سياسة أميركا تجاه دول أميركا اللاتينية
2019/10/22م
المقالات
6,896 زيارة
سياسة أميركا تجاه دول أميركا اللاتينية
د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير
في الأرض المباركة فلسطين
قبل الخوض في الموضوع، نستعرض بعض الحقائق عن أميركا اللاتينية كما وردت في كتاب( خيارات صعبة )لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون: فأميركا اللاتينية تضم 36 دولة وإقليمًا، ويبلغ مجموع سكانها حوالى 600 مليون نسمة، وحوالى 40% من مجمل صادرات أميركا تذهب إليها وإلى كندا، مقابل 21% إلى الاتحاد الأوروبي، و7% إلى الصين، والباقي إلى مناطق متفرقة من العالم، ويعدُّ اقتصاد دول أميركا اللاتينية مجتمعة أكبر بثلاثة أضعاف من اقتصاد الهند أو روسيا ولا يبتعد كثيرًا عن الصين أو اليابان، وناتجها المحلي الإجمالي السنوي يفوق خمسة تريليونات دولار، وتربط إحدى دولها حدود برية طويلة مع الولايات المتحدة حيث تتشارك المكسيك وأميركا حدودًا تمتد حوالى ألفي ميل.
السياسة الخارجية الأميركية تجاه دول أميركا اللاتينية:
تتعامل أميركا مع دول أميركا اللاتينية وفق سياسة ثابتة تقوم على حفظ مصالح أميركا الاقتصادية والسياسية في تلك الدول، والحيلولة دون أن تصبح تلك الدول مصدر تهديد لأميركا وأمنها بشكل فعلي، سواء من خلال استغلالها من قبل دول كبرى أخرى أم بدافع ذاتي من تلك الدول، ويتم تنفيذ هذه السياسة من خلال:
أولًا: تحييدها من حلبة الصراع الدولي
وقد أطلق شرارة هذه السياسة الرئيس الأميركي جيمس مونرو صاحب التصريح المشهور عام 1823م حيث قال فيه: «إن الولايات المتحدة لا تسمح لأية دولة أوروبية بالتدخل في شؤون القارة الأميركية، واحتلال أي جزء منها»، جاء هذا التصريح ردًا على محاولة الدول الكبرى في ذلك الوقت التدخل في شؤون القارة الأميركية ومساعدة إسبانيا على استرداد مستعمراتها.
ومنذ تلك اللحظة عملت أميركا وفق هذه القاعدة وسارت عليها حتى نجحت في تحييد معظم دول أميركا اللاتينية من الصراع الدولي، حيث لم يبقَ للأوروبيين سوى بعض التأثير على بعض الدول في أميركا اللاتينية؛ ولكنه لا يرقى إلى درجة الصراع الدولي الفعلي ولا يشكل خطرًا على أميركا. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبحت مصالح أميركا بعيدة كل البعد عن التهديد الفعلي انطلاقًا من تلك الدول، فلا قواعد عسكرية لدول كبرى أخرى، ولا أعمال سياسية وخطط ذات شأن تنطلق من تلك الدول للتشويش على السياسة الأميركية أو عرقلة المشاريع التي تعدها للقارة والعالم.
