الديمقراطية التوافقية: مزيد من الازمات والمشاكل (2)
2020/11/01م
المقالات
1,977 زيارة
المهندس ناصر وحان اللهبي- إلىمن
تناولنا في العدد السابق أربعة عناصر توضح (الديمقراطية التوافقية) توضيحًا تامًّا وهي: (مرجعية التوافق، وموضوعه، وأطرافه، وغايته)، وبقي أن نذكر العنصر الأخير وهو: نتائج (التوافق الديمقراطي) ليتأتَّى لنا أن نحكم عليها حكمًا صحيحًا يطابق واقعها.
أما نتائج (التوافق الديمقراطي) فإنها عادة ما تكون بناء على المرجعية التي اعتمدت في الحوار، وهي هنا (الديمقراطية) وليس الإسلام، وهي حكم البشر في التشريع، وإبعاد الدين عن إصدار الأحكام، وهذه كارثة سوف تحل بالمسلمين، وتغضب الله رب العالمين، والأمر الآخر تكون النتيجة محسومة لصالح أعداء الأمة من الكفار والمنافقين والعملاء. ولعل النتائج التي تمخضت عن الحوارات الوطنية التي جرت في بلدان إسلامية لأكبر دليل على هذه الحقيقة. فنتائج الحوار الذي جرى في ليبيا والعراق وأفغانستان وفلسطين وكشمير والسودان واليمن كانت دائمًا عبارة عن حروب أهلية أدَّت إلى تمزيق البلدان إلى كيانات صغيرة وتفريق الأمة إلى أمم، وإلى مجموعات عرقية ومذهبية وفصائلية، وإلى تمكين الكافر المستعمر من زرع عملائه في أعلى هرم السلطة في تلك البلدان، وزد على ذلك التخلف والتأخر والفقر والمجاعات التي سادت في تلك البلدان، وفوق ذلك التبعية المطلقة للأعداء بحيث أصبح الولاء للكفار أمر بديهي ونتيجة حتمية لأي حوار وطني، والله سبحانه قد خوَّفنا من عاقبة طاعة الكفار بالخسران فقال: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ) [آل عمران: 149]. وبذلك كله يتضح لنا جليًا أن فكرة (التوافق الوطني) هي فكرة غير إسلامية رمانا بها المستعمر لتنخر في جسم أمتنا فتكًا وتدميرًا تحت شعارات (المصالحة الوطنية) و(الوئام الوطني) و(التوافق الوطني) و(التوافق الديمقراطي) مع أنها في الحقيقة ما هي سوى فكرة استعمارية خبيثة ترمي إلى التطاحن والاقتتال، وتكريس التبعية والتخلف والتشرذم، والواقع خير شاهد على ذلك.
وإذا ما أضيف إلى ذلك أن بدعة (الديمقراطية التوافقية) كما يتبنَّى أصحابها تريد صياغة الحياة السياسية على أساس طائفي، بمعنى إيجاد تشريع طائفي، فتكون الصيغة التشريعية التي يرتضيها هؤلاء الزعماء هي توافق مجموعة من القوى والطوائف والجهويات على أساس كيانات ذاتية، لكل كيان حق وجوده ومصالحه واستقلاله، وله حق التشريع، أو المساهمة في التشريع، وليس على أساس تعايش الناس بوصفهم أناسًا بغض النظر عن طوائفهم. فالطائفية هي انتماء إلى مجموعة من الناس الذين تجمعهم العصبية للطائفة. وما العصبية إلا رجع غرائزي عند الإنسان خال من أي قناعات فكرية، فهي من أحط أنواع الربط بين الناس. أما الطائفية السياسية فهي اعتراف الدستور والقوانين والأعراف السياسية بأن الطوائف تشكل كيانات سياسية؛ بحيث تمنح هذه الكيانات – أي الطوائف – حق التشريع أو تجاوز الدستور والقوانين عندما يكون لها السلطة والسطوة، أي إن (الديمقراطية التوافقية) تجعل الاعتبار هو للقوى والطوائف وليس للناس، وهنا مكمن الداء وأس البلاء، فما يصلح للجنوبي لا يصلح للشمالي، وما يصلح للعلماني