آن لخلافة الإسلام أن تحسم الصراع الحضاري مع الغرب وتنهي مأساة البشرية(1)
مناجي محمد – المغرب
إنه لحقيق أن يكون الأوان قد آن لأمة جعلها الله أمة وسطًا بين الأمم، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وأوجب عليها حمل الدعوة الإسلامية للعالم، أن يقتعد إسلامها العظيم مكانة الصدارة والقيادة، ويتدارك البشرية بالخلاص قبل أن تدفنها حضارة الغرب البائسة في قبرها السحيق الذي حفرته لها وتوردها الجحيم؛ وعليه فإيقاظ الفكر وإثارة القضايا الكبرى هو صلب الصراع الفكري والكفاح السياسي بسلاح الفكر المستنير لإعلاء كلمة الله في أرضه بشدخ نافوخ الكفر وتحطيم رأس الطاغوت وسحق ضلال وإلحاد وعدمية وعبثية حضارة الغرب البائسة القاتلة.
ويصبح الأمر من أوجب الواجبات في زمنٍ عزَّ فيه الفكر في حياة الناس حتى باتت سمات الواقع الذي يراد لنا ومنا أن نحياه في زمن الرويبضات زمن الملك الجبري وأقفاص سايكس بيكو واتفاقيات إيكس ليبان واتفاقيات إيفيان المسماة دولًا وطنية… هو الضحالة والتفاهة والتيه الفكري والاشتغال بسفاسف الأمور، حتى اختزل الفكر والثقافة في فن الطبخ ومهرجانات الموسيقى والرقص واللهو المخدر المقنن تحت مسمى الرياضة، أما القضايا الكبرى فبحثها وتناولها وإعمال العقل فيها يعتبر نشازًا إن لم يكن محظورًا.
إن الفكر هو سر حياة الأمم، فلولا الفكر لما تشكلت أجنة البشرية الأولى، فالتحولات المفصلية الكبرى في تاريخ البشرية أساسها هو الفكر. فالفكر هو طين الخلق للأمم والحضارات. فالنصرانية فكر، وهي التي تشكلت منها أوروبا النصرانية. واليهودية فكر، وهي التي شكلت اليهود. والبوذية والهندوسية والتاوية فكر، وهي التي شكلت شعوبًا من آسيا وشبه القارة الهندية والصين. والرأسمالية فكر، وهي التي شكلت الغرب. والشيوعية فكر، وهي التي شكلت شعوب الاتحاد السوفياتي ودول شرق أوروبا حينها، والإسلام فكر وهو الذي تخلقت منه الأمة الإسلامية والحضارة الإسلامية. فالفكر هو سر حياة الأمم والحضارات ومرتكز النهضة وأساس بناء الدول والمجتمعات ودونه خرط القتاد. وعليه سنتناول إحدى قضايا الفكر الأكثر خطورة والأبلغ وقعًا وأثرًا في تاريخ وحياة الأمم والشعوب، وهي الحضارات وطبيعة الصراع القائم بينها.
تحرير المصطلحات: الحضارة والصراع
إلا أنه في حقل الفكر، لا بد من تحديد دلالة الاصطلاحات حتى يتبلور الفهم ويدرك الواقع الذي عبر عنه الاصطلاح. ولا بد من ملحوظة تنبيه أن المصطلحات الرائجة اليوم في الحقل الفكري ملغومة بألغام السياسة من تمييع وإبهام وتعميم وتضليل تجعل معها الفهم متعسرًا، فإذا أضفنا أن مواضيع الفكر المشتغلة بقضايا الإنسان متأثرة بوجهة نظر الواضع فهي متحيزة بطبعها لكونها من الثقافة؛ لذا فالوقوف على الدلالات صحة وبطلانًا من حيث جذرها الفكري وانطباقها على الواقع الذي دلت عليه ذاك شرط في بحث الصحة والبطلان. فتلك إذًا أولى أبجديات الفكر في تحديد الدلالات والمصطلحات.
فالمصطلحات التي تعنينا اليوم في طرحنا هي مفهوم الحضارة والصراع. أما عن الحضارة ،فإذا اكتفينا بما تلقيه كلمة الحضارة في الأذهان من تقدم المجتمع البشري نكون قد جانبنا الصواب لأن الأمر يفتقد الدقة، والعمل الفكري هو كالمبضع في يد الجراح، خطؤه قاتل.