ثانيًا: الهيمنة من خلال المنظمات الدولية على غرار الأمم المتحدة
برزت تلك المساعي عام 1889م؛ حيث عملت أميركا على تأسيس هيئة تجمع بلدان القارة الأميركية، وعُقِد أول مؤتمر دولي لهذا الهدف ما بين تشرين أول/أكتوبر 1889م ونيسان/أبريل 1890م في العاصمة الأميركية واشنطن بدعوة من أميركا وبمشاركة 18 دولة من دول القارة، وتم خلال هذا المؤتمر الاتفاق على تأسيس مكتب «الاتحاد الدولي لجمهوريات أميركا للتوزيع الجيد وتوزيع المعلومات التجارية» والذي تحول لاحقًا إلى «اتحاد بلدان أميركا» (Pan American Union)، ومن ثم استبدل هذا المكتب باسم «اتحاد عموم أميركا التاسع» الذي انعقد في عاصمة كولومبيا بوغوتا، ودخل الميثاق الأساسي للمنظمة حيز التنفيذ في كانون الأول/ديسمبر 1951م، ثم عُدّل في شباط/فبراير 1970م واتخذ اسم «الأمانة العامة لمنظمة الدول الأميركية» OAS. (الجزيرة نت)
وأصبحت تلك المنظمة التي أنشأتها أميركا وتسيطر عليها أداة فعالة في التأثير والهيمنة على دول أميركا اللاتينية وضبط سياستها بما يتفق مع السياسة الأميركية. وللمزيد من التأثير على دول أميركا اللاتينية وجعلها لا تخرج عن الفلك الأميركي تم إضافة أداة فعالة أخرى إلى جانب منظمة الدول الأميركية، وهذه الأداة هي ما أطلق عليه مسمى قمة الأميركيتين؛ حيث دعا الرئيس الأميركي بيل كلينتون عام 1994م إلى قمة الأميركيتين الأولى في ميامي، ودعا جميع دول القارتين باستثناء كوبا لحضور تلك القمة التي عقدت بحضور جميع المدعوين، ومن ثم تم الاتفاق على عقد القمة بشكل دوري كل أربعة أعوام لبحث الأمور السياسية والاقتصادية المتعلقة بالقارة، وبذلك نجحت الولايات المتحدة في إنشاء أداة فعالة إضافية للتأثير على دول أميركا اللاتينية، وهي قمة الأميركيتين وما يخرج عنها من قرارات.
ثالثًا: الانقلابات العسكرية
استخدمت الولايات المتحدة هذه السياسة في كثير من دول أميركا اللاتينية لإيصال حكام قريبين وموالين لها إلى الحكم خاصة في فترة الصراع مع المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، فمثلًا دعمت الولايات المتحدة الانقلاب العسكري في الأرجنتين عام 1976م على الرئيس الأرجنتيني الذي كان اشتراكي التوجه «إيزابيل بيرون» وكان الانقلاب بقيادة الجنرال «جورج رافائيل فيديلا» الذي تحالف مع الولايات المتحدة، واستمر هذا الانقلاب حتى عام 1983م، وتسبب في مقتل نحو 30 ألف شخص، وقد عُرفت هذه الفترة باسم «الحرب القذرة»؛ وأيضًا دعم الرئيس الأميركي جونسون الانقلاب العسكري في البرازيل عام 1963م على الرئيس «خواو غولارت» حيث تحالفت الولايات المتحدة مع قائد أركان الجيش البرازيلي في ذلك الوقت «أومبرتو كاستيلو برانكو» الذي أطاح بالرئيس خواو غولارت لمنع البرازيل من أن تتحول إلى «صين الستينات» كما قال السفير الأميركي في ذلك الوقت لينكولن جوردون. وكذلك أيضًا ما حصل في بنما حيث جنَّدت الولايات المتحدة مانويل نورييغا الذي درس في كلية تابعة للجيش الأميركي في بنما، ومن ثم استعانت به للتخلص من قائد الحرس الوطني عمر توريخوس، والذي كان يمثل الحاكم الفعلي للبلاد، والذي عمل على إخراج القوات الأميركية من بنما وإعادة السيطرة الفعلية لبنما على القناة المائية، وهو من قام بتوقيع معاهدة توريخوس كارتر في واشنطن دي سي في 7 أيلول/سبتمبر 1977م، ونصت المعاهدة على أن تحصل بنما على حق إدارة القناة وخروج كامل للجيش الأميركي بحلول عام 1999م بشكل أغضب واشنطن التي حركت نورييغا الذي نجح في اغتيال توريخوس بتفجير طائرته عام 1981م، ومن ثم تولى الحكم حتى عام 1990م. وأيضًا ما حصل في تشيلي عام 1973م على يد حليفها أوجستو بينوشيه قائد الجيش الذي حاصر القصر الرئاسي وقتل الرئيس سلفادور الليندي. وفي بعض الأحيان كانت الولايات المتحدة تنقلب على حلفائها وتلقيهم على قارعة الطريق وتجعلهم فريسة للمحاكم المحلية والدولية إذا ما استنزفت خدماتهم وأصبحوا غير قادرين على الإمساك بزمام الأمور حتى لا تخرج تلك الدول من الفلك الأميركي كما فعلت مع مانويل نورييغا؛ حيث قامت الولايات المتحدة باعتقاله خلال عملية عسكرية في عهد الرئيس بوش الأب، ومن ثم وضعه في السجن لمدة عشرين عامًا بتهمة المتاجرة بالمخدرات ومن ثم تسليمه لفرنسا. وكذلك فعلت مع رافائيل فيديلا الذي توفي في السجن عام 2013م في الأرجنتين. وأيضًا مانويل زيلايا عام 2003م الذي اعتقلته من قصره الرئاسي في هايتي ونفته إلى جنوب أفريقيا. وأيضًا أوجستو بينوشيه الذي تركته فريسة للاعتقال في لندن عام 1998م، ومن ثم حوكم في تشيلي ووضع رهن الإقامة الجبرية حتى توفي عام 2006م.