لا يصلح للإسلامي، وما يصلح للوطني لا يصلح للقومي والأممي، وما يصلح للشيعة لا يصلح للسنة؛ لأن هذا الوصف هو الذي يحدد الهدف والغاية، فالشيعي – المتبنِّي لفكر أهل البيت- يرى أن لديه امتيازات لا بد من أن يحافظ عليها، أو أن يعمل على الحفاظ على ما تبقى منها، فالولاية لآل البيت. فيما يرى الجنوبي أن له حق الانفصال لأن النظام الشمالي الذي حكم الجنوب أفسد في الأرض، ويري السنِّي أن الشيعة مخالفين للكتاب والسنة، ويرى الشيعي أن السنة هم الأعداء الذين لا يرون الولاية لآل البيت، وبالتالي فإن (الديمقراطية التوافقية) لن تحل مشكلة التعارض بين الجماعات والقوى ذات المصالح والأهداف المختلفة، وذات العمالات المتباينة. وفي ظل النزاع سيحاول كل طرف منهم كسب المعركة لمصلحته ومصلحة طائفته وخياراته السياسية ولتحقيق أهدافه، وبالتالي تقوم الطوائف بالاستقواء والاستعانة بقوى خارجية ليتمكنوا من تحقيق مآربهم، وبهذا يكون الانتحار والزوال للدولة والمجتمع، وتكون الغلبة لصالح من يملك القوة على الأرض والدعم من الخارج؛ لأنه في ظل (الديمقراطية التوافقية) سيتعذر نشوء السلطة نشوءًا طبيعيًا يعبِّر عن تطلعات الناس في العيش الحقيقي، وبالتالي ستكون سلطة تقوم على تسويات تكون لصالح طرف معين بناء على الدعم الخارجي والضغط الطائفي الداخلي، فيما الأطراف الأخرى بانتظار أي تغير ليهبَّ من استُضعف ليستضعفَ من اضطهده، وهكذا دواليك.
وقد كان لنشوء السلطة على أساس حزبي أو طائفي آثار مدمرة، سواء في لبنان (اتفاقية الطائف أو الدوحة) أو العراق (مؤتمر المصالحة) أو اليمن (مؤتمر الحوار) أو ليبيا (اتفاق الصخيرات) فقد أشعلت أطرافه الطائفية حروبًا ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء في قتال عبثيٍّ بين أبناء البلد الواحد؛ حيث تقاتل الناس في الأزقة والحارات، وقتل الجار جاره، والأخ أخاه؛ خدمة للزعماء بل خدمة لأسياد الزعماء. فالناس يموتون وهم بعد ذلك يتصافحون، ويمدون أيديهم للقتلة، ويقبِّل بعضهم بعضًا، ويتقاسمون المناصب والمغانم، ويلتقطون الصور، ويأكلون من قصعة واحدة، ويشربون من كأس واحدة، بعد أن كانوا يتوضَّؤون بالدماء، ويفطرون على لحوم القتلى، ولا يخفى على أحد ما جلبه هذا التقاسم الطائفي (الديمقراطية التوافقية) على المسلمين من ويلات على صعيد المجتمع والدولة، فكانت السلطة تنتقل بين زعماء الجماعات والأحزاب والطوائف، وكلما تسلمَّها زعيم اهتم بحزبه أو جماعته أو منطقته أو عائلته أو الموالين له وخدَمه وحاملي مبخرته، والمزمِّرين والمطبِّلين له، ولو أنه لا يساوي ظفر عنزة، وأهمل البلد والخبراء والعلماء من غير طائفته؛ لأنهم لا يسبحون بحمده، ولا يشكرونه على نعمه التي أسداها لهم، ويكون قبول العلماء والخبراء أو عدم قبولهم بناء على شهادة الاستخبارات التابعة له ولطائفته، ويستحوذ على الثروات والأعمال هو وبطانته ومن لفَّ لفيفهم من الأنساب والمصاهرات السياسية (الزواج السياسي) وحتى خدمات التعليم والتطبيب والأمن والوظائف تكون على أساس حزبي أو طائفي؛ ولهذا تركزت الثروة في أيدي فئة استحوذت على مقدرات وإمكانيات البلد، وبقي الشعب تحت نير الفقر والجهل والتخلف والأمراض