كما أن الدلالة اللغوية لا تفي بالغرض، فالحضارة لغة تنطق بكسر الحاء وفتحها ،وهي مشتقة من الحضر وهم سكان المراكز العمرانية، فهي تعني الإقامة في الحضر، وهي ضد البداوة، كما عرفها ابن منظور في معجمه لسان العرب. وعليه لا بد من الوقوف على دلالة الحضارة اصطلاحًا.
ظهرت الحضارة كاصطلاح في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وأول من استعمل المصطلح بمفهومه الفكري «فيكتور ركيتي» سنة 1756م، في كتابه «عقد الشعب» جاء فيه: «إن الدين بلا منازع هو الربيع الأول للحضارة». ثم بدأ المفهوم الاصطلاحي يأخذ منحى تركيبيًا أوسع بين مفكري الغرب، حتى باتت التيارات الفكرية الغربية تدور في فلكين من حيث التعريف، وبات التقسيم المعرفي كالتالي:
الفريق الأول: المدرسة الفكرية الألمانية ترى أن الحضارة هي المظاهر الفكرية الناجمة عن الثقافة كالعادات والتقاليد والعقائد والقيم والنظم… فالحضارة لها صلة وطيدة بوجهة النظر بالحياة. أصحاب هذا الرأي من أمثال «راتناو – توماس مان – وكيسرلنج…»لا ينظرون للعلوم والصناعات كجزء من الحضارة. فالحضارة تتمثل في الآداب والفنون والديانات والأخلاقيات… لذا من أقوالهم: «إن الحضارة هي التعبير عن الروح العميقة للمجتمع»… «الحضارة تعني ما نحن وليس ما نستعمل».
أما الفريق الثاني: المدرسة الإنجليزية، فلم تفرق بين الحضارة والمدنية، واعتبرت الحضارة بأنها الإنتاج الفكري والمادي للمجتمع. فالحضارة عندهم تشمل الآداب والفنون والعلوم والعمران… يقول أصحاب هذا الرأي على لسان ألبيرت سفيستر: «إن الحضارة هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير».
إلا أن القاسم المشترك عند المفكرين الغربيين أن الحضارة إنما هي الثقافة مكبرة، أي أن الحضارة خاصة،فكونها ثقافة مكبرة كناية عن الخصوصية، كون الثقافة هي المعارف المستنبطة متأثرة بوجهة النظر في الحياة والتابعة لها.
فالحضارة تشمل القيم والمعايير وطرائق التفكير وطرائق العيش السائدة في أمة من الناس.
إذًا، فالحضارة بمفهومها الشامل هي كل ما يميز أمة عن أمة من حيث العادات والتقاليد وأساليب وطرائق العيش والدين والقيم والأخلاق والآداب والفنون؛ لذا فالحضارة هي مجموع المفاهيم عن الحياة التي تطبع حياة أمة فيتشكل بها نمط عيشهم وقيمهم وقناعاتهم وعقائدهم وعاداتهم وأنظمتهم، فبطبيعة واقعها هي خاصة؛ لذا نقول: الحضارة اليونانية، والحضارة المصرية، القديمة وحضارة بابل، والحضارة الفارسية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية.
فالحضارة نمط عيش وطراز معين في الحياة ومفاهيم تسوغ المقاييس والقناعات والأحكام، وتتشكل بحسبها الأعراف والعادات وتتحكم بأنظمة الحياة وتشريعاتها، فهي خاصة إلى أبعد الحدود وأقصى المسافات. فالحضارات تتمايز وتختلف، ومن ثم تتنافس وتتصارع.
فالحقيقة، إن العلاقة بين الحضارات علاقة تنافسية تقوم على الصراع، ويحتد التنافس ويشتد الصراع كلما كانت الحضارة لها صفة العالمية حيث يصبح مجال الصراع العالم كله. وصفة العالمية متعلقة بطبيعة مفاهيمها عن الحياة، كونها للإنسان بوصفه إنسانًا وليست وليدة بيئة خاصة أو ظرف تاريخي معين.
فقيادة العالم وتشكيله حضاريًا هدف كل حضارة لها صفة العالمية أو تدعيها، فالصراع هو جوهر العلاقة بين الحضارات، فاختلاف العقائد والمقاييس وجملة التصورات عن الحياة هو مادة الصراع، فالقول بالتعايش سذاجة لأن التعايش لا يكون إلا ضمن منظومة فكرية واحدة، أي ضمن الحضارة الواحدة. فالتعايش يعني ضمنًا الانضواء تحت حضارة واحدة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بطمس وإلغاء الحضارة المنافسة.
