مراكز الفكر والمؤسسات البحثية الأميركية ودورها في الهيمنة على العالم والحرب على الإسلام والمسلمين (1)
2020/04/29م
المقالات
3,462 زيارة
عبد الله أبو ابراهيم – قلقيلية
مع ازدياد أعداد مراكز الأبحاث بشكل كبير، كثر الحديث عن دور هذه المؤسسات البحثية في صناعة القرار السياسي للحكومات، وصياغة الرأي العام المحلي والدولي، وخصوصًا في أميركا. ولأهمية دور هذه المؤسسات البحثية الأميركية وخطورة ما تلعبه من دور مؤثر في تضليل الرأي العام، وتنفيذ أجندات المموِّلين، ورسم السياسات والاستراتيجيات من أجل الهيمنة على عالمنا الإسلامي في شتى المجالات، وخصوصًا في الحرب على الإسلام باسم مكافحة الإرهاب، ومن ذلك محاربة الإسلام السياسي والأحزاب العاملة في هذا المجال، إضافة إلى حملات التغريب ومسح وإضاعة الهوية الإسلامية… كان من المهم تسليط الضوء على هذه المراكز والمؤسسات البحثية بشيء من التفصيل.
لقد أصبح لمراكز الأبحاث (خلايا الفكر) ((think tanks دورًا هامًا وتأثيرًا كبيرًا في صنع السياسات، وصناعة الرأي العام الأميركي من خلال ما تقدمه من أبحاث ودراسات ورؤى مستقبلية لصنَّاع القرار الأميركي حتى أصبح عددها ما يزيد عن 1800 مركز بحث داخل الولايات المتحدة الأميركية (حسب إحصائية 2014م-2015م). ومن أبرز هذه المراكز: معهد بروكينغز، ومؤسسة كارنيغي ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومؤسسة راند، ومجلس العلاقات الخارجية… وتعتمد هذه المراكز على التمويل الحكومي أو من النافذين الاقتصاديين؛ لذلك تجد لها تأثيرًا على صنَّاع القرار والسياسات العامة.
نشأة مراكز الأبحاث وتطورها.
(يختلف الباحثون في تحديد البداية التاريخية لتأسيس مراكز الأبحاث، فهناك من يحدِّد نشأتها الأولى في عام 1831م مع تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدفاعية في بريطانيا، وهناك من يربط نشأتها بعام 1884م مع تأسيس الجمعية الفابية البريطانية التي تعنى بدراسة التغيرات الاجتماعية. وإن مراكز الأبحاث في بداية نشأتها في أوروبا في القرن الثامن عشر كانت تسمى كراسي علمية، وفي بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية تمت تسميتها بصناديق الأدمغة (Brain Boxes)
وبصرف النظر عن البداية التاريخية لنشوء هذه المراكز، فإنه مع مطلع القرن العشرين الماضي تصاعدت حركة تأسيسها، ففي الولايات المتحدة تم تأسيس معهد كارنيجي للسلام الدولي عام 1910م، ثم معهد بروكينغز عام 1916م، ومعهد هوفر عام 1918م، والمكتب الوطني لأبحاث الاقتصاد عام 1920م، ومعهد غالوب عام 1920م، ومؤسسة راند عام 1945م، بإشراف القوات الجوية الأميركية. أما في بريطانيا فتم تأسيس المعهد الملكي للشؤون الدولية عام 1920م، وفي فرنسا تم تأسيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، وفي ألمانيا تم تأسيس الأكاديمية الألمانية للسلام عام 1931م… واستمرت حركة تأسيس هذه المراكز بالتصاعد حتى وصلت ذروتها في عام 1996م بمعدل 150 مركزًا تم تأسيسها سنويًا (تستحوذ مراكز التفكير في أميركا الشمالية وأوروبا على ما يقارب نصف عدد مراكز التفكير في العالم. فهناك 1989 مركزًا في أميركا الشمالية، و1822 مركزًا في أوروبا. غير أن عدد مراكز التفكير في الولايات المتحدة وحدها هو 1830 مركزًا. ومن الملاحظ أن نحو رُبْع المراكز (حوإلى 400 مركز) في الولايات المتحدة تتخذ من واشنطن العاصمة مقرًا لها) وذلك حسب التصنيف الذي أعلنه معهد لودر التابع لجامعة بنسلفانيا لعام (2014-2015)م، ومن الجدير بالذكر أن بعض هذه المراكز ذات التأثير فتحت فروعًا لها في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط، كمؤسسة راند التي تمتلك تسعة فروع في العالم، أحدها في الدوحة في قطر. وبروكينغز الذي افتتح في عام 2008م فرعًا له في العاصمة القطرية الدوحة، ليقدم دراسات عن الشرق الأوسط وعلاقته بأميركا، وعن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. ومؤسسة كارنيغي التي تمتلك أربعة فروع بجانب فرعها الرئيسي في واشنطن، وذلك في موسكو وبيروت وبكين وبروكسل؛ لتشكل قاعدة ضخمة من المعلومات والتقارير والأفكار التي تؤثر على السياسة الخارجية الأميركية بشكل كبير.
