حزب التحرير: دعوة راشدة… عابرة للتاريخ والجغرافيا والمستقبل
2014/07/29م
المقالات
2,435 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
حزب التحرير: دعوة راشدة… عابرة للتاريخ والجغرافيا والمستقبل
د. ماهر الجعبري
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
حزب التحرير هو بكل بساطة دعوة لفكرة، وهي فكرة عقدية سياسية شرعية منغرسة في أعماق أمة تمثّل ما يقرب من ربع سكان الأرض. هذه الحقيقة الفكرية والديمغرافية لوحدها كفيلة -لدى علماء السياسة والتاريخ- باستشراف مستقبل هذه الدعوة مهما تكالبت قوى الاستعمار على منع بلورة هذه الدعوة في دولة. وهي حقيقة تكشف عن نتيجة الحرب التي يشنها الغرب الرأسمالي على عقول وقلوب المسلمين مهما طالت، ومهما حشد لها من قوى ومن مقدرات، وقد قيل: -لا يمكن لجيش جرار أن يهزم فكرة آن أوانها.
وعندما تجتمع هذه الحقيقة مع واقع حزب عالمي عابر للشعوب والقارات أدرك مبكراً أهمية بناء الشخصية القادرة على حمل أعباء تلك الدعوة، ومع وعد من الله سبحانه وتعالى بنصر الصابرين من عباده واستخلافهم بالأرض، ومع بشرى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة بعد هذا الحكم الجبري المتسلط، نكون أمام مستقبلٍ بيّنٍ جليٍّ مشرقٍ بنورِ اللهِ وخيِّرٍ بوحيه.
هذا المقال يسلط الضوء على بعض جوانب تميّز حزب التحرير في عمله السياسي، وفي حمل دعوة عالمية يسعى من خلالها لتغيير وجه الأرض، في غاية طموحة لا تحدّها الحدود ولا تعيقها السدود.
البنــاء الحــزبــي
يلاحظ المتابع السياسي المنصف أن حزب التحرير تمكّن بالإسلام من بناء جيل إيمانيّ يكافح بكل ثقة من أجل تطبيق القرآن دستوراً فعلياً لدولة إسلامية، ويسعى بكل قوة لاحتضان الأمة له: مسلمين وعلماء ووجهاء وأهل قوة… وهو في طور اكتمال نجاحه في تلك المهمة رغم ما يواجهه من عداء عالمي وتعتيم إعلامي، وما نجاحه هذا إلا لأنه أدرك أهمية أربعة جوانب في بناء ذلك الجيل، وهي:
1) الجانب العقدي: إذ عمل حزب التحرير على البناء الفكري على أساس عقيدة تملأ العقل قناعة وثقة، والقلب طمأنينة وراحة، فكانت أساسَ بناء شخصية قوية مؤثرة، لا تعرف التردد ولا التشكك، ولا تقبل أو تركن للهزيمة؛ لأنها تدرك باستمرار أن وراء الأحداث حكمة إلهية، وبعدها وعداً بالجنة مهما كانت تلك الأحداث مؤلمة.
2) الجانب السياسي: إذ أدرك حزب التحرير مفهوم السياسة بأنها رعاية مصالح الناس، وهو تأسس على مفهوم سياسي للآية ] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [، فكان حمل الخير للمسلمين أساس الدعوة وهو عمل سياسي لا يتوقف، بناء على ذلك أسس الحزب جيلاً يفكر بالغير ويهتم بأموره، وهذه الصفة الإسلامية تجعل المسلم مرتبطاً بالسياسة، ولا يمكن أن ينفك عنها أو ينعزل في صومعة مهما أغرته فيها نعومة التسابيح الخالصة لله، وصفاء القيام وطهر الصيام، بل جمع شباب الحزب بين السياسة التي تجلب الخير للناس وبين التسبيح والصيام والقيام الذي يجلب الخير للنفس التواقة للجنة.
3) الجانب الشرعي: إذ التزم فقهاء الحزب ومجتهدوه نصوص الإسلام لاستنباط حكم لكل عمل مرتبط بذلك الدور السياسي في حمل الدعوة، وجهدوا أن تكون الأحكام الشرعية المتبناة مستنبطة استنباطاً شرعياً صحيحاً، فمنع بذلك تسرب التفكير المصلحي لأدبيات الحزب وعقليات شبابه، وحافظ على وضوح المقياس الشرعي للأعمال والأقوال، ونتج عن ذلك ثبات على المواقف والنهج.
