النظام الدولي الحالي… هل يصيب فيروس كورونا منه مقتلًا؟ لا بديل عن الخلافة الإسلامية لقيادة النظام الدولي الجديد، وهي وحدها المنقذة…
2020/04/29م
المقالات, كلمات الأعداد
1,865 زيارة
فيروس كورونا وتاثيره على النظام الدولي الجديد:
اجتاح فيروس كورونا دول العالم مهددًا دوله وشعوبه، مخترقًا مدنه وقراه، مالئًا مستشفياته التي غصت بالمصابين والتي عجزت عن استقبالهم، مسجلًا أعلى نسب وفيات شبيهة بنسب الوفيات في الحروب… مصيبًا شركاته ومؤسساته بالجمود، ومهددًا الدول الصناعية بالركود، ولم يفرق بين سياسيٍّ ولا عسكريٍّ ولا مدنيٍّ، ولا غنيٍّ ولا فقير، ولا كبير ولا صغير، ولا دولة غنية ولا دولة فقيرة؛ بل هو كان من دول الغرب وأميركا أقرب؛ فلم يستطع هذا الغرب، بالرغم من كل تقدمه العلمي والتكنولوجي والتقني والعسكري الهائل أن يوقفه ويمنع انتشاره؛ وغيَّر كثيرًا من أنماط الحياة فيه فأصبحت الشوارع والشركات والمطاعم والأماكن السياحة ودور العبادة فارغة… وكثرت التحليلات حول ما إذا كان وراءه يد دولة مجرمة عابثة نشرته في إطار صراعها الدولي أم هو فيروس أتى طبيعيًا… وبعثت سرعة انتشاره التفكيرَ القلِق من المستقبل كيف سيكون، وأطلق العنان للقول بأن ما بعد كورونا سيكون غير ما قبلها، وكثرت التحليلات التي تتناول مختلف التغيرات الاقتصادية والسياسية والدولية التي من الممكن أن تتأثر جراء هذا الوباء متخوفة من عواقبه… وتحدثت وسائل الإعلام عن حدوث مشكلات بطالة هائلة ما سيؤدي إلى اختلال أوضاع الناس المعيشية وإفلاس الشركات الكبرى، وما سيدفع الدول إلى التدخل لتصحيح هذا الخلل من ميزانياتها… والحاصل أن هناك خللًا عالميًا يتوقعون له أن يغير نمط الحياة فيها بشكل واضح؛ وهذا ما دفع بعض المسؤولين السياسيين في أوروبا إلى القول إنه أخطر وضع يشهده العالم الغربيُّ بعد الحرب العالمية الثانية. ولعلَّ أكثر ما يلفت النظر هو صدور تحليلات وتنبؤات تشير إلى توقع حدوث تغيير النظام الدولي، أو تغيير في النظام الدولي. ومن عناوين هذه التحليلات: (فيروس كورونا: هل يؤدي تفشي الوباء إلى ميلاد «نظام دولي جديد»؟ – بي بي سي عربي) (فيروس كورونا: ما بعد الجائحة لن يكون كما قبلها – بي بي سي عربي) (كورونا ربما يعيد تشكيل النظام العالمي – فورين أفيرز) (هل يعيد فيروس كورونا تشكيل النظام العالمي؟ – عربي21) (كورونا وتشكّل نظام عالمي جديد – النهار اللبنانية)… ومن ثم نشر مقال لوزير خارجية أميركا الأسبق هنري كيسنجر بصحيفة وول ستريت جورنال يدق فيه ناقوس الخطر معلنًا أن «جائحة كورونا ستغيّر النظام العالمي للأبد» مضيفًا: «الحقيقة هي أن العالم لن يكون كما كان بعد الفيروس التاجي».