فالولايات المتحدة تتصدر قائمة أفضل مراكز التفكير في العالم لسنة (2014-2015)م؛ حيث يحتل معهد بروكينغز (Brookings Institute) المرتبة الأولى عالميًا، وتحتل المراكز الأميركية ستًا من المراتب العشر الأولى، وإحدى عشرة من المراكز الخمسين الأولى. ويقف إلى جانب بروكينغز من الولايات المتحدة مركز كارنيجي ثالثًا، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) رابعًا، وراند سابعًا، ومجلس العلاقات الخارجية (CFR) ثامنًا، ومركز وودرو ويلسون عاشرًا. وتلي أميركا في الترتيب من حيث الأفضلية في التصنيف بريطانيا، ومن حيث العدد الصين، مع ملاحظة إمكانية تغير التصنيف كل عام، وأيضًا ملاحظة أن قياس مدى التأثير الحقيقي لهذه المراكز يكون في مدى التأثير في صنع القرار والسياسات العامة وصياغة الرأي العام المحلي والعالمي، وهذه المسألة قد تكون غير واضحة للعيان؛ لذلك قد لا يعبر هذا التصنيف بالضرورة عن الحال الحقيقي للمراكز من حيث التصنيف. فهذه الزيادة الواضحة واللافتة كمًّا ونوعًا لمراكز الأبحاث، ولدخولها إلى عالمنا الإسلامي وتدخلها السافر في قضايانا، فإن ذلك كله يستدعي الدراسة والنظر والتعمُّق لمعرفة طبيعة عملها ودورها المهم على شتى الصعد.
تعريف مراكز الأبحاث.
قد يطلق على المؤسسات البحثية اسم مراكز أو معاهد أو جمعيات أو مجالس أو وحدات أو هيئات… فهذا الإطلاق غير مهم؛ ولكن المهم هو في الدور الذي تلعبه على مستوى إنتاج الأفكار، وتقديم الرؤى المستقبلية، ورسم السياسات والاستراتيجيات العامة، والتأثير في صنع القرار السياسي، والتأثير على الرأي العام… فإن كانت تلعب هذا الدور؛ فلا مشكلة في إطلاق أي من هذه الأسماء عليها.
