من فقه التجديد: الصناعة مورد جديد لبيت مال المسلمين
2020/08/04م
المقالات
2,235 زيارة
يوسف الساريسي
في سياق البحث العملي في الهيكلية المالية لموارد الدولة الاسلامية وإيراداتها التي ترفد بيت المال من أموال الفيء والخراج والجزية والعشور والخمس والزكاة، وبهدف تجنُّب احتمال حدوث الإفلاس المالي، إن لم تفِ مواردها بما تحتاجه من نفقات متصاعدة، بسبب التطور الهائل في وسائل الحياة وأشكالها المدنية لا سيما ما يتعلق منها بالأسلحة الحربية والصناعات الثقيلة ومشاريع البنية التحتية؛ ولهذا بدأ التفكير الجدي في كيفية توفير موارد اضافية للدولة حتى لا تسقط في بحر الفقر والعوز، وبالتالي فلا تستطيع أن تؤدي رسالتها، ولا أن تقوم بدورها كدولة تحمل رسالة هداية لغيرها من الأمم. فهل نستطيع الإتيان بمورد شرعي جديد لبيت المال يحل هذه المشكلة، لم يذكر من ضمن الأحكام الشرعية المتعلقة بموارد بيت مال المسلمين سابقًا؟ ويكون فيه إبداعًا في حل المشكلات التي ستواجه دولة الخلافة مستقبلًا بواقعية عملية.
الخراج: كان الحل العبقري لايجاد مورد جديد لبيت المال:
كانت مسألة عدم كفاية موارد بيت المال لتغطية المهمات الكبيرة الواجبة على الدولة هاجسًا كبيرًا للفاروق عمر رضي الله عنه، وهو أمر شغل باله وأرَّق مضجعه. فأدرك ببصيرته السياسية والإدارية الثاقبة أنه لا بد من وجود مورد إضافي ودائمي ثابت لبيت المال؛ حتى تتوفر الأموال التي تخرج منها الأعطيات، وينفق منها على مصالح الدولة والجهاد والجيوش، وإطعام الفقراء، والإنفاق على كل الجهات والأبواب الواجبة؛ لذلك قام رضي الله عنه بفرض الخراج على الأراضي الزراعية في البلاد التي فتحت عنوة كالشام والعراق ومصر، ومنع توزيعها على المحاربين كغنائم لايجاد مورد مالي ثابت لتغطية نفقات الدولة المتزايدة، مع العلم أن بعض الصحابة اعترض على ذلك.
لقد بات واضحًا أن حالة عجز بيت المال وقلة موارده هي حالة ممكنة وواقعية، وقد كادت تحصل في الماضي وتم حلها بالخراج؛ ولكنها يمكن أن تحصل في دولة الخلافة القادمة نتيجة التطور الهائل في مدنية العالم المعاصر؛ وعليه فإنه يجب حلها بالاجتهاد وفقه التجديد بعد فهم الواقع وتحقيق المناطات ذات الصلة للخروج بحلول لموارد بيت المال، وبما يحقق فوائض مالية إن أمكن.
الأوقاف الخيرية: فكرة ابداعية في حل مشكلات تمويل حاجات الجماعة:
يجدر بالذكر هنا أن المسلمين في تاريخهم الطويل قاموا بإبداعات عظيمة وكثيرة، لحل مشاكل تمويل حاجات جماعة المسلمين، مثل فكرة «الوقف» الإبداعية، فالمسلمون أيام عزهم ومجدهم استطاعوا التغلب على كثير من مشاكلهم بحلول إبداعية غاية في الروعة ما زالت آثارها قائمة حتى بعد هدم دولة الخلافة، وكان من جملة هذه الحلول الإبداعية الأوقاف للمنافع العامة للمسلمين؛ حيث يقف بعض الأغنياء بعض العقارات والأراضي والأموال لمصالح معينة، حسب حث الرسول عليه السلام في حديثه الشريف للمسلمين بعمل صدقة جارية في قوله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، فقام المسلمون اتباعًا لهذا الحديث بعمل صدقات جارية كثيرة، وكان من أبرز أشكالها الأوقاف الخيرية.