4) فعالية الإدارة: إذ انتبه حزب التحرير إلى أهمية الإدارة السليمة والأساليب الناجعة في أداء الأعمال، ولقد تكررت شهادة المتابعين لنشاطاته حول فعاليته الإدارية عبر مشاهداتهم الحسية لكيفية تنظيمه للأعمال الجماهيرية الضخمة، وحول اهتمامه بالتفاصيل التي تمنع الفشل وتسير طبيعياً نحو النجاح. وهذه الملاحظات كانت في الجانب المرئي من إدارة الحزب، ولا شك أن الجانب الآخر في متابعة تفاصيل عمله اليومي تتضمن إدارة فعالة مميزة غير معايَنة من قبل الناس، إذ يكاد يكون الحزب العالمي الوحيد الذي تدار أعماله كلها عبر قنوات سلسة ومتسلسلة ومترابطة، تعود كلها إلى أميره العالم عطاء بن خليل أبي الرشتة.
إذن نحن أمام حزب عقدي سياسي شرعي فعّال، تمكّن من بناء جيل مميز بكل المعايير، وصار هذا الجيل رصيداً حضارياً من القدرات البشرية يمثل أهم المقدرات لصناعة مستقبل الأمة.
ولا شك أن الجانب العقدي موجود بحمد الله في الأمة الإسلامية مهما تنوّعت فئاتها واختلفت أحزابها ومهما علق ببعضها من غبار وتراكم على سطحها من أتربة. ومن المعلوم أن الجانب السياسي صفة لازمة لحزب التحرير، وجزء من تعريف الحزب لنفسه بحيث لا يحتاج إلى كثير تفصيل. وهذا المقال يسلط الضوء بشكل خاص على الجوانب الشرعية والفاعلية ومقدرات حزب التحرير في حمل الدعوة.
-
شرعية الدعوة
استجابة حزب التحرير للحاجة لاجتهادات جديدة
لم يخطر ببال كثير من علماء السلف حالة غياب الخلافة، ولم ينشغلوا في استنباط أحكام شرعية لوقائع ليست موجودة عندهم؛ لذلك خلت كتب الفقه العريقة من أحكام شرعية توضح كيفية العمل السياسي في ظل غياب الإسلام وكيفية العمل لإقامة الخلافة، إلا ما أشار إليه مثلاً ابن خلدون -رحمه الله- في مقدمته حول بناء الدول مما استقرأه من مراجعة تاريخ الأمم، مع شيء من الربط الشرعي في عقلية ابن خلدون.
ولما سقطت الخلافة، تحركت النفوس الكبيرة من أبناء الأمة نحو إعادتها، ولكنها لم تجد في الرصيد الفقهي ما يرشدها نحو العمل الصحيح، وهي لم تتمكن من بذل الوسع الكافي –أو لم تمتلك كثيراً من تلك القيادات الجهد والقدرة لاستنباط ما يلزم من أحكام شرعية- فلم يتبلور علمٌ شرعيٌّ كافٍ لتوجيه الأمة نحو إعادة الخلافة، ولم يتمكن العلماء الذين تألموا لسقوط الخلافة من بلورة نهج فقهي متكامل لإعادة الخلافة.
فكان لزاماً على مؤسس حزب التحرير، الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله، كعالم أزهري حفظ القرآن منذ صباه ونشأ في بيئة علمية شرعية، أن ينتبه لهذه الحاجة لاجتهاد شرعي يكوّن علماً شرعياً يتمخض عنه استنباط أحكام شرعية لتلك الوقائع الجديدة التي لم تجرِ عليها عادة العلماء ولا تضمنتها كتبهم الفقهية المعتبرة.
اجتهادات حزب التحرير السياسية
تميَّز حزب التحرير في تكوين رصيد من العلم الشرعي حول العمل الحزبي والدعوي وحول بناء الدولة الإسلامية، وبلور التصور السياسي للخلافة الجديدة باللغة السياسية المعاصرة، مما يعتبر رصيداً كبيراً من العلم الشرعي الذي أثرى ثقافة الأمة المعاصرة إثراء شرعياً لا مثيل له.