وعليه فمراكز الأبحاث أو مؤسسات الفكر أو أي أسم يطلق عليها مما سبق، هي مراكز معدَّة للقيام بدور يتعدَّى الناحية المعرفية والبحث العلمي المجرَّد؛ فهي جاءت حسب طرح العديد من الباحثين لتسدَّ فراغًا بين الناحية العلمية النظرية والناحية العملية؛ لتدمج بين العالم الأكاديمي وعالم الحكم، وتحقق مصلحة من يقف وراءها؛ ومن هنا اكتسبت أهميتها، فهي كما قال صاحب كتاب (مراكز الأبحاث في أميركا) توماس ميدفيتز إنها تؤدي دورًا «بهلوانيًا» وتستخدم ارتباطها بالمجالات الأربعة (الأكاديمية والسياسية والاقتصادية والإعلامية) لتبرز تميُّزها عن غيرها من المؤسسات. كما بيَّن مدفيتز أن التهجين هو السمة الغالبة في مراكز الأبحاث، فالمكتب القومي للبحوث الاقتصادية (nber) ليس مجرد مركز أبحاث أكاديمي، بل هو أيضًا مركز أبحاث حكومي، وهذا التهجين هو سمة غالبة على المراكز الأخرى، فعلى سبيل المثال، يقول بيان رسالة مؤسسة بروكنجر: «تعمل بروكنجر كجسر بين البحث وصنَّاع السياسة، فتلفت انتباه صنَّاع القرار إلى المعرفة الجديدة، وتتيح للباحثين رؤية أعمق لقضايا السياسة العامة». ومن هنا عرَّف باحثون مراكز الأبحاث بعدة تعريفات أذكر منها:
تعرفها موسوعة ويكيبيديا بأنها: «أيّة منظمة أو مؤسّسة تدّعي بأنها مركز للأبحاث والدراسات أو كمركز للتحليلات حول المسائل العامة والمهمة». ويعرفها بعض الكتاب بأنها: «أي منظمة تقوم بأنشطة بحثية سياسية، تحت مظلة تثقيف وتنوير المجتمع المدني بشكل عام، وتقديم النصيحة لصانع القرار بشكل خاص». كما تعرَّف هذه المراكز بأنها: «تجمُّع وتنظيم لنخبة متميِّزة ومتخصِّصة من الباحثين تعكف على دراسة معمَّقة ومستفيضة لتقدِّم استشارات أو سيناريوهات مستقبلية يمكن أن تساعد أصحاب القرارات في تعديل أو رسم سياستهم بناء على هذه المقترحات في مجالات مختلفة»؛ وعليه فإن الصلة التي تربط بين مراكز الأبحاث والدراسات والمسؤولين وصنَّاع القرار جعلت البعض يصفها بأنها نوادي نصف سياسية ونصف مراكز بحثية وأكاديمية؛ وعليه نخلص إلى القول من قراءة التعاريف سالفة الذكر بأن واقع مراكز الأبحاث يبيِّن أنها تجمع نخبة متخصصة من الباحثين تعكف على إنتاج الأبحاث والدراسات، وتقديم رؤى مستقبلية في مجالات متعددة؛ لصياغة الرأي العام ورسم السياسات العامة والاستراتيجيات المستقبلية لصالح صنَّاع القرار. وفي الغالب تقدِّمها حسب طلب الداعمين، سواء دولة أو حزب أو شركة أو أفراد.
دور وأهمية مراكز الأبحاث
يتحدث (جيمس ماك جين) أحد خبراء معهد بحوث السياسات في الولايات المتحدة عن أهمية المراكز البحثية بأنها: «ليست فقط للتزويد بالمعلومات، وإنما يستعان بها لوضع وتقرير أجندة السياسات، أي إنها تقوم من خلال دراستها وأبحاثها في صنع القرار السياسي الأميركي»، فقد ساهمت بدور كبير «في خلق كثير من المفاهيم والمصطلحات السياسية، مثل العولمة، ومصطلح محور الشر، والدولة الفاشلة، ومكافحة الإرهاب، والأنظمة الدكتاتورية، والشفافية، والتي غالبًا ما يتبناها الرؤساء الأميركيون لتصبح جزءًا مكملًا لسياساتهم».
وحسب ريتشارد هاس الدبلوماسي الأميركي رئيس مجلس العلاقات الخارجية السابق، فإن هذه المؤسسات تؤثر على صانعي السياسة الخارجية بخمس طرق: توليد الأفكار والخيارات المبتكرة في السياسة، وتأمين مجموعة جاهزة من المختصين للعمل في الحكومة، وتوفير مكان للنقاش على مستوى رفيع، وتثقيف مواطني الولايات المتحدة عن العالم، إضافة إلى اعتبارها وسيلة مكمِّلة للجهود الرسمية الدولية للتوسط وحل النزاعات، فعلى سبيل المثال، نجد أن خطة مارشال لدعم أوروبا وإعادة بنائها بعد الحرب العالمية الأولى جاءت من معهد بروكينغز.