إن مثل هذه المقالات والتحليلات، إن دلت، فأول ما تدل عليه هو أن النظام الدولي الحالي يعاني من كثير من المشكلات والأزمات المزمنة على كافة الصعد السياسية والاجتماعية والمالية والسياسية من قبل ظهور فيروس كورونا. ولو كان هذا النظام الدولي في عافية ومناعة لواجهه، ولما كان هناك من داعٍ لهذا التخوُّف، ولما كان من سبب لإطلاق مثل هذه العناوين… في الحقيقة، إن النظام الدولي الحالي يعاني من أزمة وجود؛ لذلك أطلقت هذه التحذيرات.
تأثير الجوائح في التاريخ بتغيير أنظمة دولية
وقبل أن نتناول مدى إمكان أن تؤدي تداعيات هذا الفيروس إلى تغيير النظام الدولي، فإننا سنعود إلى التاريخ لنرى بأنه قد حدث لمثل هذه الجوائح الكبيرة أن فعلت فعلها في الدول والأنظمة كما تفعل الحروب وأكثر، وأنها فاقمت الأزمات بالنُّظُم الهَرِمَة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وأطاحت بها، وأنها سرَّعت في تغيير موازين القوى الدولية، فقدَّمت وأخرَّت، ويذكر هنا أن القائمين على الأوضاع قد يقعون في سوء التصرف الذي يجعل من آثار هذه الأزمات مضاعفًا ما يعجل في قلب الموازين… وفي هذا المجال، ومن وحي فيروس كورونا هذا، فقد نشرت الواشنطن بوست مقالًا في 09/04/2020م بعنوان: (10 أوبئة أشد فتكًا عبر القرون أعادت صياغة العالم) وقد جاء في المقال: «ويُنبئنا التاريخ أن الأوبئة السابقة أعادت صياغة العالم على نحو شامل بعد أن قضت على مئات الملايين من البشر، وتسبَّبت في انهيار إمبراطوريات، وتصدع حكومات، وإبادة أجيال بأكملها».
وكمثال على ذلك، نأتي على ذكر ما عرف في التاريخ بطاعون جستنيان عام (541م-542م)، (نسبة إلى جستنيان الأول، الذي كان إمبراطورًا في وقت تفشي المرض لأول مرة) وكان قبل ولادة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثين عامًا، وهو وباء أصاب الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) وخاصة عاصمتها القسطنطينية، وكذلك الإمبراطورية الساسانية والمدن الساحلية حول البحر الأبيض المتوسط بأكمله؛ حيث كانت السفن التجارية تؤوي الفئران التي تحمل البراغيث المصابة بالطاعون، وقيل إنه قضى على 40% من سكان القسطنطينية وما بين 13%و 26% من سكان العالم، وهو قد زلزل العالم وأوهن كلًا من الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية اقتصاديًا وسكانيًا وعسكريًا، وكان عاملًا مهمًا في اختلال موازين القوى الدولية وصولًا إلى انهيار القطبين الدوليين (البيزنطي والساساني) على أيدي الفاتحين المسلمين.
ويذكِّر هذا الواقع بيوم بعاث الذي وصفته أم المؤمنين عائشة صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم، وجرحوا، فقدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، في دخولهم في الإسلام». فقبل أن يقيم النبي صلى الله عليه وسلم دولته في المدينة، دارت حرب قوية بين قبيلتي الأوس والخزرج، قتل فيها زعيميهما، زعيم الأوس حضير الكتائب بن سماك والد الصحابي الجليل أُسَيْد بن حضير، وزعيم الخزرج عمرو بن النعمان البياضي. وكان لمقتل هذين الزعيمين، فرصة عظيمة للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم؛ ما أدى إلى أن يستلم الزعامة أبناءهم من الشباب، ولأن يقبل هؤلاء الدخول في الإسلام ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بعد أن قضت هذه الحرب على أشراف القوم الذين كان من المتوقع معارضتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كان من السهل أن يظهر منهم من يريد أن يستمع للنبي الكريم، وهو ما حدث بالفعل.