ومن المتوقع أن تبقى تلك الثقافة السياسية الإسلامية ضمن ذلك السياق الشرعي لفترة من الزمن، بعد انبثاق الخلافة، بينما من الطبيعي أن تضمحل كل “الثقافة السياسية” التي حملت اسم الإسلام ولكنها تمخضت عن نهج توفيقي بين الإسلام والديمقراطية، بعد الهزيمة الحضارية المرتقبة للعالم الديمقراطي، وسقوط الفكرة الغربية التي يقوم عليها، مما يُحرر المضبوعين بتلك الثقافة من عقدة تقليد الغالب.
وقد أسس الحزب ذلك العلم الشرعي على طريقة شرعية واضحة المعالم مسطرة في الكتب بشكل جلي، وحمّلها لشبابه عبر أسلوب مميز في الدرس يقوم على التلقي الذهني (القابل للتطبيق). وقد ضبط اجتهاداته الشرعية بمصادر التشريع الأربعة من القرآن والسنة وإجماع الصحابة والقياس، وأبطل مصادر أخرى كانت -وتكون- منفذاً لتسريب أحكام تُلصق خطأ بالشرع، من مثل المصالح وما يستند إلى موازنات عقلية يغيب فيها النص الشرعي ويحضر فيها العقل البشري، فتكون أقرب إلى التشريع الوضعي منها إلى استنباط التشريع الرباني من مصادره.
هذا التميز بطريقة اجتهاد شرعية جعل حزب التحرير «صاحب مدرسة» اجتهادية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي على وجه الخصوص، بمعنى أنه أسس لمسار اجتهادي مميز بضبطه وانضباطه بالأدلة الشرعية، وبمعالجته لوقائع شحّت -أو غابت- فيها الاستنباطات السابقة، ولذلك لا يمكن لمن يريد التحدث أو الكتابة عن نظام الحكم في الإسلام باللغة السياسية المعاصرة أن يبتعد عن ثقافة حزب التحرير إن أراد أن يكون حديثه شرعياً، ومن هنا لم يكن مستغرباً أن تجد المنهج التدريسي لمادة «نظام الحكم في الإسلام» في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين، مستنداً بشكل ملحوظ إلى أدبيات حزب التحرير في كثير من مكوناته (رغم ما فيها من خلط في جوانب أخرى).
الطريقة الشرعية لاستعادة الخلافة
في هذا السياق من التميُّز الشرعي، نجد أن حزب التحرير تميَّز بإنزال طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء دولته الأولى في المدينة على واقع الأمة المعاصر، فتبلورت عند الحزب الطريقة الشرعية الصحيحة لإقامة الدولة الإسلامية، التي تقوم على التكتل الحزبي الدعوي، الذي يمارس العمل السياسي بين الناس لتكوين الرأي العام الواعي على الإسلام وأحكامه عندهم، ومن ثم طلب النصرة من أهل القوة. وتمخضت عنها معادلة التغيير الصحيحة التي تجمع بين الفكرة الظاهرة بين الناس كرأي عام واضح وبين القوة الناصرة التي تحسم أمر التغيير.
واللافت في الأمر أن بعض استنباطات حزب التحرير -حول قيام الدولة- تكاد تلتقي مع استقراءات ابن خلدون في مقدمته، مما يشير إلى عظم قامات العالمِين: المستقرئ الأول والمجتهد الثاني، رحمهما الله: فإن ابن خلدون لدى مراجعة نماذج بناء الدول عبر التاريخ خلص إلى أنها ظلّت مستندة إلى تأمين قوة غالبة ترعى نشأة تلك الكيانات، وتؤمّن حمايتها، حيث إن الدولة تحتاج الحماية والمدافعة من الارتداد عليها داخلياً عبر حركات التمرد، ومن العدوان عليها خارجياً بالغزو والاحتلال. وقد أرجع ابن خلدون تلك القوة العسكرية إلى «العصبية»، وذلك حسب واقع «القوة» في الشعوب القديمة، واعتبر «أن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه» (ص 110 من المقدمة- الطبعة الأولى 1993-دار الكتب العلمية بيروت). ومن المعلوم أن القوة العسكرية قد تحوَّلت في الزمن المعاصر عن «العصبية» التي تأتمر برؤوس القبائل من رجالها، إلى الجيوش النظامية التي تأتمر بقادتها وجنرالاتها، وقد تتمثل أحياناً في فصائل وكتائب تلتف وتتسلح لأجل غاية سياسية، وتحت قيادة عسكرية محددة، وإن كانت قدرتها على حسم الأمر يتعلق بميزان قوتها العسكري في مقابل قوة الدولة المتغلبة. ولقد استشرف ابن خلدون أنه لا يمكن إحداث تغيير سياسي فعلي يبدّل الدول، بلا قوة توفر «الحماية والمدافعة والمطالبة» (حسب تعبيره) لرجال الدولة الجدد ولنظامهم السياسي، واعتبر أن هذا المفهوم غائب عن العامة في قوله «وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له، لأنهم نسوا عهد تمهيد الدولة منذ أولها…» (ص 122).