وأيضًا كيف وفَّرت مراكز الأبحاث المختصين والسياسيين من خلال سياسة الباب الدوار بين المراكز البحثية والمناصب العليا في الدولة، أو كوسطاء أو مبعوثين إلى الخارج، ففي كثير من الأحيان يتم اختيار وتكليف بعض خبراء المراكز للعمل في المناصب العليا، أو كوسطاء أو مبعوثين إلى الخارج، والعكس أيضًا صحيح؛ إذ إن كثيرًا من المسؤولين عندما يتركون مناصبهم يذهبون للعمل في هذه المراكز كخبراء أو باحثين أو مستشارين في الإدارة العليا أو مجالس الأمناء، فعلى سبيل المثال، إن كل رئيس جمهورية في الولايات المتحدة، يقوم بتعيين حوالى 4000 مسؤول حكومي، منهم 2200 كمستشارين وأعضاء في اللجان المختلفة. وعادة ما يتم اختيار هؤلاء حصرًا من مراكز الأبحاث، منهم مثلًا: هنري كيسنجر، مارتن إندك، وارن كريستوفر، ألكسندر هيغ، ريتشارد بيرل، بول وولفيتز، مادلين أولبرايت، كولن باول، صامويل هنتنغتون، دونالد رامسفيلد، ديك تشيني، ريتشارد أرميتاج، زلماي خليل زاد، جون بولتون، فرنسيس فوكاياما، كوندوليزا رايس، جيمي كارتر… بل إن 60 % من مساعدي وزراء الخارجية في الولايات المتحدة جاؤوا من مراكز الأبحاث.
لذلك فإن تنوع السياسات والاستراتيجيات، واستحداث الخطط والأساليب، وصناعة الرأي العام من أجل إنجاح الأهداف والسياسات الجديدة للولايات المتحدة، الذي يقف وراءه هو النشاط المتزايد لمراكز الأبحاث، فها هي «الأيكونوميست» تكتب في افتتاحيتها تحت عنوان (همجية دبابات الفكر): «إن أحدًا لم يعد بمقدوره أن يناقش أن هذه المراكز أصبحت بذاتها حكومة الظل في أميركا، بل وتأكد بأنها الحكومة الخفية الحقيقية التي تصوغ القرار السياسي وتكتبه، ثم تترك مهمة التوقيع عليه للرئيس ولمعاونيه الكبار في الإدارة. ويقول الأستاذ الجامعي والذي ألَّف كتابين عن مؤسسات الفكر دونالد إبلسون إنه في حين أصبحت مؤسسات الفكر والرأي في السنوات الماضية «ظاهرة عالمية» فإن مؤسسات الفكر الأميركية تتميز عن نظيراتها في البلدان الأخرى بقدرتها على المشاركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في صنع السياسة، وفي استعداد صانعي السياسة إلى العودة اليها للمشورة السياسية.
عدم حيادية مراكز الأبحاث في أبحاثها ونتاجها المعرفي
إن من الشعارات التي تطلقها مراكز الأبحاث أمرين: الأول: الحيادية، فهي تدَّعي أن أبحاثها ودراساتها تأخذ الطابع العلمي والمعرفي. والثاني: أنها تعمل لصالح الولايات المتحدة، فهي تقدم نفسها أمام الرأي العام الداخلي والخارجي أنها وطنية بامتياز. فهذا معهد بروكنجز يعلن أن «باحثيه يقدِّمون أعلى مستوى جودة للأبحاث والتوصيات السياسية والتحليل» وأن «استقلالية معهد بروكنجر ونزاهته المهنية وموضوعيته هي أهم أصوله» ولكن هذه الشعارات محل نظر إذا أخذ بالاعتبار التأثير المتزايد لهذه المراكز في صنع السياسات في الداخل والخارج والتأثير على الرأي العام استجابةً للداعمين والوقوف عند طلباتهم، ومع ملاحظة غياب الاستقلال العلمي.