خشية الغرب من تغيير فيروس كورونا للنظام الدولي الجديد:
لهذا السبب خشي الغرب من تداعيات هذا الفيروس الدولية؛ خاصة وأن النظام الدولي الحالي الذي تسيطر عليه الحضارة الغربية بقيادة أميركا قد وصل إلى حالة الإفلاس، وتتكلم كثير من الأقلام عن فشله وضرورة تغييره؛ من هنا يمكن القول إن فيروس كورونا هذا قد أصاب جسد الحضارة الرأسمالية الغربية أكثر مما أصاب الأجساد البشرية. وبما أنه يصيب من المعمرين البشر مقتلًا؛ فإنه ليتوقع أن يصيب من هذه الحضارة الهرِمة مقتلًا. ونحن في مجلة الوعي، أكثر ما تناولنا هذا الموضوع في مقالاتنا، وأعلنا أنه قد آن أوان زوال الحضارة الغربية وقدمنا شواهدنا من الواقع، وأنه قد آن أوان قيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وبسطنا شواهدنا من الشرع. وإن هذا الفيروس قد أحيا نفوسًا كثيرة من المسلمين عندما رأَوا أن مخلوقًا من مخلوقاته المـَهينة يتحدى اللهُ سبحانه وتعالى به جبروتَ حضارة لا ترحم، يتحدَّاها بكل ما توصلت إليه من تقدم علمي وتكنولوجي وتقني وطبي وعسكري وثقافي… ومع أنه لا يوجد أدلة دامغة على أن هذا الفيروس مصنَّع إلا أن النتيجة في كلتا الحالتين واحدة فهذا الفايروس جعل المسلم والكافر يقول إنه لا يكشفه عنا إلا الله، أما الكافر ففطرة، وأما المسلم فإيمانًا. حتى ترامب، وأنظمة الحكم في أوروبا تحولوا إلى التعامل الإيجابي مع الدين الإسلامي كردة فعل أمام هذا الفيروس إقرارًا منهم أنه فوق قوتهم وقدراتهم.
نعم، لقد طغى الغرب وتجبَّر وعتا عتوًا كبيرًا، وتوطَّنَ في نفوس بعض مفكريهم وسياسييهم استعلاء وجبروت القرون التي أهلكها الله من قبل. ففي كتاب (التنوير الآن) لمؤلفه ستيفن بينكر يذكر: «إننا نعيش اليوم أفضل حالة بشرية، والسبب في ذلك أنّنا استطعنا التغلب على الكثير من الأمراض والمجاعات، ووصلنا بالإنسان إلى مستوى من الوعي والتواصل والرخاء والحالة الإنسانيّة الراقية لدرجة غير مسبوقة تاريخيًا». وكذلك تنبَّأ «يوڤال هاراري بأنّ «الإنسان الجديد (الهوموديوس) هو متألهٌ باعتبار أنه استطاع أن يهزم كل قواعد الضعف التي أحاطت بالبشرية، وأنّه قد اقترب أكثر من أي وقتٍ مضى نحو الخلود التام» وقد اعتنق هذه النزعة عدد كبير من العلماءِ الغربيين. وكتاب (نهاية التاريخ) لفوكاياما يصبُّ في هذا الإطار. نعم، لقد جاء هذا الفيروس ليكشف وهم هذه القوة ويفضح وهنهم، وليذكرنا بقوله تعالى: (فَأَمَّا عَادٞ فَٱسۡتَكۡبَرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَقَالُواْ مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًۖ أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۖ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَجۡحَدُونَ١٥) فليتصور المسلم، وغير المسلم، كم عند الله من الجنود التي لا يعلمها إلا هو، قال تعالى: (وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ ٣١ ).