والأوبئة والبطالة، وظهرت الأمراض النفسية والعقلية، وانتشرت الجريمة، ونمت المعاصي والموبقات والآثام، وتوجه الشباب للحاق بالعصابات والمليشيات، واللحاق بالمنظمات الأجنبية (بنات وعيال المنظمات)، واحتمى المجرمون والقتلة بتلك الطوائف، وبالاستقواء بالأجنبي، وهكذا كانت بذرة الديمقراطية الخبيثة التي أسست على (حرية الرأي) أحزابًا وطوائف وفرقًا ما أنزل الله بها من سلطان، فمن لا يستند إلى طائفة أو إلى زعيم طائفة يسحق سحقًا بجريرة غيره، ومن كان ينتمي إلى طائفة أو قبيلة أو حزب حاكم أو زعيم ظالم أو سيد معمم… يتمتع بالحصانة ويعفى عنه ولو كانت جريمته القتل أو القتال إلى جانب الاستعمار ضد أبناء بلده.
والنظام الطائفي المعترف به من قبل (الديمقراطية التوافقية) يحمل في طياته أسباب بروز الأزمات السياسية؛ إذ يكفي أن تنسحب طائفة من السلطة ليتوقَّف النظام السياسي ويتجمَّد، وتتعطَّل السلطة وتشل الحركة؛ لأن مكوِّنًا سياسيًا من مكونات نظام المحاصصة والتقاسم قد انسحب من السلطة، أو لم يشارك في السلطة كما حصل في لبنان قبل اتفاق الدوحة، والعراق قبل حكومة عبد المهدي، واليمن في مؤتمر الحوار وحتى الآن، والسودان قبل وثيقة التوافق بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير، وليبيا بعد اتفاق الصخيرات. وهذه الاتفاقات والمحاصصات الجهوية والطائفية تحمل بذرة فنائها وعودة الصراع من جديد؛ لأن الأساس الذي بنيت عليه أساس هش يخضع للمصالح وليس للمبادئ، ولأن الله أخبرنا بأنه سوف يحبط أعمالهم لعدم اتباعهم ما أنزل الله من الهدى؛ لقوله تعالى:
(كَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنكُمۡ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرَ أَمۡوَٰلٗا وَأَوۡلَٰدٗا فَٱسۡتَمۡتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمۡ فَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِخَلَٰقِكُمۡ كَمَا ٱسۡتَمۡتَعَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُم بِخَلَٰقِهِمۡ وَخُضۡتُمۡ كَٱلَّذِي خَاضُوٓاْۚ أُوْلَٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ) وقال تعالى: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسۡخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضۡوَٰنَهُۥ فَأَحۡبَطَ أَعۡمَٰلَهُمۡ).
وهذا أمر بديهي في سلطة تقوم على توزيع الحصص طائفيًا، وهذا ينسحب على كل مؤسسات الدولة، لا على المؤسسات السياسية فقط. فها هي القوى المسلحة عند حاجة الناس إليها لا تستطيع أن تفعل شيئًا؛ فلا تحميهم ولا تحمي بيوتهم بحجة أن تركيبتها الطائفية أو الحزبية تعرضها للانقسام إن تدخلت لحماية الناس، وبالفعل انقسم الجيش إلى جيوش في الحروب الأهلية. وها هي السلطة القضائية لا تستطيع التحرك ضد هذا أو ذاك خوفًا أو عدم استطاعة بسبب الغطاء الطائفي على المجرمين والعملاء، وكم من صراعات ونزاعات وخصومات كلفت الدولة والشعب أموالًا باهظة، ومقدرات عظيمة، وثروات هائلة، كانت سوف تبني دولة كبرى لو استغلت لصالح الناس لا لصالح الطوائف والجماعات والأحزاب، وأصبح من له حق السلطة ليس في الحكم، ومن في الحكم لا يستحق السلطة!!.