البحث عن موارد إضافية لبيت المال:
لا بد من القول بأن أمراء الدعوة الثلاثة وقفوا على هذه الإشكالية. فمن جهته، قام الشيخ عبد القديم زلوم ،رحمه الله، في كتاب «الأموال في دولة الخلافة» بطرح هذه المشكلة، وتصدَّى لعلاجها حينما ناقش كيفية تغطية أي نقص في الإنفاق من خلال طرق ثلاثة هي: الاستقراض، والحِمى، والضرائب. أما الاستقراض فمرفوض كخيار بسبب اقترانه بالربا، فضلًا عن جعله للكافرين سلطانًا على المسلمين. أما الحِمى والضرائب فهما من الإجراءات الشرعية بضوابط معينة ومؤقتة. وقد اعتمد فيهما على الاجتهاد الشرعي بدليلين:
الأول: اجتهد بجواز أن يعمد الخليفة بحِمى بعض أنواع الملكية العامة مؤقتًا، لتوفِّر الدولةُ منها دخلًا ماليًا إضافيًا لبيت المال، واستند فيه إلى حكم الخراج، فيجوز للخليفة من باب أولى أن يحمي ما هو من الملكيات العامة لينفق منه على الجهات التي يجب الإنفاق عليها، في حالة عدم وجود مال في بيت المال، فتحمي الدولة بعضَ آبار النفط ثم تنفق أموال الحمى للإنفاق على الجهات الواجب الإنفاق عليها.
الثاني: وجوب الإنفاق على السلاح والجيش للجهاد في سبيل الله، فعند خلوِّ بيت المال يجوز للخليفة أن يفرض على جماعة المسلمين ضريبة معينة، أو أن يقوم بتحصيل هذا المال من واردات الملكية العامة التي هي ملك للجماعة، بأن يحمي منها ما يغطي هذه النفقات بدلًا من الضرائب.
والمستند الشرعي للحمى والضرائب، هو أن بعض الأحكام كالجهاد وإطعام الفقراء هي من الواجبات الكفائية على الأمة، فوجب عليها توفيرُ الأموال اللازمة لها في حالة العدم. غير أن كلا الخيارين مؤقتان، وليسا موردًا دائميًا كالخراج؛ لذلك أصبح لا بد من البحث عن مورد دائمي جديد لبيت المال لتمكين الدولة من الاضطلاع بمسؤولياتها.
مورد جديد ودائم لبيت المال: صناعات الدولة الثقيلة:
بعد البحث والمراجعة والتفكير في مسألة إيجاد مورد جديد ودائم لبيت المال، ليغطي النفقات الباهظة للصناعة الحربية والجيوش، لوحظ أن الخراج كمورد دائمي لن يكون كافيًا لتغطية النفقات اللازمة، بعد التطور المدني الهائل في الصناعات والتكنولوجيا والأسلحة.
فحين نتعمق في حكم الخراج الذي ضرب على الأرض الزراعية، نجد أن الزراعة كانت قديمًا هي المورد الرئيس للأفراد والدول، أما الصناعة فقد كانت تقتصر على حِرف يدوية وآلات بسيطة مما يلزم أساسًا للحروب وللزراعة وللأدوات المنزلية وغيرها. فلم تكن هناك صناعات حقيقية بالشكل الحديث، وقد كانت الصناعات اليدوية والحِرفية أمرًا ثانويًا في مداخيل الأفراد والدولة. واليوم لا تشكل الزراعة سوى ما نسبته 3% أو أقل من موارد الدول الصناعية الحقيقية، ويعمل فيها أقل من 3% من الأيدي العاملة. أما الصناعة فهي تشكل عصب الاقتصاد والمورد الرئيسي للأموال في غالب الدول، ولذلك يلزمنا التفكير في الصناعة كمورد لبيت المال.
أهمية الصناعة ودور الدولة فيها:
لما اهتدى الإنسان إلى استخدام البخار في تسيير الآلات، أخذ المصنع الآلي يحلُّ محلَّ المصنع اليدوي. ولما جاءت الاختراعات الحديثة حصل انقلاب خطير في الصناعة، فزاد الإنتاج زيادة عظيمة، وغدا المصنع الآلي من أسس الحياة الاقتصادية.
التقط الإمام المجدد تقي الدين رحمه الله، في كتابه «السياسة الاقتصادية المثلى» هذه الأهمية للصناعة فقال: كل ما هو داخل في الملكية الفردية، فإن للدولة أن تملك مثله كما يملك أي فرد. حتى في العصر الحديث، هناك أشياء من الملكية الفردية تكون مملوكة للدولة واقعيًا ولا تكون مملوكة للأفراد، كمصانع الآلات التي تنتج الآلات ومصانع السيارات ونحوها مما يحتاج القيام به إلى أموال ضخمة، فإنه لا يتأتَّى أن يقوم بمثل هذه الصناعات إلا الدولة؛ لأنها هي التي تملك الإمكانيات لمثل هذه المصانع؛ ولذلك درج الغرب على إنشاء شركات المساهمة التي يتيح نظام تكوينها أن تجمع أموالًا ضخمة تستطيع أن تؤسس… مثل هذه الصناعات. ولكن الإسلام يحرم شركات المساهمة، ولهذا فإنه لا يمكن – حسب أحكام الشركات في الإسلام- أن تنشأ شركة أفراد تمتلك أموالًا ضخمة تقدر على إنشاء مصانع كبرى، فلا يبقى قادرًا إلا الدولة على ذلك، فتكون هذه المصانع -وإن كانت ملكية فردية- ولكن لضخامة نفقاتها، سوف لا تكون إلا للدولة.