بيد أنه من حيث الواقع، ومن باب المفارقة، فإننا نرى أن هذا الاستعلاء الفكري كانت سماؤه غير أرضه. فعلى الأرض، ومن الناحية الاجتماعية تعاني الشعوب الغربية اضطرابًا اجتماعيًا كبيرًا في حياتها… ومن الناحية الاقتصادية تعاني الدول الصناعية الكبرى عجزًا ضخمًا في ميزانياتها، وتواجهها مصاعب مالية خطيرة وخاصة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008م، ويتوقعون انفجارًا في الوضع المالي يكون امتدادًا لسابقه وأخطر منه بكثير؛ لذلك لم تدخل هذه الدول المواجهة مع «كورونا» من موقع قوة… والاستنتاج أنه لن تخرج أي دولة من الأعضاء سالمة من هذا الوباء الصحي، لا اجتماعيًا، ولا اقتصاديًا، ولا ماليًا. ومن المتوقع أن ينتهي عام 2020م بحالة من الكساد وتفشي البطالة وحدوث خسائر في الإنتاج تتراوح ما بين 2 إلى 2.3 تريليون دولار كما يذكرون؛ وهذا سيدفع الدول الغنية إلى إنفاق التريليونات التي سبق وسرقتها من دول العالم الأخرى وتوزيعها على مواطنيهم ليأمنوا من الوصول إلى أي خلل مجتمعي أو فوضى أمنية. ويذكر هنا أن مفاعيل الطواعين المميتة قد تخمد لسنوات ثمّ تستعيد نفوذها وتأثيرها وقتلها للبشر، وهذا ما حدث في الطواعين السابقة فقد كانت تأتي وتذهب لسنوات حتى تحصد الملايين.، وهذا ما يجعل الاقتصاد في الدول في حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار، وهذا مؤذٍ جدًا في تحقيق حالة نمو في اقتصادات تلك الدول.
كل هذا من ثمرات الحضارة الرأسمالية المرَّة حتى على أهلها… نعم، ستستفيق أنظمة الدول الغربية بعد كورونا وتستعيد الكوابيس التي رأتها في منامها عن تداعيات هذا الفيروس عليها وعلى حضارتها البائسة، وسيستفيق الناس وقد خسروا أموالًا كثيرة جدًا، المطاعم والمقاهي وقطاع السياحة وقطاع الطيران والقطاعات الخدماتية الكبرى والموظفين المؤقتين والعمال المستقلين ومن ليس لديه قدرة مالية على الاستمرار، وستستفيق الشركات الكبرى على حالة من الركود الاقتصادي العالمي… ما سيؤدي إلى تفاعلات اجتماعية وسياسية خطيرة ستعاني منه الولايات المتحدة الأميركية، وستكون المعاناة الاقتصادية الأكبر أوروبية… وكلما تمكنت الدول الغربية المصابة من إيجاد العلاج بسرعة فإنها ستخفف من هذه التداعيات وتحصرها ويكون أسهل عليها التغلب عليها.
الحضارة الغربية مقبلة على الزوال مع كورونا ومن دونه:
إنه ليس من المبكر القول إن الحضارة الغربية مقبلة على الزوال، ولكن من المبكر القول إن انهيارها سيكون على يد كورونا. إن أزمة كورونا ليست هي أزمة صحية عالمية فحسب، بل هي أزمة تولد أزمات: أزمة اقتصادية عالمية كما ذكرنا، وستكون أزمة ثقافية بالدرجة الأولى، فقد رأينا نظرة هتلر وستالين إلى البشر في تصرفات حكام الغرب؛ حيث كان الضعيف والمعمّر يقتل، كما رأيناه اليوم في كوريا الشمالية عندما قتلوا الضعفاء في المستشفيات كي لا تتكفل الدولة بعلاجهم، وكانت إيطاليا قد نشرت وثيقة لمركز (SIAARTI) فيها توصيات للأطباء بأن تمنع المريض الذي يزيد عمره عن 65 سنة من الدخول إلى المستشفى، حتى لو كانت لديه أعراض سيئة أخرى غير فيروس الكورونا «فيترك ليموت» وذلك بسبب الأعداد المحدودة جدًا من أجهزة التنفُّس الصناعية، والدافع لتلك التوصية كان دافعًا ماديًا بحتًا إذ الشاب عنصر منتج والكبير في السن مستهلك، وشتاَّن ما بينهما في الحضارة الغربية. وهذه النظرة للإنسان متعلقة بنظرته عن الحياة، متعلقة بالثقافة السائدة في هذه المجتمعات. وهذه الثقافة ليست جديدة على التفكير الأوروبي المادي المستشري والذي لم يغب عنهم منذ القديم. فقد ذكر في كتب التاريخ عن الطاعون الذي اجتاح أوروبا، بأن السلطات كانت تأمر بإغلاق بيوت المرضى عليهم عندما يعلم أن فلانًا قد مرض، فيغلق البيت بالطين والحجارة على المريض لكي يموت ولا تنتقل العدوى منه، فيبقى ميتًا داخل بيته… وكم تختلف هذه النظرة عنها في الإسلام. وهذا مما يستدعي القول إن العالم يحتاج حاجة ضرورية لنظام آخر مختلف من شأنه أن يخرج الناس من هذه الحالة السيئة إلى حالة أخرى ينعم فيها بالاستقرار وبالحياة الطيبة، وليس ذلك إلا في الإسلام.