فـ(الديمقراطية التوافقية) تريد إيجاد (دولة الطوائف المتحدة) إذ كل طائفة تشكل مجتمعًا منفصلًا عن الطائفة الأخرى؛ فتقوقعَ الإنسان داخل طائفته، وساد الشك والحذر والريبة بين أبناء البلد الواحد، وتزعزعت الثقة بل انتزعت، وظهرت الانقسامات الحادة بين أبناء البلد الواحد نتيجة تعدد الولاءات والتبعية السياسية؛ لذلك تجد الاختلافات والتباينات حتى على الصعيد الشكلي، فعندما تدخل منطقة لطائفة ما تجدها ترفع صور زعمائها أو مموليها، وترفع أيضًا شعاراتها التي لا تمت إلى الوحدة والإخاء والتلاحم بصلة، وأيضًا لا تعني تلك الشعارات للطوائف والأحزاب الأخرى أي اعتبار، هذا إن لم تعدَّها شعارات معادية وشخصيات عميلة، والعكس صحيح؛ حتى ترسخت الطائفية والسُلالية في أعماق الطفل والشيخ، وباتت مكونًا سياسيًا لمزاج الناس في هذا البلد. فهؤلاء يلطمون أنفسهم على إمام قتل، وأولئك يلومون أنفسهم على زعيم صرع، وهؤلاء يتباكون على منطقة أخذت من تحت سيطرتهم، وأولئك يتباكون على قائد خرج من صفوفهم، وهؤلاء يريدون السيطرة على الجيش، وأولئك يريدون السيطرة على الأمن لخدمة طائفتهم وزعيمهم.
وهذه (الديمقراطية التوافقية) بدولة (الطوائف المتحدة) عززت تدخل القوى الكبرى الخارجية في شؤون البلد ومصير أهله، ووصل بهم الأمر إلى الاستقواء المكشوف بالدول الإقليمية والأجنبية، وأصبحت بلدان المسلمين «فرق عملة» في سوق الصفقات والتسويات السياسية الكبرى فيما يعرف بـ«لعبة الأمم» وصار لزامًا على أهل البلد أن يترقبوا الدخان الأبيض في اللقاءات المتكررة التي يعقدها المبعوثون العرب والأجانب في تلك العاصمة أو هذه، ليعلموا ما إذا كانوا يستطيعون النوم، أم أن غيوم الصراعات الدولية والإقليمية ستمطر خرابًا ودمارًا في شوارعهم وبيوتهم؟ ففي خضم التدافع والصراع الدولي على المغانم الاستعمارية في الشرق الأوسط، لا زالت بلدان المسلمين وخاصة الشرق الأوسط دائمًا ساحة تنفيس وتصفية صراعات، ودأبت الدول الغربية على تبني قواه وأطرافه المحلية المتعددة والمتصارعة، مستفيدة من الناحية القبلية عند العرب، ومن التركيبة الطائفية التي بذرت بذرتها دويلات عميلة للصهيونية والصليبية، ومن هنا ليس عبثًا ولا مفاجئًا ما نقرؤه يوميًا في الصحف والإعلام المرئي والمسموع عن اللقاءات السرية والعلنية لقادات الفصائل والأحزاب بالمخابرات البريطانية والفرنسية والأمريكية، وعن تزاحم المبعوثين الغربيين والدوليين إلى سوريا وليبيا واليمن ولبنان، وعن المؤتمرات من سوتشي إلى جنيف ومن فينا إلى السويد حتى يكاد المراقب يعجز عن إحصاء الزيارات واللقاءات التي يقوم بها حشد الدبلوماسيين والقناصل والسفراء المحليين فضلًا عن الزوار الذين تزدحم أجندة السياسيين بمواعيد زياراتهم.