ولذلك فإن النبهاني في استنباطه لطلب النصرة لإقامة الخلافة قد التقى مع ابن خلدون في حتمية وجود قوة للحماية من أجل إقامة الدولة. وإن كان العالمَ المعرفي المعاصر يعتبر ابن خلدون -رحمه الله- مؤسس «علم الاجتماع»، فإن العالمَ المعرفي القادم سيعتبر الشيخ تقي الدين النبهاني -رحمه الله- مؤسس علم السياسة الشرعية المعاصرة. وكما أثرى ابن خلدون الثقافة التاريخية-السياسية لمن جاء بعده فكانوا عالة عليه في هذا الجانب حتى يومنا هذا، فإن الشيخ النبهاني رحمه الله سيكون له الدور نفسه إن شاء الله عندما يعود الإنصاف وتختفي عقدة تقليد المغلوب للغالب عند المضبوعين بالديمقراطية وثقافة الغرب.
وإذا صعب على البعض الإقرار بهذه الحقيقة من التميز الشرعي لحزب التحرير في الوقت الحالي، وتحت ضغط ماكينة الإعلام المعادي للإسلام الصافي، فإن التاريخ بإذن الله سيمنح شهادة حقيقية لذلك العالم الأزهري رحمه الله، كما منحها لابن خلدون كمفكر، ولكنه سيضيف عليها للنبهاني أنه المجدد الذي غيّر باجتهاده وجه الأرض وتحقق عبر حزبه وعد الله بالخلافة، إن شاء الله تعالى.
وخلاصة هذا البند من المقال، أن تلك الجوانب العقدية والشرعية التي ترسّخت في ثقافة حزب التحرير وتأصلت في أعماله تكشف عن دعوة واعية وصادقة وثابتة.
-
فعالية الدعوة
إن الجمع بين المبدئية والواقعية معضلة للواقعيين (الغارقين في وحل الواقع) وللمثاليين (السابحين في بحور الخيال) على حد السواء، ولذلك فإن التمكّن من فهم وضبط معادلة الارتباط بالواقع مع الاستعلاء عن وحله هو تميّز لدى الحزب.
وحزب التحرير هو حزب واقعي من حيث إنه يعمل في الواقع وينخرط فيه ميدانياً ويتعامل مع أدواته ووسائله بشكل ملموس ومحسوس، وذلك من أجل تغييره نحو الأفضل، لا ليتعايش معه ولا ليستمد تفكيره وحكمه على الأمور من معطيات ذلك الواقع السيئ، فهذه الواقعية لا تفصله عن الالتصاق بفكرته. ولذلك ظل حزباً مبدئياً من حيث إنه يجعل الفكرة فوق الدولة والحزب، كأنها روحه التي إن غابت مات الحزب، وفي الوقت نفسه فإن تلك المبدئية لم تمنعه من الحفاظ على أن تسير أقدامه على أرض صلبة.
ومن هنا تمكّن حزب التحرير من أن يتجذّر في الأرض، ويشتد عوده ومن ثم أن يحقق عراقة على مر العقود بالتفكير والعمل السياسي والاجتهاد الشرعي، إضافة إلى العراقة في ممارسة الكفاحية العالية تجاه قوى الظلم والطغيان في الأرض.
وبينما ظل الحزب ثابتاً على نهج الرسول في العمل السياسي للتغيير، تمكَّن الحزب من تطوير وسائله وأساليبه الإدارية على مر العقود، وكوّن تراثاً إدارياً في العمل الحزبي ميّزه في الأداء والمتابعة والنظام والضبط والانضباط.
ولذلك تمكّن بعد انطلاقه من بيت المقدس أن يعبر إلى محيطه في الشام، وفي أرض الكنانة وبقية البلاد العربية، وانتشر في بلاد المسلمين غير الناطقة بالعربية، وحمله المثقفون والمهجّرون إلى البلاد الغربية، فكان نموذجاً مميزاً لحزب عابر للقارات والشعوب، وامتد جغرافياً فيما يزيد عن أربعين دولة. وأصبح اليوم حزباً عالمياً بكل ما في الكلمة من معنى، إن لم يكن الحزب العالمي بإفراد المعنى له.