يقول أحد سياسيي الإدارة الأميركية في ولاية كلينتون الأولى ديفيد روثكوبف في مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» لصيف 1997م: «إن سقوط الثقافات الأخرى هو عنصر قوة لحضارتنا، فهناك عناصر ثقافية هدامة وعائقة لتفوقنا يجب طمسها، منها الدين واللغة والعقائد السياسية والأيديولوجية للحضارات الأخرى، وهناك عناصر يجب دعمها كفن الطبخ والطقوس والموسيقى». ويقول المستشرق الأميركي برنارد لويس: «فعندما تصطدم حضارتان تسيطر إحداهما على الأخرى، قد ينبري المثاليون والمفكرون فيتحدثون بطلاقة وسهولة عن تزاوج بين أحسن العناصر من الحضارتين، إلا أن النتيجة العادية في هذا التلاقي هي تعايش بين أسوأ العناصر من الاثنين».
إن التنافس والصراع بطبيعته صراع أفكار؛ لأن الحضارة في حقيقتها الأولى منظومة فكرية تسوغ مفاهيم الحياة التي تطبع أمة بطابعها. وهذا الصراع الفكري هو أرقى تجليات العقل الإنساني؛ لأنه بحث عن الحقائق بدءًا بتفسير الوجود نشأةً وغايةً ومصيرًا، وانتهاءً بأنظمة الحياة التي تعتبر الحلول العملية للمشاكل الطارئة في حياة الناس ويتم ترجمتها نُظمًا من نظام حكم واقتصاد واجتماع وتعليم وقضاء وعلاقات دولية؛ لذا فالخونة الحقيقيون في يوم الناس هذا هم الذين يسعون إلى طمس هذا الصراع بين الحضارات؛ لأن ذلك يعني شل حركة الفكر وإعمال العقل بحثًا وتمحيصًا وتدقيقًا في الجذور الفكرية للحضارات، ومن ثم نقض الباطل منها والاهتداء إلى أحقها بقيادة البشر، ومن ثم تبنيه والعمل به والسعي لنشره. بل هؤلاء يسعون حقيقة إلى تنميط البشر حسب نمط وطريقة الحضارة الغربية.
والحقُّ ما قاله ربنا جلَّ وعلا: (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ٤٠).
فموضوع الحضارات ومادتها وصراعها ليس ترفًا فكريًا ولا بحثًا أكاديميًا ولا دردشة مثقفين، فموضوعها ومادتها وصراعها هي المفاهيم المتعلقة بحياتنا كبشر، بدءًا بتفسير الوجود نشأةً وغايةً ومصيرًا، تلك هي العقائد، وهي أعلى أنواع المفاهيم، وهي الأسس الفكرية، ثم مقاييس الخير والشر والقبح والحُسن المتحكمة في قيمنا وأخلاقنا وأنظمتنا، فنحن في صلب وجوهر حياتنا كبشر، تلك هي الحضارة. فهي مهتمة بحياتنا وتتدخل في أدق تفصيلاتها، وإن لم نهتم نحن بها.
والذي يعنينا اليوم هما حضارتان متصارعتان إحداهما عالمية بطبيعة رسالتها العالمية وتحديدًا الحضارة الإسلامية. يقول المولى جلَّ وعلا: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ٢٨)، (تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا )، (إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٨٧ وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۢ٨٨). والثانية حضارة تسعى لعولمة مفاهيمها عن الحياة، وهي الحضارة الغربية أو الحضارة الرأسمالية نسبة للمبدأ الرأسمالي الذي تخلقت منه، وقولنا عولمة أي سعيها لتصيير الخاص عامًا والمحلي عالميًا (Globalisation) وذاك حالها. فهي حضارة وليدة بيئة وظروف تاريخية أفرزتها إشكالات الإنسان الأوروبي تحديدًا مع كنيسته ورجال دينه وقياصرته وملوكه، ذاك ما ترجمه جذرها الفكري الأول تحت تعبير «فصل الكنيسة عن السلطة»، والتعريف الشائع غربيًا «فصل المؤسسات الدينية (الكنيسة) عن المؤسسات السياسية (الدولة)»، وتطور المفهوم ليصبح فصل الدين عن الدولة والحياة. فمثلًا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أي تلك الديباجة المكوَّنة ابتداء من 30 مادة، تم اعتماده من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 1948م، وقبل هذه السنة حتى دول المرجع لم تكن تعتبره قانونًا عامًا دوليًا، وبعد أن بات أداةً من أدوات السياسة الخارجية الغربية في بسط النفوذ والهيمنة تمت عولمته. فهاتان الحضارتان هما مادة الصراع. ولا بد من الوقوف على حقيقتهما حتى يتسنى معرفة حقيقة كلتا الحضارتين وطبيعة الصراع القائم اليوم بين الإسلام وأهله والغرب ورأسماليته.