إن الذي يجعل مراكز الأبحاث لا تمتاز بالحيادية أو الاستقلالية فيما تقدمه هو ارتباط هذه المراكز بالفاعلين السياسيين وبالداعمين والرعاة الاقتصاديين والجهات الإعلامية التي تساهم في النشر. فمراكز الأبحاث تدَّعي أنها تحصل على المال من خلال المشاركة في الأنشطة الخاصة التي تدر عائدات، مثل إقامة المؤتمرات، أو رسوم العضوية، أو بيع ما يصدره من كتب ودوريات خاصة؛ لكن هذه العوائد من الدخل الذي تجمعه معظم مراكز الأبحاث لا يغطي نفقاتها؛ لذلك فهي تعتمد بشكل رئيسي على التبرعات من المؤسسات والشركات والأفراد. فقد اشارت إحدى الدراسات حول أعلى أو أفضل عشرين مركز تفكير أميركي إلى أن معدل الميزانية السنوية للمركز الواحد هو 29 مليون دولار حسب إحصائيات 2011م؛ وأن مركز راند لديه ميزانية سنوية بـ263 مليون دولار وأكثر من ألفي موظف، يليه مركز بروكينغز بميزانية سنوية بنحو تسعين مليون دولار ونحو 530 موظفًا. وتشير الدراسة إلى أن متوسط معدل قيمة الممتلكات (الاستثمار المالي والممتلكات الموقوفة) هو 67 مليون دولار لكل مركز. مع ملاحظة أن قيمة ممتلكات مركز بروكينغز هي 299 مليون دولار، وكارنيجي 253 مليون دولار. ولاحظت الدراسة أن نسبة عالية من موظفي وباحثي هذه المراكز تزيد رواتبها على مائة ألف دولار سنويًا. وحسب النيويورك تايمز فقد «تضاعفت الميزانية السنوية لمعهد بروكنغز لتبلغ مئة مليون دولار خلال العقد الأخير، كما أن معهد أميركان إنتربرايز يقوم بتشييد مقر له بواشنطن تبلغ تكلفته ثمانين مليونًا على الأقل، وهو قريب من مبنى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الذي كلف هو الآخر مئة مليون»؛ لذلك تعتمد هذه المراكز على تلقي التبرعات والتمويل من الجهات الداعمة لاستمرار عملها.
وعليه فحسب توماس ديفيرتنز مؤلف كتاب: (مركز الأبحاث في أميركا)، فإن مراكز الأبحاث تعلن استقلاليتها المعرفية في سياقات معينة؛ ولكنها تبرز تبعيتها أو اعتمادها على العملاء في مواردها وأشكال شرعيتها في سياقات أخرى. وتعتمد مراكز الأبحاث تحديدًا بشكل متَّسق على ثلاثة أنواع من العملاء:
أولًا: العملاء السياسيون (لا سيما صناع السياسات والأحزاب وشبكات النشطاء)؛ وذلك طلبًا للصلات السياسية التي يمكن أن يتيحوها.
ثانيًا: العملاء الاقتصاديون (لا سيما المؤسسات والشركات والمانحين الأثرياء)؛ وذلك طلبًا للدعم المادي.
ثالثًا: العملاء الإعلاميون (لاسيما الصحفيون والمنافذ الإعلامية كالصحف والدوريات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية)؛ وذلك طلبًا للانتشار.
وأيضًا، أوضح مارك فرحا (أستاذ العلوم السياسية والتاريخ بجامعة جورج تاون بقطر) التقاطع بين مجالات السياسة والمال والاستخبارات، وتأثيره على أداء مراكز الأبحاث بالولايات المتحدة؛ ولذلك يرى توماس ديفيرتنز أن مراكز الأبحاث أعادت تنظيم الفضاء المؤسسي لإنتاج المعرفة واستهلاكها في الولايات المتحدة بطريقة منعت المتخصصين المستقلين في العلوم الاجتماعية من تشكيل أنفسهم كمشاركين فاعلين في الجدل السياسي. وبحلول التسعينات، كان يمكن لأي سياسي شارك في معركة تعديل نظام الرعاية الاجتماعية أن يختار بحرية من مخزون لا ينفد من الحجج والإحصاءات ونقاط الحِجاج لدعم موقفه السياسي، ويعود السبب الرئيس في ذلك لمراكز الأبحاث، والتي وفَّرت «سوقًا» لمشتري الخبرة والمعرفة». ثم يختم بخلاصة رئيسية تؤكد أن نمو مراكز الأبحاث خلال الأربعين سنة الماضية أدى دورًا محوريًا في تقويض أهمية المعرفة العلمية المنتجة باستقلالية، وأثرت بصورة بالغة في قيمة المعرفة ذاتية التوجيه في الحياة العامة…» فهي تحدُّ من مدى الخيارات المتاحة للمفكرين الأكثر استقلالية أو الأقل استعدادًا لتفصيل عملهم حسب طلبات السياسيين والرعاة الأثرياء».