-
مقدرات الدعوة
على مدار مسيرته السياسية خاض الحزب الصراع والكفاح على مختلف الأصعدة: حاور الأضداد المفكرين، كافح الأنظمة العميلة، تعرض للسجون والتعذيب لدى المؤسسات الأمنية، خاطب الحكام وحاجج بعضهم، وانخرط في العمل الجماهيري، وانتشر في الفضاء الإعلامي، وتابع الأحداث السياسية المحلية والإقليمية والعالمية، فتكونت عنده حزمة من الأفكار والمفاهيم السياسية، وتبلورت لديه نظرات سياسية خاصة، وأصبح عنده فهم سياسي مميز لعدد من القضايا السياسية العالمية وخصوصاً التي تخص المسلمين.
إضافة لذلك فقد تواصل مع الفاعلين والمؤثرين في أوساط الأمة ومع قادة الجند، وعرف الرجال والناس عن كثب، وعرفوه. وهو لا شك يمتلك قاعدة بيانات سياسية عريضة ضمن خزانته الحزبية لا تتوفر لكثير من القوى السياسية.
ولقد ساهم كل ذلك في إنضاج الخبرة السياسية الواسعة والمميزة لحزب التحرير، وأصبحت لديه قدرة على فهم مسرح الأحداث السياسية، وأن يحللها ليتخذ منها الموقف الجدير بها، وليحث الأمة على التعامل معها من منظور الإسلام. واتخذ الحزب قرارات مصيرية في محطاته المختلفة، ساهمت في بلورة خبرته السياسية.
وتمكّن حزب التحرير عبر البناء الحزبي المميز ومن خلال الخبرة التراكمية، من تكوين رجال دعوة ورجال دولة قادرين على حمل الحزب (وليس أن يحملهم الحزب كما يحصل في بعض الأحزاب)، وقادرين من بعد النصر، بعون الله وحده، على تحمّل أعباء الدولة، وجاهزين نفسياً وفكرياً لاتخاذ القرارات المصيرية للدولة. ولا شك أن تلك الكوادر البشرية التي تمرّست في العمل السياسي هي من أهم مقدرات مشروع الخلافة بعد الفكرة الإسلامية الصافية.
-
استشراف مستقبل الدعوة
يتحرك الحزب مع الأمة ليصنع مستقبلاً تحررياً يستلهمه من وعد الله بتبديل الخوف من تكالب القوى المستعمرة إلى أمن مع تكاتف قوى الأمة، والتحول عن حالة الضعف إلى نشوة التمكين، واستعادة الإسلام وإعادة بريقه من حالة الانحسار إلى ظاهرة الانتشار. ومع استشراف الخير في ثورة الشام عقر دار الإسلام، يتكون إحساس بقرب فجر الخلافة في الشام كنقطة ارتكاز محتملة لانبثاق الخلافة، وهذا يعني أن الحزب كرائد للأمة يستعد لتغيير المعادلات السياسية وقلب مسار التاريخ المخزي الذي صنعته الأنظمة العميلة بعدما رهنت إرادتها بالأجنبي، ومزقت بلاد المسلمين حسب منطق المستعمر.
وهو في طريقه التصاعدي هذا راح يعمل على إزالة العوائق والعراقيل والحدود بالوعي الفكري، ويحطمها بالعمل السياسي والقوة المادية للدولة القادمة. وعندما تتجسد دولة الخلافة عملياً في قطر من أقطار المسلمين يمتلك ما يكفي من القوة الذاتية ويتبلور فيه حضور بارز للرأي العام الواعي على تطبيق الشريعة، فإنها ستبدأ في بقعة جغرافية محددة لها سلطان فعلي على ما هو «داخلها»، ولها سلطان شرعي على ما هو «خارج» حدودها من بلاد المسلمين الأخرى.
ستعلن دولة الخلافة -بإذن الله- في بلد محدد (كالشام أو غيرها) تتوفر فيه مقومات احتضان الخلافة، وتجتمع فيه عناصر القوة الناصرة مع الفكرة الظاهرة، وتصد فيه القوةُ العسكرية خطرَ العدوان المسلح، فيما تحمي فيه قوةُ الرأي العام مع الخلافة عند الناس (كحصيلة العمل السياسي للحزب في الأمة) من خطر الهجوم السياسي والفكري والإعلامي، ومن خطر الذوبان والانتكاسة عن مشروع الخلافة.