إن العالم قد يجتاز أزمة فيروس كورونا؛ ولكنه من الصعب أن يجتاز تداعياته، والسبب في ذلك أنه توجد قبل كل شيء أزمة حضارة ومفاهيم ووجهة نظر عن الحياة ومقاييس للأعمال يجب أن تتغير … وتداعيات هذه الأزمة هي من عوارضها، فما لم يحلَّ السببُ الأساسيُّ فستبقى العوارض تظهر بأشكال مختلفة. نعم، لقد كثرت الأزمات في هذا النظام الرأسمالي البائس، ويمكن لكل أزمة منها بمفردها أن تزلزل النظام الدولي بما يغير توازن القوى. والمهم هو معالجة السبب وليس نتائجه.
إن العصر الرأسمالي الذي نعيشه اختلت فيه كل العلاقات: علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبغيره من البشر، وتجاوزت ذلك إلى علاقته بالطبيعة، فبسبب الاختلال والجشع الهائل الذي اجتاح البشرية أصبحت الحياة فيها غير قابلة للاستمرار على كل صعيد، وأصبحت الحياة غير معقولة وغير قابلة ولا قادرة على الاستمرار. فما قيل عن الحرائق في أوستراليا، وقبلها الحرائق التي أطاحت بجزء كبير من الأمازون إن رئة الكرة الأرضية تَفسد، فهذه الغابات تنتج الأوكسجين اللازم للكائنات الحية بما فيها الإنسان، واحتراقُها كان بسبب التغيُّر المناخي وهو مظهر آخر للجشع الإنساني واللهاث المحموم خلف سراب النمو الاقتصادي المتواصل الذي لا يزيد البشرية إلا معيشة ضنكًا وسوء عاقبة، ولا يمنحها إلا التعاسة والشقاء. وبالتالي فالأوكسجين الذي يفسد والمناخ الذي يتغير والكوكب الذي يتضرر يعود علينا مرة ثانية على شكل أمراض وأوبئة ومجاعات وفقر وفيضانات وأعاصير وحرائق وتصحُّر… ويرى روبن نيبليت، مدير معهد تشاتام هاوس، أن فيروس كورونا «قد يكون القشة التي قصمت ظهر البعير للعولمة الاقتصادية». لقد كفرت الشعوب بهذا النظام الاقتصادي الرأسمالي المتوحش الذي لا يرحم، والذي يسيطر فيه أقل من 1% من البشر على ما يعادل أملاك نصف سكان الكرة الأرضية… لقد كفرت بالعولمة والتجارة الدولية واتفاقات التجارة الحرة، وأصبح التغيير لديها ضروريًا ضرورة البقاء والاستمرار في الحياة… وهذا الكلام أول ما يتعلق بالفكر الأساسي القائم عندهم على (فصل الدين عن الحياة) وبوجهة النظر القائمة على تحقيق الشركات والدول لمصالحهم ولو على حساب شعوبهم وشعوب الأمم الأخرى.