وورد في كتاب الأموال فيما يتعلق بالمرافق العامة التي توفرها الدولة للناس بمقتضى الرعاية، بأنها تشتمل على: الخدمات البريدية، والمصرفية، ومرافق النقل العام، والمصانع. وذكر أنه لما كانت الأسلحة الثقيلة اليوم لم تعد أسلحة فردية يملكها الأفراد كما كان الحال سابقًا، بل أصبحت مملوكة للدولة؛ لذلك كان الواجب يفرض على الدولة أن تقوم هي بإنشاء مصانع لصناعة الأسلحة وللصناعات الثقيلة.
الدليل الشرعي على وجوب إنشاء الدولة للصناعات:
يعتبر الخليفة أنه نائب عن الأمة في الحكم والسلطان وفي تنفيذ أحكام الشرع، وقد جعل الشارع مسؤولية رعاية الشؤون اللازمة للجماعة من واجبات الخليفة، كإيجاد المرافق العامة وغيرها. وكذلك كل ما كان واجبًا كفائيًا على الأمة ويعجز عنه الأفراد كان واجبًا على الدولة القيام به نيابة عن الأمة، عملًا بالقاعدة الشرعية: (ما لا يتم الواجب به فهو واجب).
فالجهاد فرض على المسلمين، وإنشاء مصانع الأسلحة اللازمة للجهاد يعتبر واجبًا كفائيًا عليهم من باب دلالة الاقتضاء، وهذا الواجب ينتقل وجوبه على الدولة عند عجز الأفراد عن القيام به. ويقتضي أيضًا إنشاء البنية الصناعية اللازمة للأسلحة، وهي لا تتم إلا بوجود البنية التحتية الصناعية للآلات التي تصنع الآلات ولمصانع تصنيع المواد اللازمة للتسليح، كمصانع الحديد النحاس والرصاص والبارود وغيرها من المواد.
والتصنيع كذلك هو من الواجبات الكفائية على الأمة، ولا يتم هذا الواجب إلا من خلال إنشاء البنية التحتية الصناعية، وما دام هذا الواجب يعجز الأفراد عن القيام به فينتقل الوجوب للدولة، فعلى الدولة أن تقوم بإنشاء البنية التحتية اللازمة للصناعة وإقامة المصانع الثقيلة التي يعجز الأفراد عنها. أما الصناعات التي يستطيع الأفراد إنشاءها، فالأولى أن لا تقوم الدولة بالمنافسة الصناعية والتجارية للأفراد؛ لأنها دولة راعية للشؤون وليست تاجرًا.
أرباح الصناعات الثقيلة:
عندما تباع السلع والمنتجات التي تنشأ عن المصانع المملوكة للدولة في الأسواق الداخلية والخارجية، تحصل الدولة منها -بشكل طبيعي- على أرباح تكون موردًا إضافيًا لبيت المال. وتحصل الدولة أيضًا على أرباح بيع بعض الأسلحة للخارج، بشرط أن يكون في بيع السلاح مصلحة للمسلمين ولا يشكل إمدادًا أو إعانةً للعدو، ولا يصل لمن يلي دار الإسلام من المحاربين حكمًا وكانت سياسة حمل الدعوة تقتضي فتح هذه البلاد قريبًا. وبالتالي تحقق المصنوعات المدنية والأسلحة أرباحًا تكون موردًا إضافيًا لبيت المال، وتوضع ضمن واردات ديوان الفيء والخراج.
فتكون الصناعة أحد الموارد الهامة لتغطية نفقات بيت المال، فتغطي ما يلزم من نقص محتمل لنفقات الصناعات الحربية وشحن الجيوش الإسلامية. فضلًا عن أن هذا المورد الجديد -أي الصناعة- يواكب التطور الصناعي الحديث؛ إذ ليس من الحكمة والكياسة ترك مورد اقتصادي رئيس كهذا دون أن يكون منه عائد لبيت المال.
غير أنه يمكن أن تواجهنا عقبة في توفير الأموال اللازمة ابتداء لإطلاق عملية التصنيع الحربي والثقيل. خصوصًا وأننا نتكلم هنا عن تأسيس وإنشاء الصناعة ابتداء، فلا بد من علاج لهذه العقبة أولًا.