وما زالت أميركا تستخدم سياسة الانقلابات العسكرية إلى اليوم؛ حيث دعمت الانقلاب العسكري في هندوراس عام 2009م على الرئيس مانويل زيلايا؛ حيث تم اعتقاله بثياب النوم ومن ثم نفي إلى كوستاريكا بشكل أثار غضب دول أميركا اللاتينية؛ حتى وصل الأمر إلى إخراج هندوراس من منظمة الدول الأميركية، ولكن الولايات المتحدة نجحت في امتصاص غضبهم والوصول إلى هدفها وهو عزل الرئيس زيلايا المناوئ لسياستها وإيصال حليفها بورفير يولوبو بإخراج ذكي؛ حيث أشرفت على إعادة زيلايا إلى هندوراس والاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية تدير البلاد حتى فترة الانتخابات، ومن ثم رتبت رفض الكونغرس الهندوراسي بأغلبية ساحقة إعادة زيلايا إلى الحكم؛ وعندها أدرك زيلايا أنه خسر اللعبة فسافر إلى الدومينيكان وترك هندوراس، ومن ثم حصلت الانتخابات وفاز حليف الولايات المتحدة المنافس السابق لزيلايا على منصب الرئاسة عام 2005م بورفير يولوبو ووصل إلى الحكم، ومن ثم أعادت الولايات المتحدة هندوراس إلى منظمة الدول الأميركية.
وكذلك ما يحصل حاليًا في فنزويلا حيث تدعم أميركا وبشكل علني تمرد رئيس البرلمان الفنزويلي خوان غوايدو بمساندة بعض الضباط والجنرالات في الجيش على الرئيس نيكولاس مادورو. وبشيء من التفصيل في موضوع فنزويلا الشائك هذه الأيام، يرى المتابع أن أميركا فور إعلان غوايدو نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد بتاريخ 23/1/2019م كانت أول من اعترف به من خلال تغريدة للرئيس الأميركي على تويتر كانت بعد دقائق من إعلان غوايدو، وطالبت بقية دول العالم أن تحذو حذوها، وهو ما حصل، ومن ثم انتقلت للتدخل بشكل مباشر للإطاحة بالرئيس مادورو الذي توجه إلى الجيش الذي سانده وحال دون الإطاحة به إلى هذه اللحظة رغم حجم الضغط والتآمر الأميركي الكبير عليه، ومن ذلك التآمر:
مطالبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشكل مباشر الجيش الفنزويلي بالتخلي عن دعم الرئيس مادورو، فجاء الرد واضحًا على لسان وزير الدفاع فلاديمير بادرينو حيث صرح «إنه على أولئك الذين يحاولون الاستيلاء على السلطة أن يمروا فوق جثث أفراد الجيش أولًا، وقال إذا أرادوا ابتزازنا دعهم يبتزوننا، وإذا أرادوا فرض عقوبات علينا دعهم يفرضونها؛ لكننا سنظل مدافعين عن الوطن»، وكذلك وصف خطاب الرئيس دونالد ترامب بالمتكبر وغير المقبول وأنه لا معنى له، ورفض ما جاء فيه من دعوة الجيش الفنزويلي للتوقف عن دعم الرئيس مادورو.
تهديد الرئيس الأميركي بالتدخل العسكري في فنزويلا حيث صرح دونالد ترامب أن إرسال قوات عسكرية إلى فنزويلا هو «أحد الخيارات» المطروحة، وأنه رفض طلبًا من الرئيس نيكولاس مادورو للقائه.
فرض أميركا عقوبات على شركة النفط الفنزويلية الحكومية PDVASA وتجميد أصول لها بقيمة 7 مليارات دولار، وفرض حظر على التعامل معها بشكل فاقم الأزمة الاقتصادية في بلد يعاني من فقر ونسبة تضخم خيالية.