ومما يثير العجب من الأطراف المتنازعة بحدة، أنها تغرق في النزاع على السلطة فيه، مستخدمة كل ما تملك من قدرات وطاقات حتى يظن أنها تتنازع على كوكب مستقل عن سائر العالم اسمه لبنان أو اليمن …إلخ مع أن كل طرف على استعداد لهدر كل ما بذله من طاقة وجهد، بل ودماء عند أدنى إشارة تأتيه من إحدى العواصم الدولية أو الإقليمية تبدل بوصلته واتجاهه!!.
إن التوافق مفقود في بلاد المسلمين لعدم وجود حكم الإسلام، ولعدم التزام الناس بالنظام العام الذي يفرضه الإسلام ودولته، ولعدم وجود الغاية الكبرى والقضية المصيرية لدى الجماعات والأحزاب والطوائف، فهم يرون فقط مصالحهم الخاصة ولا يهمهم مصلحة الإسلام والأمة والدولة الإسلامية، فالرئيس يتم التوافق عليه بناء على كلمة السر التي تأتي من الخارج، وإن لم يلتزموا بما يملى عليهم فعليهم أن يعانوا من تفجير دموي واسع يدفعهم إلى استجداء السلام والأمان والقبول بالإملاءات الخارجية، واستجداء الطعام والدواء من منظمات أسيادهم الذين أشعلوا الحروب عن طريقهم، والقادم لا يبشر بعهد جديد، ولا جديد فيه سوى بعض الشكليات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. والذاكرة لم تنسَ خلال مائة سنة مضت كيف كان التغيير للحكام والأنظمة التي لم يكن هناك جديد فيها سوى شكليات. والآن هناك حكام جدد (تحت التدريب) سوف تكون لهم دعاية كبيرة، وتزيين فظيع، وسوف يأتون بهم بعد أن ييأس الناس حتى يصلوا إلى القول «ليحكمنا يهودي» المهم خلصونا من هذه الفتن والأزمات والمصائب التي ألمت بنا بسببكم، فيخرجون المخلص من القمقم، ويأتون به ليكمل مشوار من سبقه في حكم الأمة بالتخلف والتضليل والفساد والإفساد والتأخر، ويستمر في خدمة أسياده من إنجليز أو أمريكان أو فرنسيين. والواضح أن كل بلد إسلامي ليس أكثر من حجر على رقعة الشطرنج ، وأن ليس له إلا أن يكون أداة في خدمة مصالح الدول الغربية التي لا تنفك تتصادم من حين لآخر، متخذة من حكام الدول الإقليمية أدوات تنخرط في حروب ونزاعات بالوكالة لصالحها. وحيث يشكل اليمن أو لبنان أو العراق أو سوريا أو ليبيا …إلخ الساحة الفضلى لتصفية هذه النزاعات الدولية، وتسخيرها دائمًا لتصفية خلافاتهم، وإلهاء الأمة بتلك الصراعات حتى لا تفكر يومًا ما في قضيتها المصيرية، وما إن ينتهوا من مخطط سياسي حتى يبدؤوا بآخر، وما إن ينتهوا من مؤامرة حتى يبدعوا في مؤامرة جديدة، وما إن يضعوا خطة اقتصادية حتى يأتوا بغيرها (الخطة الدولية المستدامة 2030م) ، وما إن تنتهي شعبية طائفة أو فصيل أو حزب حتى يأتوا بفصيل جديد، فعلًا إنه (زمن الملهاة)!!.