نعم، من المتوقع العثور على اللقاح لهذا الفيروس، وسيصور ذلك أنه انتصار للديمقراطية، وستعود المنافسة على أشدها، ولن يتغير شيء حقيقي سوى الالتفات إلى الرعاية الصحية وإيلائها اهتمامًا أكبر… هذا بالنسبة للفيروس. أما بالنسبة إلى التنافس الدولي فمن المتوقع أن يشتد أكثر، وتحديدًا بين أميركا ومعها أوروبا وبين الصين ومن معها. وقد بدأت ملامح الصراع تظهر من الآن بالاتهامات المتبادلة بالمسؤولية عن تفشي الفيروس. ويبدو أن تشكيل المسرح الدولي قد بدأ، وسواء أكان للصين يد في الأمر أم لم يكن، فإن الاتهام سيلقى عليها من باب شيطنتها تمامًا كما فعلت أميركا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بالعمل على شيطنة الإسلام ووصفه بالإرهاب على مدى العقود الأربعة الماضية، فهل ستتحوَّل بوصلة الشيطنة إلى الصين الآن، وعندها لن يكون العالم قد استفاد شيئًا مما حدث، بل استعر الصراع لتمنع أميركا الصين من منافستها على المسرح الدولي، أي منع العالم من أن يصبح ثنائي القطبية… على هذا الفهم للمسرح الدولي الذي سيكون عليه، وهو أن صراعًا سياسيًا دوليًا سيتقدم إلى المربع الأول من المواجهة، بين أميركا والصين، فإنه لن يتغير شيء، وسيبقى العالم على ما هو عليه من حاجة ماسة إلى مبدأ جديد، ومفاهيم جديدة.
الحضارة الإسلامية هي الصالحة للتغيير وتنتظر إقامة دولة إسلامية لتأخذ دورها في الحياة
إن من أهم حسنات هذا المخاض العسير الذي تمر به دول العالم وشعوبها اليوم هو أن صراعًا دوليًا سينشأ بين أميركا والصين، فأميركا ستتهم الصين بأنها وراء الفيروس وتريد أن تقاضيها وستجر العالم معها لتحاصرها وتجعلها مكبَّلة عن المنافسة… وإن الحقيقة الوحيدة التي يمكن أخذها من كتابات الغربيين هي أن النظام الدولي هو فعلًا في حالة إفلاس وعلى حافة الانهيار… وبالتالي استمراره لا يعني سوى المزيد من الأزمات، ولأنهم لا يملكون البديل الذي يريدونه فهم سيكتفون برقع ما يُفتَق من هذه الحضارة حتى يتسع الفتق على الراتق ويضطرون إلى أن يأتي البديل بالقوة أو ما يعرف بصراع الحضارات، وهذا هو المتوقع. ولعمر الحق متى كان يأتي البديل من غير صراع سياسي وفكري؛ فهل يتصور أحد أن الغرب سيقول للعالم أن حضارته فاشلة والإسلام هو البديل عنها، حتى ولو كان عندهم اقتناع بشيء من هذا فلن يفعلوا إلا ما فعلوه سابقًا، إنهم نصارى يسكنهم مزيج من رأسمالية متوحشة ويؤثر بهم يهود من ماسون ماكرين متخفين… إن أمر الله إذا جاء، فلن يأتي إلا مغالبة، ولن يوقفه لا غرب ولا شرق، قال تعالى: ( وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ)
نعم، إن العالم أصبح في أمس الحاجة لنظام دولي جديد، وقبله لحضارة جديدة، وإلا سيتعرض لمزيد من مآسٍ هي أشد فتكًا من فيروس كورونا. وعندما نقول إن النظام العالمي يجب أن يتغير، فمعناه أن الحاجة ماسة عند كل البشر لنظام جديد أي لقيادة فكرية جديدة وليس لقيادة سياسية جديدة دون أن يكون هناك قيادة فكرية جديدة.