وعن ذلك كتب أيضًا ستيف ووترز في الغارديان: «مراكز الفكر هذه لا تنتج أفكارًا جديدة، إنها تبرر». إنه أحد المخاطر التي تواجهها مراكز الفكر اليوم؛ حيث أصبحت المراكز تدافع عن رؤية معينة للعالم. فالمليارديرات الملتزمون أمثال جورج سورس يستثمرون مبالغ كبيرة في مراكز الفكر والحملات السياسية.
ويرى بيار دوفراني أن مراكز الفكر الأميركية والإنجليزية، أن بحوثهم جميعًا مساندين متحمسين لاقتصاد السوق وللرأسمالية؛ ذلك أن التدعيم في كامله يأتي من رجال المال والشركات؛ ما يدفع بهذه المراكز إلى خدمة أهداف هذه الشركات وليس المعرفة والموضوعية العلمية.
وفي كتابه (اعترافات قرصان) يؤكد الخبير الاقتصادي جون بيركنز دوره – مع الكثير من زملائه – في استخدام المنظمات المالية الدولية لخلق ظروف تؤدي إلى خضوع الدول النامية لهيمنة النخبة الحاكمة التي تدير الحكومة والشركات والبنوك؛ وذلك بإعداده للدراسات التي بناء عليها توافق المنظمات على تقديم القروض للدول النامية المستهدفة بتطوير البنى التحتية، بشرط قيام مكاتب الهندسة وشركات المقاولات الأميركية بتنفيذ هذه المشاريع. ويكشف الباحث أن دراساتهم والأرقام التي تحتويها ذات طابع مخادع؛ فإذا كان من الناحية الإحصائية البحتة تعتبر تقدمًا اقتصاديًا (نمو الناتج المحلي القومي) إلا أنه قد يكون نتيجة استفادة أقلية من المواطنين «النخبة» على حساب الأغلبية بحيث يزيد الغني ثراءً والفقير فقرًا. ويضيف أنه والخبراء الاقتصاديون قاموا بتطويع اللغة لتغليف استراتيجيتهم في النهب الاقتصادي؛ وذلك باستخدام مفاهيم «الحكم الرشيد، تحرير التجارة، حقوق المستهلك» وبحيث لا تصبح السياسات الاقتصادية جيدة إلا من منظور الشركات الكبرى.
مراكز الأبحاث تستجيب لأجندات الداعمين وتكرس الهيمنة الأميركية على العالم
تكشف نيويورك تايمز أكذوبة حيادية مراكز الأبحاث الأميركية في تقرير مطوَّل نشرته في 8/8/2016م (حسب ما أوردته الجزيرة نت) تقول فيه: إن مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة التي تحظى دراساتها باهتمام دولي كبير -على أساس أنها دراسات علمية مرموقة- ليست محايدة أو مستقلة كما يتبادر للأذهان، وإن المانحين والمتبرعين يفرضون أجندتهم على نتائج أبحاث هذه المراكز.
وأوردت الصحيفة بتقريرها – القائم على جهد استقصائي كثيف – العديد من الأمثلة على ما ذهبت إليه، ومن ذلك العلاقة بين معهد بروكينغز للأبحاث بواشنطن، وهو أحد أكثر المعاهد البحثية المرموقة في العالم، ولينار كوربوريشن إحدى أكبر الشركات الأميركية العاملة في مجال تشييد المنازل. وذكر التقرير أن شركة لينار كانت ترغب في تصديق السلطات المختصة على تنفيذها لمشروع عقاري في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا تبلغ تكلفته ثمانية مليارات دولار، واستخدمت معهد بروكينغز كصوت له ثقل في الدفاع عن فكرة المشروع والترويج لها، وتبرَّعت لينار للمعهد بمبلغ أربعمئة ألف دولار معفاة من الضرائب، ولم ينفذ المعهد فقط حملة «بحثية» لصالح المشروع، بل ذهب أبعد من ذلك بتعيينه المدير التنفيذي المسؤول عن مشروع سان فرانسيسكو كوفي بونر في وظيفة كبير باحثين بالمعهد.