توفير الأموال اللازمة للصناعات الثقيلة والصناعات الحربية:
إذا كانت أرباح الصناعات الثقيلة والحربية هي المورد الجديد الذي سيغطي جزءًا من موارد الدولة المالية، يقفز إلى الذهن سؤال وهو: كيف يمكن توفير رأس المال اللازم والكافي لبدء تلك الصناعات وإطلاقها ورعايتها بالحصول على التكنولوجيا المتقدمة وتوفير المواد الخام وتدريب المؤهَّلين حتى تبدأ تلك المصانع بالإنتاج؟
ويتم التصدي – في رأينا – لهذه الإشكالية لتوفير المال اللازم لإطلاق الصناعات الثقيلة والحربية بالطرق التالية:
أ- جواز اشتراك الأفراد مع الدولة في المصانع الثقيلة:
ينتج عن بعض موارد الملكية العامة كالنفط والغاز والذهب والحديد وغيرها أموال توزَّع عينًا أو نقدًا على رعايا الدولة، ويمكنهم إنفاق هذه الأموال في شؤونهم الخاصة أو استثمارها. وهناك طريقة مناسبة لاستثمار الأموال التي تفيض عن حاجة الناس في الصناعة، فيمكن أن يصار إلى إنشاء «صندوق خاص بأموال الرعية من الملكية العامة»؛ بحيث توضع في هذا الصندوق الأموال الناتجة من الملكية العامة، تكون رصيدًا لأفراد الرعية يخصم منه أثمان الكهرباء والمياه وخدمات المجاري والنفايات وغيرها، وما تبقَّى من أموال، يمكنهم استثمارها في مصانع الدولة بدلًا من استلامها نقدًا.
ب- تشجيع رعايا الدولة على استثمار أموالهم في مصانع الدولة الثقيلة:
تقوم الدولة بتشجيع الأفراد وبالأخص الأغنياء من أصحاب رؤوس الأموال – برضاهم واختيارهم – للاشتراك في مصانع الدولة، وفي هذه الحالة يكونون «شركاء مال» في هذه المصانع.
وهذه المشاركة من الرعية للدولة في المصانع الثقيلة تحقق عددًا من الأهداف:
توفير جزء من الأموال اللازمة لتمويل إنشاء وتشغيل المصانع الثقيلة.
تجنُّب فرض ضرائب على الأمة، بغرض إنشاء الصناعات الثقيلة ابتداء، إلا في حالات الضرورة، وهذا المخرج المذكور يوفر بعض الأموال دون الحاجة للضرائب أو يخفف منها.
حل مشكلة كنز المال الذي حرمته الشريعة، وهو مخرج -بشكل مخصوص- للأفراد الذين لا يستطيعون استثمار أموالهم.
انتفاع الدولة وشركائها من أفراد الأمة من أرباح منتجات الصناعات الثقيلة، مما يرفع من مستوى معيشتهم.
ج – استفادة بيت المال من مورد الزكاة
يستفيد بيت المال من الزكاة الواجبة على أرباح بيع منتجات هذه الصناعات من المسلمين، في حالة تحققت الشروط الشرعية لدفع زكاة عروض التجارة.
سياسة الدولة بين الرعوية والربح التجاري
إن المحرك الأساسي للصناعات المدنية -في العادة- هو الربح، ولكن قيام الدولة باستغلال أملاكها وبيع مصنوعاتها يجب أن يغلب عليه جانب رعاية شؤون الناس بقضاء مصالحهم وتوفير حاجاتهم، فيجب أن تكون الصناعات التي تنشئها الدولة يقصد منها جانب رعاية شؤون الناس؛ لأن الأصل هو الرعاية وليس التربُّح؛ فلا تكون الدولة تاجرًا أو منتجًا أو رجل أعمال.. وليس معنى القول بأن الرعوية وليس الربح هي المحرك الأساسي للصناعة، أن يؤدي ذلك إلى خسائر للدولة، فتغدو الصناعة عبئًا على بيت المال بدلًا من أن تكون موردًا له. وإذا كانت الصناعة كمورد مالي قد تتنازعها هاتان النظرتان، فإن حلَّ هذا التعارض الظاهري يكون بقيام الدولة بتغليب جانب الرعاية، من خلال الإجراءات التالية:
تلبية حاجات الأمة الأساسية والكمالية مما هو غير متوفر في الأسواق بشكل عادي.
التركيز على إنشاء الصناعات الثقيلة التي يعجز عنها الأفراد.