إعلان جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي بنفسه في تغريدة على تويتر أن الملحق العسكري الفنزويلي في الأمم المتحدة الكولونيل بيدرو شيرينوس أعلن اعترافه الرسمي بخوان غوايدو رئيسًا مؤقتًا لفنزويلا.
دعوة الرئيس السابق للمخابرات العسكرية هوغو كارفاخال في حديث مع صحيفة نيويورك تايمز وبتوجيه من أميركا، الجنرالات الفنزويليين لكسر ولائهم لمادورو والتمرد عليه، وكان كارفاخال الذي شغل هذا المنصب الحساس لمدة عشر سنوات وتقاعد عام 2012م قد أعلن انشقاقه عن مادورو ووصفه بالدكتاتور.
محاولة أميركا إدخال مساعدات إنسانية بالقوة إلى فنزويلا لدعم حليفها غوايدو الذي طالب بهذه المساعدات بتوجيه من الولايات المتحدة لمحاولة جر الأمور إلى حالة من الانفلات والمواجهة الدموية بين الشعب والجيش الذي بدوره سيمنع إدخال المساعدات وسوف يقمع الاحتجاجات بقوة، وهو ما تريده أميركا ليكون ذريعة للتدخل العسكري للإطاحة بنيكولاس بحجة حماية المدنيين، ولكن نيكولاس نجح في ضبط الحدود فقام بإغلاق الحدود مع جزر أوربة وكوراساو وبونير في البحر الكاريبي، وهذه الجزر تتبع للسلطات الهولندية، ومن ثم قام بإغلاق الحدود مع البرازيل وكولومبيا ونجح في ضبط المواجهات التي أسفرت عن عدد محدود من القتلى والجرحى.
تَزعُّم أميركا للتحرك الدولي الضاغط باتجاه تنحي نيكولاس مادورو وتسليم السلطة بشكل مؤقت إلى غوايدو الذي بدوره سينظم انتخابات رئاسية وبرلمانية في البلاد، ومن المتوقع أن تنجح أميركا في عزل مادورو في نهاية الأمر وذلك في ظل الضغط الدولي عليه ومساندة الاتحاد الأوروبي، مقابل الدعم الضعيف من روسيا والصين، وأيضًا موافقة معظم دول أميركا اللاتينية للموقف الأميركي وخاصة تلك التي لها حدود مع فنزويلا ومنها كولومبيا التي تدور في الفلك الأميركي. وكذلك البرازيل حاليًا بعد وصول الرئيس جايربولسونارو مطلع عام 2019م، وهو الذي يدور في الفلك الأميركي حيث لا يخفي إعجابه بشخصية ترامب ويوافقه الرأي في التشكيك في التغير المناخي وانتقاد كوبا ونيكاراغوا، ويسانده في إسقاط نيكولاس مادورو على عكس الرئيسة السابقة ديلما روسيف التي انضمت لمجموعة بريكس لكسر الهيمنة الأميركية، وعزلها مجلس الشيوخ بعد تصاعد الاحتجاجات على الأوضاع الاقتصادية التي لعبت في مفاقمتها أسواق وول ستريت والصندوق الوطني الأميركي والوكالة الأميركية للتنمية فيما سمي بالانقلاب الناعم من أميركا على الرئيسة ديلما روسيف.
رابعًا: إثارة القلاقل والمشاكل ودعم الجماعات المسلحة:
استخدمت أميركا هذه السياسة في الكثير من دول أميركا اللاتينية، سواء في فترة الصراع مع المعسكر الشرقي أم بعد سقوطه؛ بهدف جعل تلك الدول تعيش في حالة فوضى وعدم استقرار تبقيها دولًا فاشلة بحاجة إلى مساعدة أميركا لحفظ أمنها وإطعام شعوبها، والحيلولة دون استثمار تلك الدول لمواردها البشرية والطبيعية بشكل فعال قد يوجد عندها ميولًا أو تفكيرًا بمنافسة النفوذ الأميركي السياسي أو الاقتصادي في القارة الأميركية على الأقل، ومن الأمثلة على تلك السياسة ما حصل في نيكاراغوا – فضيحة إيران غيت – وغواتيمالا وكولومبيا وهايتي وتشيلي وبوليفيا والإكوادور وغيرها من دول أميركا اللاتينية، وما يحصل في المكسيك وهندوراس حاليًا، ونتج عن تلك السياسة قتل مئات الآلاف من الأبرياء وتهجير الملايين وإلحاق الدمار بتلك الدول؛ فمثلًا في غواتيمالا تسببت تلك السياسة بقتل ما يزيد عن 200 ألف شخص خلال القرن المنصرم، وفي هندوراس تسببت تلك السياسة بهجرة جماعية للسكان خلال العام الماضي أطلقت عليها بعض وسائل الإعلام عنوان – هجرة جماعية لشعب بأكمله – أما في هايتي فقد نتج عن تلك السياسات جوع وفقر مدقع وصلت نسبته إلى 80% من السكان وتشريد مئات الآلاف.