وقال التقرير الذي أعدته الصحيفة بالاشتراك مع مركز نيو إنغلاند للصحافة الاستقصائية إن مراكز الأبحاث والتي تسمي نفسها «الجامعات بدون طلاب» لديها نفوذ في نقاشات السياسات الحكومية؛ لأنها تعتبر أن لا مصالح مالية لديها بهذه السياسات؛ لكن هذه الفكرة بعيدة عن الصواب؛ لأن هذه المراكز، وفي مطاردتها للتمويل، تستعين بقدرتها على الترويج لأجندة الشركات والمانحين، وبالتالي تزيل الخط الفاصل بين مراكز الأبحاث «غير المنحازة» ومجموعات الضغط.
وأشار إلى أن معدِّيه راجعوا آلاف المذكرات الداخلية والمراسلات السرية بين معهد بروكينغز ومانحين آخرين غير شركة لينار مثل «جي.بي مورغان تشيس» أكبر مصرف بالولايات المتحدة، وشركة «كي.كي.آر» العالمية للاستثمار، ومايكروسوفت وهيتاشي اليابانية. وقالت نيويورك تايمز إن الدعم المالي من هذه الجهات لبروكينغز يأتي في كثير من الأحيان بعد تأكيدات من المعهد بأنه سيقدم «فوائد التبرع» بما في ذلك التجهيز للمناسبات التي تبرز المسؤولين عن الجهة المتبرعة مع مسؤولين حكوميين.
وأضاف التقرير أن ترتيبات مماثلة تقوم بها كثير من مراكز الأبحاث في قضايا تتباين ما بين المبيعات العسكرية إلى دول أجنبية والتجارة الدولية ونظم إدارة الطرق السريعة والتطوير العقاري، حيث تتحول مراكز الأبحاث إلى وسائل لتجسيد نفوذ الجهات المانحة. ونقل عن السيناتورة الديمقراطية بولاية ماساشوسيتس إليزابيث وارين – والتي تنتقد في العادة التبرعات السرية من الشركات لمراكز الأبحاث – قولها إن هذا يحدث في الشركات العملاقة التي تعتبر أن إنفاقها بضعة عشرات من ملايين الدولارات للتأثير على صناعة القرار بواشنطن أمر يستحق؛ لأنه يعود عليها بالمليارات. وقال التقرير إن شروط المانحين بأن يحقق البحث الذي يتبرعون لتنفيذه أهدافًا محددة يهدد حيادية هذه المراكز في نقاشات السياسات في الكونغرس والبيت الأبيض ووسائل الإعلام.
ونسب إلى مسؤولي هذه المراكز نفيهم الشديد لتصويرهم على أنهم أدوات للشركات، وتأكيدهم على أن الأمر ينجم ببساطة من «توافق الأهداف بين الشركات ومراكز البحث مثل مساعدة المدن بالتنمية الاقتصادية». وأضاف التقرير أنه وبمراجعة وثائق من أكثر من عشرة معاهد ومراكز بحثية، فإن الفوائد التي تحصل عليها الشركات التي تحاول التخفي وراء سلطة مراكز الأبحاث لا يمكن إخفاؤها، موضحًا أن النتائج التي تصل إليها تقارير وأبحاث هذه المراكز يتم نقاشها مع المتبرعين قبل إكمال البحث. وقال إن مسودات الدراسات بهذه المراكز يتم إرسالها إلى المتبرعين ليوافقوا على الشكل النهائي لأي تقرير يصدر عن الدراسة أو البحث.