لقد جُربت العديد من الصيغ التوافقية ولكنها باءت بالفشل، ولم توجد مجتمعًا مستقرًا ولا تنمية مستدامة، لقد وُضع الميثاق الوطني على أساس إيجاد رابطة بين أهل اليمن من تجمع شملهم وتعزز أواصر العلاقات فيما بينهم بحيث تقضي على عوامل الفرقة والنزاع، وبالتالي درء خطر الحرب الأهلية من جديد، وبعبارة أخرى إنشاء «مجتمع يمني» واحد، ينصهر فيه الناس على اختلاف أحزابهم وطوائفهم ومناطقهم واتجاهاتهم في بوتقة واحدة، وأن الوثيقة على أساس المحاصصة وإعادة توزيع المناصب على نحو أكثر توازنًا فيما بينها، وعدُّوا تلك الوثيقة إنجازًا تاريخيًا في حينه، وظنوا أن ما كتب في النصوص سينعكس توثيقًا لها في النفوس، والحقيقة كانت عكس ذلك، والأصل أن ما يدوَّن في الوثائق يجب أن يكون معبرًا عن ثقافة وقناعات سبق ورسخت لدى المجتمع الذي سيطبق عليه الدستور، فالدساتير لا تصنع الأمم، وإنما يفترض فيها أن تعبر عن ثقافتها وأعرافها وتطلعاتها، وتساهم في الحفاظ على هويتها حين ترعى شؤونها بالقوانين المتفرعة عنها، فهل ساهمت هذه الوثيقة حقيقة في تكوين «مجتمع يمني متجانس»؟! ولماذا عادت الطوائف والحركات المناطقية والجهوية؟!.
ثم ظهرت اتفاقات أخرى كاتفاقية الوحدة والسلام، ووثيقة العهد والاتفاق، واتفاقية السلم والشراكة، واتفاقية الشرف القبلي، ووثيقة الحوار، والدساتير المتغيرة والمتعددة والمتجددة، والإعلانات الدستورية، والرؤية الوطنية، والمبادرات الوطنية وغيرها، فهل حلت المشكلة، أم أنها ولدت العديد من المشاكل والأزمات المستعصية؟!.
لقد أثبتت الأحداث المأساوية الأخيرة في اليمن من (2011-2020 م) وإلى يومنا هذا أن ظاهر الاستقرار الشكلي الذي عرفه اليمن خلال ثلاثين عامًا تخللته الحروب والفتن والمشاكل، وكان ظاهر الاستقرار مؤقتًا لسلطة عسكرية فرضت على الأطراف اليمنية من خارج اليمن، ولم يكن معبرًا عن أية نشأة لمجتمع جديد مستقر، ولم تكن المواثيق والمؤتمرات وآخرها مؤتمر الحوار (مؤتمر موفمبيك) سوى صيغة (قديمة – جديدة) لأفكار المستعمرين، والمشكلة الكبرى أن هذا الصراع أخذ شكلًا طائفيًا، الصراع (السني – الشيعي) امتدادًا للمشهد الدموي في العراق الذبيح، أو المشهد السياسي في لبنان الغريق، أو للمشهد الدموي في اليمن الصريع؛ مما أدى إلى التخبط ومحاولة تسويق فكرة الفيدراية والمناطقية الطائفية، في محاولة منها لتوفير بيئة سياسية جديدة تستفرد به الدول الاستعمارية، وتلهي المسلمين ردحًا من الزمان بمشاريع ضيقة منحطة عن غايتهم العظمى.
إن تنوع الآراء الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وتعدد الانتماءات السياسية والفكرية والاجتماعية فيه، وتعدد الاجتهادات الشرعية، لا تعني غياب التعايش والتفاهم والحوار والوئام، ولا يعني غياب الولاء للإسلام في المجتمع الإسلامي بحيث يسعى كل تنوع إسلامي إلى الإثراء الفكري والثقافي، والتبني من معين الإسلام النقي الصافي، منفتحًا على التبنيات والاجتهادات الشرعية الأخرى ما دامت منبثقة من العقيدة الإسلامية ومبنية عليها، وبالتالي يجب التمييز بين الانتماءات والقبول بالآخر مادام اجتهاده شرعيًا، أو مقلدًا لمجتهد، أو متبنيًا أحكامًا وآراءً من الإسلام، وبين أفكار ومفاهيم ليست من الإسلام، ولم تبنَ على أساس العقيدة الإسلامية.