خامسًا: سياسة فرض العقوبات والحصار على الدول التي تبدي مقاومة للنفوذ والهيمنة الأميركية:
لجأت أميركا إلى أسلوب العقاب والتأديب تجاه أي دولة تبدي أية مقاومة للسياسة الأميركية؛ حيث تقوم أميركا بالتضييق على الدول التي تظهر تمردًا تجاه سياستها وتفرض عقوبات اقتصادية عليها ترهقها وترهق شعوبها وتفقرهم وذلك لتحقيق أحد هدفين؛ إما ثورة تلك الشعوب على حكامهم ومن ثم مجيء من يتماشى مع السياسة الأميركية وينصاع لها، أو استسلام حكام تلك الدول والقبول بالسير وفق السياسة الأميركية كما حصل مع كوبا سابقًا ويحصل مع فنزويلا الآن، وجعل تلك الدول عبرة لغيرها فلا يجرؤ أحد على مساندتها أو تقليدها.
سادسًا: التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول تحت عناوين مختلفة منها
— المساعدة في محاربة المخدرات والجماعات المسلحة:
ومن الأمثلة على ذلك ما عرف بخطة كولومبيا في عهد بيل كلينتون والتي حظيت بدعم من الحزبين في الكونغرس تحت عنوان المحافظة على النظام الديمقراطي من الجماعات المسلحة ومهربي المخدرات؛ حيث تم دعم الرئيس الكولومبي باسترانا وتقديم حوالى مليار دولار لمساعدته ضد عصابات المخدرات وفصائل اليسار المتمردة المعروفة باسم فارك. وفي عهد إدارة الرئيس بوش الابن تم توسيع الخطة مع خليفة باسترانا ألفارو أوريبي، ومن ثم استمر الحال في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما وذلك بهدف جعل كولومبيا تدعم أميركا في سياستها، وهو ما يكشفه قول هيلاري كلينتون خلال اجتماع مع الرئيس أوريبي «أمضينا وقتًا في التحدث عن الطريقة التي تمكن كولومبيا وأميركا من العمل معًا في مجلس الأمن الدولي على القضايا العالمية وسبل توسيع العلاقات التجارية»، وبوصول خوان مانويل الذي درس في أميركا إلى السلطة توسعت هذه العلاقات وازدادت.
وكذلك خطة ميرادا التي وقعها الرئيس بوش الابن مع رئيس المكسيك، وتلتزم أميركا بموجبها بتقديم مساعدات مالية وعسكرية للمكسيك لمواجهة عصابات المخدرات؛ حيث تشكل المكسيك البوابة الرئيسية لتدفق المخدرات إلى أميركا، وهذه عناوين كاذبة ظاهرها المساعدة والخدمة وحقيقتها التغطية على الجرائم الأميركية بحق تلك الدول، والتغطية على التدخل في شؤونها وجعلها تدور في الفلك الأميركي.
ومن الحقائق التي تبين ذلك ما صرحت به هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية خلال حقبة أوباما حيث صرحت: «إن 90% من الأسلحة التي تستخدمها عصابات المخدرات في المكسيك مصدرها الولايات المتحدة» وهو ما عبر عنه الرئيس المكسيكي كالديرون – الذي قوضت عصابات المخدرات خططه المتعلقة بالتعليم وتحسين الوضع الاقتصادي للبلاد – في مقابلة مع هيلاري كلينتون حيث قال: كيف يفترض بي أن أضع حدًا لعصابات المخدرات المسلحة تسليحًا جيدًا فيما أنتم لا تعترضون الأسلحة التي تشتريها تلك العصابات عبر الحدود؟! وكيف أضع حدًا لتجارة المخدرات في اللحظة التي بدأت فيها بعض ولاياتكم تضفي الشرعية على استخدام الماريغوانا؟! لِمَ يتوجب على مواطني ورجال الشرطة والجيش وضع حياتهم على المحك في هذه الظروف؟!