ليس ثمة من شك أن أمر الخلافة لله «ِيَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»، وليس من المتصور أن يكون انبثاق الخلافة بعيداً عن حزب التحرير، فقد التصقت الخلافة بالحزب والتصق بها، بحيث لا يتصور أن تكون دون انخراطه بها، ] لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ.[ وهي إن تركزت في الشام مثلاً، ومن ثَم ستتمدد نحو بقية بلدان المسلمين -كبقعة زيت تنتشر في القماش- استناداً إلى وحدة العقيدة ووجوب الوحدة السياسية، وتقوم الخلافة بذلك حسب خطط سياسية وعسكرية وإعلامية تباشر تنفيذها وتستنفر فيها كل طاقات الأمة وقواها الحية والممكنة.
مع انبثاق الخلافة، ستعلن مع بيانها الأول أنها لا تعترف بأي كيان سياسي تنفيذي فوق أرض المسلمين غير كيانها، ولو طبق الشريعة بكيان مستقل بعد إعلان الخلافة، لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم صحيح صريح: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا». ويكون لدولة الخلافة سلطان فعلي على «الداخل» في ذلك البلد، ويكون لها سلطان شرعي على ما هو «خارج» حدودها من بلاد المسلمين الأخرى التي تكون ساحة صراع بين من يتحرك فيها من الأعداء والعملاء وبين قوى الأمة الحية المؤيدة للخلافة.
ولذلك ستعلن الخلافة -سياسياً وإعلامياً – أن تلك البلاد الأخرى مغتصبة من سلطانها، أو أنها تحت احتلال، أو أنها تمثل حالات انفصالية غير مشروعة، وأن كل شؤون تلك البلاد هي من الشأن الداخلي للخلافة. ومن ثم ستعمل دولة الخلافة على ضم تلك البلدان على أساس الأعمال العسكرية والسياسية والإعلامية مما لا يتسع المقام لتفصيلها.
لذلك فإن قوة الخلافة العقدية وقوة رجالها السياسية وحنكة خططها ستمكّنها بعون الله -ووعده بالنصر- من التصدي لكل التحركات المعادية، وتقطع الطريق على قوى الغرب الاستعماري التي تحاول عرقلة المشروع وتطور الخلافة.
خاتـمـة
إن مشروع الخلافة هذا الذي هو مشروع خير للبشرية، يمثل رعباً حقيقياً للأنظمة العالمية التي قامت على نهب خيرات الشعوب، لذلك فإن خطر انبثاق الخلافة ماثل أمام أعين الساسة والزعماء في العالم، وقد تواترت -خلال العقد الأخير – عدد من التصريحات عن عدد من كبار الساسة وزعماء العالم (من أمثال بوش وبوتين ورامسفيلد وبلير وغيرهم) يبيّنون فيها تخوفهم وتحذيرهم من الخلافة، منها في الفترة الأخيرة ما كرر الحديث حوله كل من وزير الخارجية الروسي ووزير خارجية سوريا، من أن الثائرين في الشام يتجهون لإقامة خلافة.
إن اجتماع هذا المؤشر الواقعي مع الحقيقة التي قررها المقال في افتتاحيته، والوعد الرباني، ووجود حزب عالمي واع وفعال، لتدلل على مستقبل واضح لكل ذي بصر وبصيرة.
وإن حزب التحرير بحمله لدعوة فكرية سياسية قائمة على عقيدة صحيحة قد انخرط في دعوة واعية تصلح لقيادة البشرية إلى الخلاص من شرور الرأسمالية، ولا شك أن انخراط الحزب بنجاح في العمل السياسي على أرض الواقع قد راكم خبرته السياسية ما جعله فعالاً في عمله، ومن ثم فإنه كحزب يستلهم التاريخ المشرق للأمة ويرنو للمستقبل قد تمكن من الامتداد جغرافياً عبر دول العالم وأصبح مؤهلاً لقيادة مسيرة تغيير تاريخية في الكون. وهي مسيرة ندعو الله سبحانه أن يتوِّجها بإقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة التي لا تبقي فيها الأرض خيراً إلا أخرجته، ولا يَبقى معها بيت وبر ولا مدر إلا ودخله سلطان الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل، لتشرق الأرض بنور الإسلام ويعم فيها السلام.
2014-07-29