مع القرآن الكريم
2019/09/19م
المقالات
8,589 زيارة
( ۞قَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ وَمَغۡفِرَةٌ خَيۡرٞ مِّن صَدَقَةٖ يَتۡبَعُهَآ أَذٗىۗ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٞ ٢٦٣ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٦٤ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۢ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فََٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢٦٥ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَابٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ لَهُۥ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَأَصَابَهُ ٱلۡكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّيَّةٞ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعۡصَارٞ فِيهِ نَارٞ فَٱحۡتَرَقَتۡۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ٢٦٦)
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي::
يبين الله سبحانه في هذه الآيات ما يلي:
-
تعقيبًا على ما سبق من آيات تبين وجوب الإخلاص لله في النفقة في سبيل الله دون أن يُتبعها المنفق منًا ولا أذًى؛ فإن الله سبحانه في هذه الآية ( ۞قَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ وَمَغۡفِرَةٌ ) يؤكد للمسلمين أن الكلمة الطيبة والدعاء أفضل عند الله من صدقة – وهي هنا الصدقة – بوجه عام الفرض والتطوع، يتبعها أذًى ومنٌّ على المنفَق عليه.
ويختم الله سبحانه الآية بأنه غني عن الصدقة التي يخالطها منّ وأذًى، وحليم بعدم تعجيل العقوبة للذين يمنّون في صدقتهم ويؤذون.
( ۞قَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ ) كلام طيب جميل، وصحّ الابتداء بالنكرة (قول) لاختصاصها بالوصف (معروف) مما جعلها في حكم المعرفة.
( حَلِيمٞ ) لا يعجل بالعقوبة كما بيناه سابقًا في هذا التفسير.
-
ثم يخاطب الله المؤمنين أن لا يبطلوا الصدقات بالمنِّ والأذى، وليس هذا تكرارًا مجردًا للآيتين السابقتين، بل في كلّ آية معنى جديد، ففي الآية الأولى ( ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُون٢٦٢َ) تبين أن هذا الأجر هو للذين ينفقون دون منّ وأذى، والآية الثانية ( ۞قَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ وَمَغۡفِرَةٌ خَيۡرٞ مِّن صَدَقَةٖ يَتۡبَعُهَآ أَذٗىۗ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٞ ) تبين التفاضل بين الحالتين: قول معروف وصدقة يتبعها أذى.
وهذه الآية ( لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ) تبين أن المنَّ والأذى يبطل الصدقة.
فالأولى: أن الأجر شرطه عدم المنِّ والأذى.
والثانية: أن القول الطيب أفضل من الصدقة مع المنِّ والأذى.
والثالثة: أن المن والأذى يبطل الصدقة لإزالة الالتباس عن فهم الآية الأولى بأن الزكاة أو النفقة في الجهاد قد تجزئ ولكن دون أجر، فأبعدت الآية المذكورة ( لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم ) احتمال أن تجزئ الصدقة مع المنِّ والأذى، وأفادت بطلان الصدقة في هذه الحالة.
بعد ذلك يضرب الله مثلًا لمن ينفق ماله رئاء الناس دون أن تكون نفقته خالصة لله واليوم الآخر، فالنفقة في هذه الحالة كتراب على حجر أملس ينزل عليه مطر شديد فيزيل كل ما علق به، أي أن هذه النفقة لا قيمة لها ولا وزن ولا تفيد صاحبها أجرًا عند الله، وكذلك لا يستطيع صاحبها أن يعيدها إليه أي لا ينتفع بها دنيا أو آخرة.
ثم يختم الله سبحانه الآية بأن الكافرين ليسوا على هدًى من الله بل هم في ضلال مبين.
( لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ ) أي لا تبطلوا – أيها المؤمنون – صدقاتكم بسبب المن والأذى، كإبطال المنافقين لنفقتهم بسبب ريائهم وعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، أي نفاقهم.
( كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ ) أي حجر كبير أملس.
( عَلَيۡهِ تُرَابٞ) أي شيء يسير منه.
( فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ ) أي مطر شديد.
( فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ ) أي أملس ليس عليه شيء.
( لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْ ) أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا رياء، ولا ينتفعون به قطعًا حيث لا يستطيعون إعادته؛ فيخسرونه دنيا لأنه خرج من أيديهم، ويخسرونه آخرة لأنهم أنفقوه رياءً ونفاقًا فلا أجر لهم عليه.