وقد لخص هذه الأنانية الأميركية تصريح لوزير الداخلية المكسيكي ميغيل أنخيل أوسور متحدثًا للإذاعة المكسيكية عقب زيارة وزير الخارجية الأميركي السابق في عهد ترامب ريكس تيلرسون ووزير الأمن الداخلي السابق جون كيلي حيث قال: «إن المكسيك كانت دولة أقوى قبل توقيع اتفاقيات من هذا القبيل، وأن بلاده ليست بحاجة للمساعدات المالية الأميركية» وذلك ردًا على إصدار قرار من الرئيس الأميركي دونالد ترامب يقضي بإعداد تقرير عن المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة لجارتها الجنوبية على مدى السنوات الخمس الماضية، وحديث ترامب المتكرر عن ضرورة بناء جدار على الحدود المكسيكية الأميركية لمنع الهجرة غير الشرعية.
— الحفاظ على النظام الديمقراطي الذي أتى من خلال صناديق الاقتراع:
كما حصل في هايتي حيث تم تنفيذ انقلاب عسكري بقيادة وتوجيه أميركا على الانقلابيين الذين انقلبوا على الرئيس المنتخب جون أريستيد عام 1990م، حيث مكث أريستيد في أميركا حتى تمت إعادته إلى الحكم عام 1994م برفقة الجنود الأميركان في عملية سميت «إحلال الديمقراطية»، والهدف الحقيقي كان مواجهة النفوذ الفرنسي في تلك المنطقة التي تحولت إلى جحيم بفعل الاستعمار بعد أن كانت تسمى لؤلؤة البحر الكاريبي، وليس كما تدعي أميركا الحفاظ على الديمقراطية، فمن المعلوم أن أميركا هي التي دعمت الانقلاب في تشيلي على الرئيس سلفادور الليندي مع أنه وصل للحكم من خلال صناديق الاقتراع؛ ولكنه كان اشتراكي التوجه ويعارض الهيمنة الأميركية على دول أميركا اللاتينية، فقامت أميركا بدعم الجنرال أوجستو بينوشيه قائد الجيش عام 1973م الذي حاصر القصر الرئاسي وقتل الرئيس سلفادور الليندي ومن ثم استلم بينوشيه منصب الرئاسة حتى عام 1990م؛ ولكنه بقي القائد الفعلي للجيش حتى عام 1998م.
والخلاصة أن أميركا تحرص كل الحرص على إبقاء دول أميركا اللاتينية سوقًا لمنتجاتها وداعمة لسياستها في القارة والعالم، وتبذل الوسع في سد الطريق أمام كل من يحاول العبث في حديقتها الخلفية وجعلها منطلقًا للتشويش على السياسات الأميركية في العالم والقارة الأميركية، وكذلك تعمل على جعل هذه الدول وخاصة من تمتلك منها مقومات قادرة على جعلها دولًا قوية ومنافسة للسياسة الأميركية في القارة الأميركية مثل البرازيل، تعمل على جعلها دولًا تدور في الفلك الأميركي من خلال الخطط والأساليب التي ذكرناها خلال الموضوع إضافة إلى الأدوات وعلى رأسها منظمة الدول الأميركية التي سنختم الموضوع بمثال ذكرته وزيرة الخارجية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما هيلاري كلينتون في كتابها (خيارات صعبة) نوضح ونكشف من خلال هذا المثال كيفية الخبث الأميركي في استخدام هذه الأداة لتمرير سياستها في القارة وفرض هيمنتها ورؤيتها السياسية فيما يطرح من ملفات، وإن حاولت هيلاري التغطية بعض الشيء على ذلك.
في زيارة لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لهندوراس لحضور الاجتماع السنوي لمنظمة الدول الأميركية؛ حيث يتنقل عقد هذا الاجتماع بين دول القارة، وهذه المرة كان من نصيب هندوراس التي تعادل مساحتها مساحة ولاية مسيسيبي، ويقطنها حوالى 8 ملايين نسمة من أفقر الناس في دول أميركا اللاتينية.