هذا الحديث عن التغيير الكوني المرتقب، إذا كان يشكل حاجة وضرورة عند غير المسلمين، فهو بالإضافة إلى ذلك يمثل فريضة شرعية عند المسلمين. فالله سبحانه عندما أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، إنما أرسله ليكون ظاهرًا على الدين كله، أرسله للناس كافة ليكون شاهدًا عليهم حتى قيام الساعة. صحيح أنه سبحانه جعل رسوله الكريم خاتم الأنبياء؛ ولكنه سبحانه جعلها من بعده خلافة راشدة على منهاج النبوة، وفرض على المسلمين إقامتها واستمراريتها حتى تكون قوَّامة على الناس بالحق، شاهدة على البشرية جمعاء إلى يوم القيامة… وهذا هو وقت الحاجة الماسَّة إليها، سواء من المسلمين أم من غيرهم. هذا هو وقت أن يقال للناس أجمعين أن الله هو خالقكم ومدبر أمركم، أن نقول لهم إن حياتكم غير منقطعة عن آخرتكم، أن نقول لهم إن الله خلقنا وإياكم وجميع الخلق لنعبده، وإن الآخرة هي دار القرار… لنقول لهم مقولة الإسلام في الدعوة إلى الله. نقول ذلك ونحن ندرك أن الشعوب الغربية هي قطعًا غير حكامها، إنها القطيع الذي يديره حكامه الذئاب. إنها ضحية حكامها والمتسلطين عليها. وقد أمرنا الشرع أن ننظر إلى الشعوب غير نظرتنا إلى الحكام، فالشعوب تفتش عن الحل وتطلبه من الحكام وهم لا يزيدونها إلا ضلالًا، ونحن وحدنا الذين نملك الحل لنا ولهم وللناس أجمعين؛ ومن هنا نجد أنه في الوقت الذي يشنُّ فيه حكام الغرب حربهم على الإسلام، فإننا نرى أن شعوبهم تدخل في الإسلام.
إن للمسلمين مشروعهم الحضاري الذي تفتش عنه شعوب الغرب والعالم أجمعين، وهو إقامة دولة الخلافة الراشدة التي تقوم بمهمتها الشرعية من إقامة الحياة المبنية على الصلة بالله بتسييرها بحسب أوامره ونواهيه، ومراعاة تحقيق كل القيم الروحية والإنسانية والخلقية والمادية في الحياة والتي تبنى السعادة فيها على التقوى… مشروعهم الذي ينقذون به أنفسهم والبشرية جمعاء، في الدنيا والآخرة، فلا خلاص إلا به. وهم لهم وعد من الله سبحانه بإقامته غير مشروط بزمان ولا مكان وذلك بقوله تعالى: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ٥٥) ولهم بشراهم من رسولهم الكريم وعدًا غير مكذوب أنه آتٍ بعد هذا الحكم الجبري الذي يجثم على صدور المسلمين بقوله صلى الله عليه وسلم: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» وبعد هذا العصر الرأسمالي الذي يسيطر على الكرة الأرضية وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض مشرقها ومغربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» إن لله دعوة الحق، وقد آن أوان ظهورها
وفي الختام، نقولها بالفم المليان والقلب العامر بالإيمان بجميل وعد الله إن العالم لن يصلح إلا بنظام دولي جديد، ولا يملكه أحد من هؤلاء الذين يقودون العالم إلى الخراب. وإن فيروس كورونا هو بداية إعلان لنهاية الحضارة الغربية التي استنفذت كل أهدافها فقرًا وجوعًا وحروبًا واستغلالًا وإفقارًا وإضلالًا… وما عليها إلا الرحيل لتفسح المجال أمام نظام دولي جديد يحمل الخير للبشر. قال تعالى: (… إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ ١١ ) .
نعم إن الاسلام القادم هو وحده الحل الذي تبحث عنه البشرية، وربما تكون الأوضاع الجديدة مناسبة له أكثر من أي وقت مضى، وربما جاء الوضع الأخير كتدخل رباني ليؤذن بالتغيير، فالأمر كله بيد الله… ويسألونك متى هو، قل عسى أن يكون قريبًا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2020-04-29