فالحضارة الغربية الرأسمالية أساسها العقائدي وجذرها الفكري الذي انبثقت عنه مفاهيمها عن الحياة هو فصل الدين عن الحياة، وإنكار أن للدين أثرًا في الحياة. فنتج عن ذلك فكرة فصل الدين عن الدولة لأنها طبيعية عند من يفصل الدين عن الحياة وينكر وجوده فيها. وعلى هذا الأساس قامت الحياة الغربية وقام نظام الحياة عندهم. فدلالة فصل الدين عن الحياة (ما اصطلح عليه عربيًا بالعلمانية) في الخطاب السياسي والاجتماعي والفلسفي الغربي، ترجمها أول تعريف فكري لصاحبه (جون هوليوك): «الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الدين، سواء بالقبول أم بالرفض». وفصل الدين عن الحياة هي رؤية أساسية شاملة يتفرع عنها منظومات معرفية وقيمية، فهي عقيدة الفكر الغربي وأساس حضارته. يورد قاموس (أكسفورد) في تعريفه لفصل الدين عن الحياة: «العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد من أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة (الدنيا)، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى (الآخرة)». وكما يعرفها المعجم الاجتماعي باعتبارها منظومة متكاملة تحتوي على ميتافيزيقا واضحة ورؤية شاملة للكون، وأن العلمنة تترجم اجتماعيًا عبر مظاهر الحياة التالية:
1- انحسار الدين وتراجعه (العقائد، الطقوس، الرموز، المؤسسات الدينية تفقد مكانتها ونفوذها…).
2- الفصل بين المجتمع والدين.
3- التركيز على الحياة المادية في الوقت الراهن بدلًا من التطلع إلى مستقبل روحي.
4- اضطلاع منظمات غير دينية بالوظائف الدينية.
5- اختفاء فكرة المقدس (التفسير المادي للإنسان والطبيعة).
6- إحلال المجتمع العلماني المادي محل المجتمع المتصل بالمقدس (أي النظر إلى جميع الظواهر من منظور مادي بحت).
الخلاصة، إن فلسفة فصل الدين عن الحياة هي فلسفة مادية بحتة.
أما المقياس الذي على أساسه توضع الرؤى والقيم والتصورات فهو النفع المادي المحض، وينظر للحياة من منظور مادي نفعي بحت مجرد من أي قيمة روحية تصلك بالإله أو خلقية أو إنسانية. وبناء على النظرة المادية، فأي قيم معرفية خارج إطار المادة لا معنى لها، وإن القانون الأسمى نابع من قوانين المادة أي قوانين فيزياء الأجسام المادية وكمياء العناصر المادية التي بها يفسر السلوك الإنساني والاجتماعي؛ فتصبح المحصلة المادية للحياة الإنسانية ما هي إلا معادلات وأرقام وبيانات، وأن المنفعة المادية من ربح وخسارة ولذة (إشباع شهوات واستهلاك) هو السبيل للبقاء المادي والطريق للسعادة، وعليه فالتفسير المادي للسعادة هو إعطاء الإنسان أكبر قسط من المتع الجسدية وتوفير أسبابها له (إنتاج واستهلاك للذة). وهكذا انتهت الحضارة الغربية في التحليل الأخير إلى حضارة مادية نفعية محضة خالية ومجردة من كل قيم روحية أو خلقية أو إنسانية.
أما الحضارة الإسلامية فإنها تقوم على أساس هو النقيض من أساس الحضارة الغربية الرأسمالية، ونظرتها للحياة نقيض نظرة الحضارة الغربية، ومفهومها للسعادة غير مفهومها في الحضارة الغربية، فبذرتها وجذرها الفكري روحي موصول بالله سبحانه وتعالى.