-
ويضرب الله مثلًا للذين ينفقون إخلاصًا لله وابتغاء رضوانه بأن نفقتهم كبستانٍ مثمرٍ في كل الحالات، إن أصابه مطر شديد كان ثمره مضاعفًا، وإن لم يصبه إلا رذاذٌ قليل كالندى فإنه يكفيه ويثمر الثمر المعتاد.
هذا تمثيل لقبول صدقات هؤلاء المخلصين لله، في كل حال، كثيرة كانت أو قليلة، فهي زكية طيبة عند الله.
ثم يختم الله سبحانه الآية بأنه تعالى بصير يعلم حقيقة العمل من حيث إخلاصه لله وصدق النية فيه ( وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ٢٦٥ ).
( يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ ).
( ٱبۡتِغَآءَ ) أي طلب مرضات الله، وهو منصوب على الحال.
و( وَتَثۡبِيتٗا ) معطوف عليه، وهذا أرجح من القول بنصبه على المفعول لأجله؛ لأنه لو كان كذلك لكان (تثبيتًا) معطوف عليه في معنى المفعول لأجله، وهذا يخالف المعنى المقصود، فإن الإنفاق من قبل المؤمنين ليس من أجل تثبيت أنفسهم، أي أنهم ليسوا ثابتين فأنفقوا لأجل أن يثبتوا، بل هم ينفقون في حال أنهم ثابتون على الحق، أو في حال أنهم يريدون التثبت من وقوع نفقتهم في الموقع الذي يرضي الله، وكلاهما قرينة على رجحان النصب على الحال من كونها نصبا على المفعول لأجله.
( كَمَثَلِ جَنَّةِۢ بِرَبۡوَةٍ ) (الجنة) البستان. و(الربوة) المكان المرتفع يسيرًا يغلب عليه التراب وهو أجود للنبات.
( أَصَابَهَا وَابِلٞ ) أي مطر شديد.
( فََٔاتَتۡ أُكُلَهَا ) أي أعطت ثمرها.
(ضِعۡفَيۡنِ ) أي أعطت ضعفي ثمر غيرها من الأرضين.
( فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ ) أي فمطر ضعيف رذاذ كالندى، وهو يكفيها لتعطي ثمرها المعتاد.
فإن أصابها وابل آتت أكلها ضعفين، وإن لم يصبها وابل فطل وتعطي أُكُلها المعتاد، أي أنها مثمرة في جميع الحالات.
-
ثم يضرب الله سبحانه مثلًا آخر لأولئك الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى زيادة على المثلين الأولين:
فالمثل الأول: فيما سبق من آيات كالمنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس.
والمثل الثاني: كحجر صلد عليه تراب فأصابه مطر شديد فلم يُبقِ عليه شيئًا.
والمثل الثالث في هذه الآية: كرجل له بستان عظيم فينتفع به ويقضي به حاجاته، فلما بلغ منه الكبر مبلغه ولم تكن له ذرية بالغة تعينه في حياته، في هذا الوقت يحترق البستان فمصيبته عظيمة فهو لا يستطيع لكبره إصلاحه أو إنشاء مثيل له، وكذلك ذريته الصغيرة لا تستطيع أن تعينه في الكسب، فهي مصيبة فادحة قاتلة.
فالذي يبطل صدقاته بالمن والأذى كالذي يحترق مصدر عيشه الوفير وهو في أشدّ الحاجة إليه.
وهو مثل حسيّ فبدل أن ينتفع المرء بصدقاته، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، تراه يبطل تلك الصدقات فلا تنفعه كمن يحترق بستانه وهو في أشدّ الحاجة إليه.
وهو كذلك مثل عام لمن يعمل الخير ثم يختمه بعمل الشر فيحرق ذلك الخير ويبطله.
أخرج البخاري عن عبيد بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فيم ترون نزلت هذه الآية ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَابٖ ) قالوا: الله ورسوله أعلم. فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضُربت مثلًا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله – عز وجل – له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله. وفي رواية: فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء. فرضي ذلك عمر”[1].
( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمۡ ) أيحب أحدكم؟ والهمزة للإنكار.
( فَأَصَابَهَآ إِعۡصَارٞ ) الإعصار ريح تستدير على نفسها شديدة، وتسمى الزوبعة كذلك.
( فِيهِ نَارٞ ) النار: السَّموم أي حر شديد.
ويختم الله سبحانه الآية بالحث على التفكر فيما يضربه الله من أمثال لاتخاذ العبرة والذكرى ( كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ ٢٦٦ ).
[1] البخاري: 4538
2019-09-19