تقصد الإنتاج في الصناعات غير المرغوبة من الأفراد، لعدم وجود ربح مناسب، أو أن فيها مخاطرة عالية، أو يحتاج إنتاجها لوقت طويل.
منع تحكم فرد أو جهة في سلع أساسية لازمة للناس، فيكون بمثابة الاحتكار.
كسر احتكار الدول الخارجية للسلع الأساسية التي يلحق فقدانها ضررًا بالأمة.
أن تكون أسعار منتجات مصانع الدولة ملائمة لقدرة الناس، وليست أسعارًا تجارية.
بيع السلع خارجيًا بأسعار مناسبة للدول التي نطمع بنشر الدعوة فيها تأليفًا لقلوب أهلها.
والدولة ستجني أرباحًا من بيع المنتجات الصناعية في كل الأحوال، وهي تأتي كتحصيل حاصل وكأمر ثانوي وتابع لعمليات البيع والتجارة وفقًا للنظرة الرعوية. وهذه الأرباح ستشكل موردًا جديدًا ودائميًا لبيت المال، ينفقه الخليفة على رعاية مصالح الناس وعلى الجهاد في سبيل الله.
تجنب الفساد المالي في الدولة
تحصينًا لرجال الدولة من أي فساد مالي، يجب حظر قيام الولاة ورجالات الدولة بالمتاجرة أو منافسة أبناء الأمة في أعمالهم التجارية؛ لأن قيام الدولة باستغلال أملاكها يجب أن يظهر فيه جانب رعاية شؤون الناس؛ لذلك، وحتى لا يصبح رجال الدولة تجارًا ورجال أعمال أو محتكرين أو فاسدين، خاصة في ظل الصناعات الثقيلة المملوكة للدولة والتي تدرُّ أرباحًا طائلة لبيت المال، مما قد يُغري بعض ضعاف النفوس وقليلي التقوى من موظفي الدولة، فيكون ذلك مدخلًا للفساد المالي! فالأحوط فصل صناعات الدولة عن تحكم الولاة والعمال؛ فيصار إلى منعهم من التدخل في شؤون هذه الصناعات ماليًا.
كان عمر رضي الله عنه يحصي على الولاة والعمال أموالهم قبل أن يوليهم وبعد انتهاء ولايتهم، فإن وجد عندهم مالًا زائدًا أو حصلت عنده شبهة في ذلك صادر أموالهم أو قاسمهم عليها.
ورد في كتاب الأجهزة أن إدارة المصانع الثقيلة يقوم بها «مدير عام شؤون صناعات الدولة»، فهو المكلف من الخليفة بالإشراف على جميع شؤون الصناعات التابعة للدولة، وعلى بيع هذه المنتجات داخليًا، وربما خارجيًا. ويجب أن تكون جميع نفقات الشؤون الصناعية وأرباح منتجاتها خاضعة لمساءلة ومحاسبة خازن بيت المال، وأن تتوفر بشفافية جميع البيانات والمعلومات عند طلب مجلس الأمة أو بعض أفرادها لذلك؛ إذ إن من حق هذا المجلس محاسبة الحكام والمدراء ومساءلتهم عن جميع الواردات والنفقات في الدولة. كما ويجب أن تتبنى الدولة في نظام العقوبات أحكامًا تعزيرية مشدَّدة على من يثبت فساده المالي من الحكام (مال الغُلول)
خاتمة:
وعليه يتضح بأن الصناعة ستشكل موردًا جديدًا ودائميًا لبيت المال، يجنب احتمال قصور موارد الدولة الأخرى عن سد النفقات اللازمة للتسليح والجهاد، ويجنب الدولة القيام بفرض ضرائب أو حمى الملكيات العامة. فضلًا عن أن بناء الدولة صناعيًا يرفع من مستوى الأمة اقتصاديًا، ويجعلها ذات شأن أمام الأمم الأخرى؛ مما يساعد في حمل الدعوة، وفي صيرورة الدولة الإسلامية نموذجًا ناجحًا يُحتذى به في تطبيق أنظمة الإسلام ويُسعى لتقليده. وهو في الوقت نفسه يوضح للمسلمين معنى فقه التجديد، ومعنى الإبداع في حل المشكلات.
ندعو الله تعالى أن يعجل بقيام دولة الاسلام التي يُعَز فيها المسلمون، وأن يكون إمامها جنة لهم يقاتَل من ورائه ويتَّقى به، فينشئ لهم الصناعات الثقيلة التي تنهض بالاقتصاد وتسعد العباد، ويقوم بإعداد القوة اللازمة التي ترهب عدوهم، وتعينهم على فتح بلاده. اللهم آمين .
2020-08-04