فيقول: «دخل المجتمع المدني إلى الخطاب السياسي والفكري العربي من باب الدعوة للديمقراطية وحقوق الإنسان». ويقول أيضاً: «يهيمن على الأدبيات العربية المتداولة حالياً موقف قوامه أن المجتمع المدني هو شرط قيام نظم ديمقراطية وضمانة ترسخ الحريات السياسية والحقوق المدنية وتجسيدها».
إذاً، فليس ثمة شك أن المبدأ الرأسمالي هو أساس مفهوم المجتمع المدني، والمجتمع المدني جزء من الطريقة الديمقراطية، وهو ينبع من، ويصب في، مفهوم حقوق الإنسان التي هي المسوّغ لترويجه ودفعه، وإجبار الحكومات في البلدان العربية على إفساح المجال له تحت ضغط الإصلاح.
ورغم هذا الوضوح الصارخ في الخلفية التنظيرية والفكرية لمفاهيم المجتمع المدني وعمق انبثاقها عن الفكر الغربي، إلا أن الساحة التنظيرية الإسلامية لا تخلو من التوفيقيّين المضبوعين بالنتاج الفكري الغربي. وقد دللّت المراجعة التاريخية -في الحلقة السابقة من هذه السلسلة- على محاولات توفيقية بين مفاهيم المجتمع المدني والتاريخ الإسلامي. وهنالك محاولات توفيقية تنظيرية تقوم على منهجية «تحوير» مفاهيم إسلامية صحيحة وإنزالها على الوقائع إنزالاً خاطئاً، من مثل حث الإسلام على العمل الجماعي والتكتل، والأمر بالمعروف والرعاية، أو محاولات «الأسلمة» (على أسس خاطئة) لمفاهيم غربية من مثل الحداثة.
وهذا التوفيق يتم جرياً مع العادة الخاطئة لدى بعض المسلمين في تقبل ما يفد من الغرب دون تنخيله إذا كان يخدم «المصلحة» أو يوافق «العقل»، وضمن هذا السياق، يتعامل مثلاً موقع «إخوان أون لاين» بالقبول مع فكرة المجتمع المدني، حيث جاء فيه بتاريخ 19/06/2005م وتحت عنوان «المجتمع المدني في مصر.. أوضاع قانونية ومؤسسية» أن «مؤسسات المجتمع المدني هي بمثابة بديلٍ شرعيٍّ لدى الجماهير في مصر لتعويض غياب الدولة ودورها عن قطاعات عمل هامة». بل ويطرح الموقع إدراج جماعات الإسلام السياسي ضمن المجتمع المدني فيقول: «وخلال أعمال منتدى أميركا والعالم الإسلامي الذي انتهى في العاصمة القطرية (الدوحة) مؤخراً كان من ضمن أهم ما ركز عليه المشاركون فيه- سواء من الأكاديميين الأميركيين أو العرب والمسلمين الذين شاركوا فيه- قضية المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان وما يطلقون عليهم (جماعات الإسلام السياسي) وموضعها في معادلة الإصلاح والتغيير والعلاقات الأميركية مع بلدان الإقليم العربي والإسلامي؛ مما يشير إلى صحة ما ذكرناه عند إدراج ما يطلقون عليهم (جماعات الإسلام السياسي) ضمن المجتمع المدني ومؤسساته» حسب تعبير الموقع.
ولأسباب شبيهة يستنكر الكاتب عماد الدين أحمد إضفاء الصفة الفكرية على المجتمع الإسلامي في مقابل المجتمع المدني في قوله: «وأرى أن المجتمع المدني يضم المنظمات غير الحكومية والمساجد والكنائس والنقابات وجمعيات الإغاثة والعائلات»، ويستنكر رفض شرعية وجود المجتمع المدني إسلامياً بالقول: «وبهذا فإنه ليس من المستغرب في المجتمع الإسلامي التقليدي حيث يحتل الدين مكانه مركزية كنظام للحياة أن يمتلك مجتمعاً أهلياً مزدهراً بينما تنحى المحاولات الجديدة لتعريف المجتمع الإسلامي منحى أيديولوجيا يتجاهل أو يقمع المتطلبات الضرورية للمجتمع الأهلي». ولذلك أيضاً فهو يزاوج بين مفاهيم الإسلام ومفاهيم المجتمع المدني لدى دعوته إلى «إعطاء منح دراسية للطلبة المسلمين الراغبين في دراسة ما يؤهلهم لتطوير المؤسسات الأهلية» للإسهام في «الأسلمة والتمدين» على حد تعبيره «في مجالات تهم المؤسسات المانحة، ومن هذا الجيل يستطيع نفر من هؤلاء المختصّين أن يساهموا بإنشاء المؤسسات الأهلية في بلاد العالم الإسلامي أو المشاركة لأصحاب النشاط الإسلامي في فعاليات المجتمع المدني الفعال في الإطار الأميركي» حسب تعبيره. هذه عينة توضح التقبّل الفكري من قبل بعض «الإسلاميين» للمجتمع المدني، رغم الإشكالية الفكرية الواضحة والتناقضات التنظيرية الجلية والتي ستكون محل نقاش لاحق ضمن هذه السلسلة.
إلا أنه قبل تلك المناقشة الفكرية لتلك الأسس، يجدر بأولئك المضبوعين بالثقافة الغربية أن ينتبهوا إلى البعد السياسي المتعلق بمواجهة الغرب للإسلام كتحدٍّ حضاري: فهل يغفل أولئك الكتّاب المسلمون عما يتداوله الغرب بشكل صريح من ضرورة إفساح المجال لإشراك «الإسلاميين» في المجتمع المدني من أجل تنفيس الضغط المتكوّن في الأمة باتجاه الحل الجذري لمشاكلها وبالتالي إعاقة مشروعها التغييريّ؟ فمثلاً جاء هذا الموضوع من ضمن الخيارات الرئيسة أمام أميركا لمواجهة الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية مبدئية كما يطرح كتاب «العالم الإسلامي بعد 11/9» (الصادر بالإنجليزية عن مؤسسة راند الأميركية). وتحت بند «دعم إسلام مدني» جاء فيه (بعد الترجمة): «إن دعم جماعات المجتمع المدني الإسلامي التي تنشر الحداثة والتحديث هو جزء رئيس في سياسة أميركية فعّالة في العالم الإسلامي. إن إسلاماً سياسياً معتدلاً يمكن أن يحبط تقبل الناس للحركات الثيوقراطية (الدينية) أو أولئك الذين يفضّلون دولاً إسلامية شاملة (يعني الخلافة)… وربما أيضاً من الواجب على الولايات المتحدة المساعدة في تطوير مؤسسات المجتمع المدني والديمقراطية في المناطق التي لا تواجد فيها حتى الآن.» يكفي الوعي على هذه الحقيقة «الأميركية» لإيقاظ أولئك الذين يحاولون أن «يؤسلموا» المجتمع المدني.
وكخلاصة، لا بد من تأكيد الضرورة الملحة لوعي حملة الدعوة الإسلامية على هذا الارتباط الفكري، وإلى كون المجتمع المدني تفصيلة رئيسة من تفصيلات الديمقراطية، والى أنه يطرح «كبديل» ثقافي-حضاري- سياسي، وأنه يقترن بالتحول الديمقراطي. وهذا التحول إلى نتاج الثقافة الغربية هو، دون شك، يرتبط ارتباطاً حتمياً بالتحول عن الثقافة الإسلامية. وحريّ بالمسلم أن ينتبه إلى نوع الثقافة التي يلتصق بها.
2014-08-30