وفي تلك القمة أرادت بعض دول أميركا اللاتينية التصويت على رفع تعليق عضوية كوبا في المنظمة والذي صدر عام 1962م، وشعرت أميركا أن ذلك ممكن أن يحصل حيث يحتاج رفع تعليق العضوية إلى موافقة الثلثين من الناحية التقنية (في قانون المنظمة يكفي رفض أي عضو لتعليق القرار) والكثير من دول أميركا اللاتينية ترى أن تعليق العضوية لم يعد له لزوم، ويجب إعادة كوبا إلى المنظمة وإلى الأسرة الدولية، ويتعاطفون معها في ظل الحصار الاقتصادي والعزلة السياسية المفروضة عليها. وفي المقابل أميركا لا تريد ذلك، ليس لمعاقبة كوبا حيث كان الرئيس أوباما قد وعد ببداية جديدة عند تسلمه رئاسة أميركا، وفعلًا تم استعادة البريد المباشر بين البلدين، وكذلك التعاون على عمليات الهجرة، وكان أوباما قد صرح أنه يجب تخطي المناقشات التي لا جدوى منها عن الحرب الباردة، وكان ذلك قبل هذه القمة، ولكن كما أوضحت هيلاري كلينتون في كتابها (خيارات صعبة) أن إصدار هذا القرار في هذا الوقت وبهذا الإخراج هو إفشال للخطة الأميركية التي تريد الأمر على مراحل ومقابل تنازلات، وأن يتم إخراجه بصورة أنها صاحبة القول الفصل في هذه القضية وجعل ذلك في وقت مناسب لتحقيق مكاسب سياسية على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وأيضًا ترى أميركا أنه يجب منع إصدار هكذا قرار من المنظمة في ظل رفضها لذلك؛ لأن في ذلك ليّ ذراع لها ومن الممكن أن يكون مدخلًا لتفلت دول أميركا اللاتينية منها في المستقبل؛ وبذلك وجدت أميركا نفسها أنها أصبحت أمام خيارين:
الأول: رفض أميركا لرفع تعليق عضوية كوبا في مواجهة موافقة الدول الأخرى، وهذا يظهرها بمظهر أنها معزولة في ساحتها الخلفية ولا يمنع نفاذ القرار. والثاني: القبول برفع تعليق عضوية كوبا وهذا يظهر أنها خضعت لقرار المنظمة وتم ليّ ذراعها وإهانتها، خاصة وأن الأخوين كاسترو حضرا القمة وأعربا عن عدم اهتمامهما بالانضمام للمنظمة؛ ولذلك بحثت أميركا عن حيلة للتخلص من هذين الخيارين، وكانت الحيلة بأن صرحت وزيرة الخارجية هيلاري: «نحن نتطلع إلى يوم تنضم فيه كوبا إلى المنظمة، ولكننا نعتقد أن العضوية في المنظمة يجب أن تترافق مع المسؤولية، ونحن مدينون بعضنا لبعض بها لدعم معاييرنا في الديمقراطية والحكم الرشيد مما يجعل قارتنا تحقق الكثير من التقدم، الأمر لا يتعلق بالماضي بل بالمستقبل، وعلى الأعضاء أن يكونوا صادقين ومخلصين للمبادئ التأسيسية لهذه المنظمة» أي جعل رفع تعليق العضوية مقابل شروط، وبما أن ذريعة تعليق العضوية تمسك كوبا بالماركسية اللينينية واصطفافها مع المعسكر الشرقي أصبحت من الماضي ومحل سخرية؛ فلا بد من البحث عن ذريعة أخرى.