فالحضارة الإسلامية تقوم على أساس الإيمان، أي التصديق الجازم المقطوع بصحته حجة وبرهانًا أن الوجود من «كون وإنسان وحياة» مخلوق لخالق خلقه من عدم، ودبر شؤون خلقه بنظام بديع يسير الخلق بموجبه. قال تعالى:(بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ)، ( إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ)، ( أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ ٣٥ أَمۡ خَلَقُواْ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ٣٦ ). وختم بلاغه وهديه وإرشاده لخلقه بإرسال خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بشرعه وهديه لخلقه: (وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٢٣)
وعليه كانت عقيدة الإسلام هي الأساس في البناء الحضاري الإسلامي، فهي القاعدة الفكرية التي تنبثق عنها الأحكام الشرعية والقيادة الفكرية التي تحدد وجهة النظر في الحياة ونمط العيش والزاوية الخاصة للحكم على الأفكار والوقائع والأحداث، أي أن الحضارة الإسلامية تقوم على أساس العقيدة الإسلامية، فهي جذرها الفكري وقاعدتها الفكرية الأساسية التي تنبثق عنها كل المفاهيم عن الحياة، فهي قائمة على أساس الصلة بالله، فهي لا تنفك عن هذا الإيمان، فالصلة بالله روحها، فلا وجود للحضارة الإسلامية إلا بوجود هذه الصلة بالله، فذاك جذرها وأساسها الفكري.
فتصوير الحياة ومقياس الأعمال في الحضارة الإسلامية منبثق عن العقيدة الإسلامية، فهو يوجب على المسلم تسيير أعماله بأوامر الله ونواهيه، فإدراك الصلة بالله حين القيام بالعمل من كونه حلالًا أو حرامًا تلك هي فلسفة الحياة ونمط العيش ومقياس الأعمال، أي أن الحلال والحرام هو مقياس الأعمال وليس النفعية مطلقًا. قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا٦٥ ).
فالصلة بالله لا تنفك عن أعمال المسلم. فلا مجال للفصل البتة، أي لفصل الإسلام عن حياة المسلم، فذاك موجب لسخط الله ومحادَّة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغاية من ربط الصلة بالله حين تسيير الأعمال بناء على الحلال والحرام، أي الالتزام بأوامر الله ونواهيه، هو مرضاة الله وليس النفعية مطلقًا، وبناء عليه كانت السعادة في الحضارة الإسلامية هي نيل رضوان الله واستحقاق نعيمه المقيم جنة عرضها السماوات والأرض، فذاك مبتغى كل مسلم، وذاك منتهى الأماني، والسعادة في الإسلام نابعة من الإيمان، فأساسها يقين، وهي موجبة قطعًا للطمأنينة الدائمة. قال تعالى: (فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ)، (أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ). والخلاصة، إن الحضارة الإسلامية قائمة على أساس روحي نقيض تام للأساس المادي في الحضارة الغربية. فالصراع حتمي، وذاك ما يدركه الغرب ويعمل بناءً عليه.
حتمية الصراع الحضاري
إن حتمية الصراع تمليها حيوية وديناميكية أي حضارة ذات طابع عالمي، وكيانها الذاتي الذي يعبر عن مفاهيمها الخاصة للحياة البشرية. فالإسلام العظيم يقرر هذه الحقائق، فمن أعلى واجباته تغيير وجه العالم حضاريًا بإخراج الناس من ضلال عبادة المخلوقات إلى هداية عبادة رب المخلوقات، ومن جور الأديان والمبادئ الوضعية إلى عدل الإسلام ورحمته، وأن الصراع سنة الله في خلقه لإعلاء الحق وإزهاق الباطل لتكون كلمة الله هي العليا. قال جلَّ وعلا: (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ). وقال جل وعلا: (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ). وقال جل وعلا: ( كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ). وقال جل وعلا: ( فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ). قال ابن عباس رضي الله عنه جاهدهم به يعني بالقرآن.
فالصراع حتمي وذاك ما يدركه الغرب ويعمل بناء عليه. أشار المؤرخ الفرنسي Fernand Braudel في كتاب «المتوسط والعالم المتوسطي» إلى الحضارات وصراعها، ففي فصل بعنوان لافت «الحضارات فردوس البشر وجحيمهم» يقول «يحتوي المتوسط على ثلاث حضارات هائلة، وثلاث مجموعات ثقافية، وثلاثة أنماط أساسية في الاعتقاد والتفكير والعيش والأخلاق… متجسدة في ثلاث شخصيات لا نهاية لأقدارها، وكانت دائمًا قائمة منذ قرون وقرون، متجاوزة حدودها وحدود الدول التي لا تشكل إلا لباسًا لها… الحضارة الأولى هي الحضارة الغربية – وعلى الأصح اللاتينية أو الرومانية… الحضارة الثانية هي الحضارة الإسلامية. والغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس، إنهما عدوان متكاملان…….»