وهذا هو الذي يحفظ العيش المستمر والمستقر، محافظًا على قيم المجتمع ووحدته، ويكون هدف هذه الانتماءات واحد، وغايتهم واحدة، ولن تجمعهم إلا دولة تتبنى الإسلام عقيدة وشريعة، حكمًا وتنفيذًا وتطبيقًا. فالتعدد المجتمعي ليس مبررًا للفراق والشقاق بين أبناء المسلمين، بل إن مشروع الأمة العظيم يرتفع فوق الجميع، والقرآن والسنة فوق التنوع المجتمعي، ومصدر الدستور والقوانين، بضوابط وشروط محددة ومقيدة وليست مطلقة، فأحكام أصول الفقه وعلم الحديث واللغة العربية هي شروط تبني الأحكام وفهمها والدعوة إليها، وبهذا نتجاوز حالات التشظي السياسي والطائفي ونظريات التفتيت والتقسيم، ويؤدي إلى الأمن والأمان والعيش الكريم بعيدًا عن التعصب الممقوت، والكراهية البغيضة، والتحارش والتأليب، والتكفير والتفسيق، واستحلال الدماء والأموال والأعراض، وتكون النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أساس العلاقة بين الانتماءات المختلفة، والأصل أن يلتقي المسلمان بعقليهما لا بسيفيهما، ما لم تكن هذه المفاهيم مترسخة لدى الجماعات والأحزاب، ومطبقة لها ظاهرًا وباطنًا، سرًا وجهرًا، أمام قياداتها وخلفها، حتى لا ينطبق عليهم قول الله تعالى: ( هَٰٓأَنتُمۡ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا يُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ عَضُّواْ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۚ قُلۡ مُوتُواْ بِغَيۡظِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ).
وإذا كانت العلاقات سطحية رمزية لا تتعدى الظاهر، وهي انتماء للجسد دون القلب والعقل، ودون الروح؛ فإنها المصيبة العظمى والطامة الكبرى؛ لأن المجتمع الذي يثير النعرات والانقسامات في وسطه إنما يدمر شروط قوته ومنعته وتقدمه، قال تعالى:(وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ)ولقد عاش المسلمون في العالم الإسلامي ضمن سلطان ودولة الإسلام الكبرى، وكانت تضم شعوبًا متعددة يربط بينها الولاء للإسلام ودولته الخلافة، ورغم أنها كانت تضم خليطًا من الأجناس والشعوب، فلم تكن تلك الأجناس قادرة على إنشاء عصبيات وولاءات أو انتماءات خارج النظام العام الذي فرضته الدولة بالفكر والعدل والسيف، وكانت ذات صلة وثيقة بالمبدأ والدولة، محافظة على المجتمع والدولة، مجاهدة في سبيل الله، طائعة ومنقادة، ومشروع الأمة العظيم نصب أعينها، تضحي بالغالي والنفيس في سبيل الله، وتترفع عن مشاريعها الشخصية الصغيرة خدمة للمشروع الكبير وهو تطبيق الإسلام في الداخل وحمله رسالة للعالم بالدعوة والجهاد؛ ولهذا إذا فقدت الدولة رسالتها وهيبتها فإن الانتماء إلى جماعة المسلمين سوف يضعف، وسوف تبحث الأمة بجماعاتها وانتماءاتها إلى التعويض عن ذلك بالانتماء إلى الجماعة القبلية أو العائلية أو الطائفية أو حتى الارتباط بالخارج والعمالة للعدو!! [انتهى]
2020-11-01