وتم الخروج بذريعة جديدة بمساعدة كبير مستشاري هيلاري كلينتون لشؤون أميركا اللاتينية والمساعد الأيمن لشؤون نصف الكرة الغربي توم شانون، وهو ضابط كبير في وزارة الخارجية وخدم في عهود خمس إدارات، وتولى إدارة شؤون أميركا اللاتينية مع الوزيرة رايس – مما يبين مدى الاهتمام السياسي لأميركا بشؤون دول أميركا اللاتينية – وكانت الذريعة هي التركيز على انتهاكات حقوق الإنسان التي تتعارض مع ميثاق المنظمة؛ وبذلك وضعت أميركا خيارًا ثالثًا أو حلًا وسطًا على عادتها، وهو رفع تعليق العضوية بعد أن تقدم كوبا التماسًا بذلك وتتعهد بإجراء إصلاحات ديمقراطية، وقامت هيلاري ومساعدها بإقناع الدول التي لها تأثير مثل تشيلي برئاسة ميشيل باشليه، واتصل أوباما مباشرة بالرئيس البرازيلي لويز إيناس لولا وطلب منه دعم هذه التسوية للحفاظ على الديمقراطية، وانطلت هذه الحيلة الأميركية على الكثير من دول أميركا اللاتينية حيث ظنت بأن ذلك سيحل مشكلة، ولم يدركوا أن أميركا وضعت هذا الطرح وهي تعلم بأن ذلك سيغضب كوبا وسيدفعها لرفضه بشكل يظهر أن كوبا هي التي ترفض حل المشكلة وليس أميركا، وفي الوقت ذاته تفشل التحرك الفنزويلي النيكاراغوي لليّ ذراع أميركا بالتهديد بالانسحاب من المنظمة في حال لم يطرح الأمر للتصويت بالصيغة السابقة، وهو رفع تعليق العضوية دون شروط والذي لو طرح لحاز على موافقة معظم دول أميركا اللاتينية بما فيها البرازيل وتشيلي، وأيضًا تحبط المساعي الرامية إلى تفتيت المنظمة التي أنشأتها أميركا لتكون أداة فعالة في يدها حيث صرح رئيس هندوراس زيلايا أن اليوم الذي تم فيه التصويت على تعليق عضوية كوبا عام 1962م هو وصمة عار في تاريخ المنظمة، أما الرئيس النيكاراغوي دانييل أورتيغا فقال إن تصويت التعليق فرضه الطغاة، وأن منظمة الدول الأميركية لا تزال أداة لهيمنة أميركا، وهدد الفنزويليون والنيكاراغويون معًا: إما الدعوة فورًا للتصويت، وإما الخروج وترك المنظمة.
وبذلك نجحت السياسة الأميركية في تحقيق هدفها وهو الإبقاء على المنظمة متماسكة وتمرير سياستها من خلال المنظمة ؛حيث حصل ما أرادت ونجحت في قلب المعادلة، فبدل أن تكون هي في جانب وبقية دول أميركا اللاتينية في جانب آخر؛ أصبحت هي ومعظم دول أميركا اللاتينية في جانب، وجعلت هندوراس وفنزويلا ونيكاراغوا في جانب آخر حيث أظهرت أن المشكلة تكمن في كوبا وليس في الرغبة الأميركية بعدم رفع التعليق عن عضويتها؛ ونتج عن ذلك إبقاء كوبا خارج المنظمة بدل أن يتم ليّ ذراع أميركا بضم كوبا للمنظمة.
وهكذا تتلاعب أميركا بدول العالم وتقامر بمصير شعوبها حفاظًا على مصلحة أميركا فقط، وهي لا تألو جهدًا في ذلك ولو كان بسفك الدماء، ودعم تجار المخدرات، وإثارة النزاعات المسلحة، وإفقار الشعوب والأمم، ونشر الفوضى والدمار… ولا خلاص لدول أميركا اللاتينية من هذه المآسِي التي جلبتها عليهم رأس الشر أميركا – التي تتزعم النظام الرأسمالي القذر – وبمساعدة الحكومات المجرمة التي تبنت ذلك النظام – سواء في أميركا اللاتينية أم في غيرها – بدل أن تقف في وجه أميركا وتنبذ نظامها العفن. إنه لا خلاص لها وللبشرية جمعاء إلا بقيام دولة الإسلام دولة الخلافة التي تعيد أميركا إلى عقر دارها إن بقي لها عقر دار، وتخلص البشرية من شرورها وسمومها، وتنقذ العالم أجمع من النظام الرأسمالي الذي جلب عليهم الويلات والدمار، وتخلصهم كذلك من الحكومات التي تبنت ذلك النظام وقبلت به نظام حياة، وبالمقابل تحمل لتلك الدول والشعوب المستعبدة والفقيرة البديل الحضاري والمبدئي وهو النظام الإسلامي الذي وضعه خالق البشر لتخليص البشرية من الكفر والجهل والظلم والفقر والجوع وضنك العيش، وليس للسلب والنهب والسرقة والقتل ونشر الخراب والدمار لأجل حفنة قذرة من الرأسماليين وقلة قليلة من الدول الأنانية.
قال تعالى: ﴿قَالَ ٱهۡبِطَا مِنۡهَا جَمِيعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤ ﴾ .
2019-10-22