وفي عام 1947م، ألقى المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي محاضرة بعنوان «الصراع بين الحضارات» تم تضمينها في كتاب «الحضارة في الميزان» وقد بنى عليها فيما بعد صامويل هانتنغتون الأستاذ في جامعة هارفارد ومستشار الرئيس الأميركي كارتر مقالته الشهيرة في مجلة «فورين أفيرز» نشر المقال سنة 1993م، وأعيد صياغته في كتابه الذي صدر بعد 3 سنوات 1996م، تحت عنوان «صدام الحضارات» The Clash of Civilisations. أما توينبي فيرى أن الحادثة الكبرى والأهم في القرن العشرين والتي سيقف عندها المؤرخون كثيرًا في القرون المقبلة هي اصطدام الحضارة الغربية بسائر المجتمعات الأخرى القائمة في العالم، وأن الخطوة الأولى نحو توحيد العالم حسب النمط الحضاري الغربي لن تقف في وجهه الفنون ولا الصناعة ولا الاقتصاد ولا السياسة. ولكن العقبة الكأداء هي الدين. وينظر إلى الدين على أنه المعتقد الرئيسي والمرجع الأساسي في قيام الحضارات.
وكذلك يرى خلفه صامويل هانتيغتون؛ إذ يرى أن الفروق بين الحضارات هي فروق أساسية تتلخص في التاريخ واللغة والثقافة، والأهم هو الدين، فالدين مركزي في العالم الحديث وربما كان هو القوة المركزية التي تحرك الناس وتحشدهم، وهذه الفروق الثقافية ليست قابلة للتبديل أو الحلول الوسط… وبناءً على ذلك سيحدث صدام بين الحضارات. فالصراع القائم اليوم أملته وفرضته على الغرب حيوية الإسلام العظيم، فبذرة عقيدته الجبارة تأبى الموت، ما لبثت أن تخلقت منها ثلة من الواعين المخلصين الأتقياء الأنقياء الذين أعادوا للفكر الإسلامي حيويته ورونقه، وجلَوا حقيقته المبدئية وتصوره الحضاري وطريقة فعله في حياة البشر، فصنَّفوا بحق كل ما يلزم لاستئناف الحياة الإسلامية ولحمل الإسلام كقيادة فكرية وبديل حضاري للبشرية، وأصَّلوا للحل الجذري الصحيح لمشكلة البشرية.
وهذه الثلة في تصورها العميق للإسلام العظيم فكرة وطريقة وفهمها العميق للواقع، حددت غايتها ورسمت طريقة تحقيقها وطبيعة مهمتها، ثم خاضت صراعها الفكري وكفاحها السياسي لتحقيق غايتها على بصيرة، فتصدت للفكر الغربي بشقيه الرأسمالي والشيوعي، فجلت حقيقته وهدمت أسسه وبينت بطلانه وفساد أنظمته. وكشفت سياسات الغرب وفضحت استعماره ووحشيته. وما إن تبدت أحاسيس النهضة على أساس الإسلام تظهر على الأمة الإسلامية حتى جن جنون الغرب، فكيف لحضارة سادت ثم انمحى أثرها بهدم كيانها الخلافة أن تعود، وهو يرى جبروت الإسلام العظيم في سحق فكره، وهو الذي بيده السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام والحكام والعساكر، والمتحكم في تفاصيل الحياة في البلاد الإسلامية. والذي عمق جنون ومأساة الغرب هو المأزق المعرفي الذي وصل إليه الفكر الغربي. فمادة الصراع الحضاري هي الفكر، وأزمة الغرب الفكرية جعلته عاريًا مجردًا من سلاح الفكر اللازم لخوض الصراع الحضاري، فتحوَّل بفعل عجزه الفكري وأزمته المعرفية في مواجهة استحقاقات الصراع الحضاري مع الإسلام العظيم في الإجابة على الإشكالات الكبرى للحياة الإنسانية إلى آلة قتل تحركه غريزة البقاء ليس إلا.
خصص المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية أحد موضوعاته الرئيسية في التقرير السنوي الصادر عنه سنة 1987م لبحث تحت عنوان «الإسلام: قوة جديدة في العلاقات الدولية» فحلل نتائج العودة المشهودة للإسلام في العالم الإسلامي وانعكاساتها على العلاقات الدولية، وذكر التقرير أن الدول الكبرى عاجزة نظريًا عن مواجهة تيار يزداد ضدها، ويعتزم التطور على حساب نفوذها، وسماه التقرير بـ«الظاهرة الإسلامية الأصولية». [يتبع]