تبرعات مشروطة: ونسب إلى كبيرة الباحثين بمركز ستيمسون بواشنطن قولها إن مانحين محتملين ضغطوا عليها عندما حاولت جمع تبرعات لبحث حول الاستخدامات العسكرية للطائرات المسيَّرة المسلحة، مشيرة إلى أن أحدهم سألها: هل تودين القول إن الطائرات المسيرة سيئة؟ نحن لا نقوم بتمويل من أو ما يقول إن الطائرات المسيَّرة سيئة. التقرير عرض عشرات الأمثلة لتبرعات مرفقة بطلبات لأبحاث محددة من جهات محددة شهيرة ومرموقة، ونتائج توصلت إليها أبحاث بعينها تتوافق مع طلبات الجهات المانحة في شتى المجالات بما فيها الصحية. ومن الأمثلة التي تستحق الذكر شركة «جنرال أتوميكس» التي تصنع طائرات بريديتر المسيَّرة، ووجهت بانخفاض مبيعاتها بعد انخفاض وتيرة الحروب في كل من العراق وأفغانستان، ورغبتها في تغيير إدارة أوباما سياستها حتى تسمح بالبيع لدول أخرى، وقد طلبت من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن مساعدتها مقابل إصدارها دراسة تقنع بها إدارة أوباما. وأعد المركز بالفعل دراسة بعنوان «العوائق السياسية للتصدير» بعيدًا عن لغة مجموعات الضغط؛ لكنها تؤدي إلى نفس النتيجة. هذا مثال واحد من أمثلة عديدة تضمنَّها التقرير ليؤكد أن مراكز البحث التي تصف نفسها بـ «العلمية» و»المستقلة» و»غير المنحازة» بعيدة عن هذه الصفات التي يبدو أنها مجرد أكذوبة تم الترويج لها وانطلت على الجميع. (المصدر نيويورك تايمز)
التضليل حول أخطار الاحتباس الحراري
تظهر النشرة الأميركية النصف شهرية للتفكير (ماذر جونز) في عام 2005م، أن أكسون موبايل قد دفعت مبلغ ثمانية ملايين دولار بين عامي 2000م و2003م إلى أربعين مركزًا بحثيًا كي تظهر أن ارتفاع حرارة الكوكب هو ببساطة عملية خداع واسعة. وها هي مؤسسة المنشأة الأميركية تنشر مقالات عن المناخ في 2004م تحت عنوان (لا تخافوا، كونوا سعداء) ومجلس البدل التشريعي الغامض الذي يشرح «أن التغير المناخي يمكنه في الواقع إنقاذ حيوات». ومن جهتها مؤسسة كاتو ومركز تطوير صوت العالم ومؤسسة المنشأة الحرة تستغل رحابة أكبر شركة نفط في العالم، وتصوِّب قذائفها الملتهبة على كل الدراسات التي تحاول البرهنة على ارتفاع حرارة الأرض «الاحتباس الحراري». وعلى أثر ما تقدمه مراكز الأبحاث من دراسات تطمئننا فيه حول انعدام ما يثبت مخاطر الاحتباس الحراري، سعى بوش الابن ومساعدوه في محاولات حثيثة لتقويض المساعي الدولية الآيلة إلى تقليص الأخطار التي تكتنف البيئة، والمسلمة بأنها جسيمة حقًا، فلم يوقِّع على بروتوكول كيوتو؛ بذريعة أن التوقيع عليه يضر بالاقتصاد الأميركي. وهذا ما فعله الرئيس ترامب عام 2017م بخروجه من اتفاقية باريس للمناخ، فقد زعم، إبَّان حملته الانتخابية، أن اتفاق باريس للتغير المناخي سيكلف الولايات المتحدة خسارة ثلاثة تريليونات دولار من إجمالي ناتجها القومي، وحوالى 6.5 مليون وظيفة في قطاعات مختلفة مثل قطاع الفحم. وأشار إلى أن إدارته ستتوقف عن دفع أموال لصندوق المناخ الأخضر، والذي تدفع له الدول الغنية مليارات الدولارات سنويًا لمساعدة الدول النامية على التعامل مع الفيضانات والجفاف والآثار الأخرى لتغير المناخ. [يتبع]
2020-04-29