فساد الحضارة الرأسمالية وقرب انهيارها (1)
من خلال تتبع دروس التاريخ واستقرائه، تظهر سلسلة من صعود ومن ثم سقوط حضارات كبرى. لفت هذا الواقع نظر كل من الدوائر الأكاديمية الرصينة والسياسية وحركات التغيير الاجتماعي- السياسي لأسباب ودوافع وشروط صعود تلك الحضارات واندراسها وسقوطها. هذه الورقة أو المقالة تركز على الحضارة الرأسمالية الغربية، وتبحث في صعودها ومجالات انهيارها وشروط سقوطها بالاعتماد على فهم واقع الحضارة ودرس التاريخ، في محاولة لاكتشاف «قوانين» أو سنن سقوط حضارة وولادة أخرى مغايرة.
الفكرة الأساسية التي نهضت عليها هذه المقالة هي أن انهيار أو استبدال الحضارة يحدث إذا تبين للناس فسادها أو فشل نظامها في حل مشاكلهم المجتمعية، وهناك ثلاثة خيارات للاستبدال الحضاري:
o أن يقوم أهل الحضارة الفاسدة بإصلاح وتطوير حضارتهم بشكل ذاتي.
o أن يتبنَّوا طوعًا حضارة أخرى خارجية أكثر صلاحًا لعيشهم.
o أن تفرض عليهم حضارة من قوة خارجية عنهم فيرَون صلاحها ويأخذون بها.
وتسعى هذه المقالة إلى تبيان أن فساد الحضارة الرأسمالية أمر مقَرٌّ به حتى عند أهلها، ولكنها مع فسادها لن تسقط من تلقاء نفسها، ولا بد من استبدال حضارة أخرى بها، فإما أن تتطور هذه الحضارة من أهلها وهذا غير قائم، وإما أن يتبنى أهل الرأسمالية حضارة أرقى منها كالإسلام وهذا غير مطروح عندهم، وإما أن تتدافع مع حضارة أخرى فتطيح بها وهذا غير موجود حاليًا. وبالتالي فلا خلاص للعالم من فساد الرأسمالية وشرورها إلا بالتدافع معها، ولا مرشح لذلك سوى أهل الإسلام وفقًا لما تقتضيه سنن الله التي مضت في الأمم، وسينتهي فسادها بفرض دولة الإسلام حضارتها عليهم طوعًا أو كرهًا.
-
في السياق التاريخي:
انهارت حضارة أوروبا الصليبية حضارة العصور الوسطى خلال القرن السادس عشر الميلادي وما تلاه، واستبدل بها الأوروبيون حضارة جديدة هي حضارة الرأسمالية العلمانية التي فصلت دينهم النصراني عن الحياة، فأصبحت هذه الحضارة الرأسمالية الجديدة هي حضارة أوروبا، بعد صراع رهيب ومرير بين المفكرين والفلاسفة والعلماء في أوروبا، عدا عن الانتقال الحضاري السلمي في بريطانيا، مع القياصرة والملوك والكنيسة، حتى تبلورت لديهم حضارة جديدة غيرت طريقة عيشهم تغييرًا جذريًا وشاملًا، ونهضت بهم فكريًا، وارتفعوا في مجال المدنية.
ولكن وبعد تطبيق المبدأ الرأسمالي الجديد في أوروبا، بدأت عوراته وإشكالياته وسوء معالجاته لمشاكل الحياة تُلمس في كافة مناحي الحياة، وتزداد التحديات لطراز العيش، وتتصاعد النظرة والقناعة في أوساط الشعوب والمفكرين والسياسيين الأوروبيين بأن النظام الرأسمالي ظالم ولا إنساني، وغدا كائنًا شرهًا لا يشبعه شيء، فهو لا يعلي إلا قيمة الربح المادية والأنانية، ويقوم بتسليع (من سلعة) كل علاقة وكل قيمة ماديًا، فقامت الانتفاضات والاحتجاجات في أوروبا ضد هذا النظام الظالم، الذي يقوم بمحاباة عتاة الرأسماليين وشركاتهم، ويتم اختطاف سلطان الدولة لخدمة مصالح كبار الرأسماليين وشركاتهم، لضمان أرباحهم دون رحمة بـ«الطبقات» والفئات الفقيرة نتيجة لسياسات السوق الرأسمالي التي زعموا أنها تحقق العدالة في توزيع الثروة.
وهذا الفساد الظاهر في الرأسمالية بدوره حفز مجموعة من الفلاسفة والمفكرين في أوروبا – مرة أخرى – لإعادة النظر في هذا المأزق الحضاري والحاجة لاستبدال حضارة أكثر صلاحًا وعدالة بهذه الحضارة الفاسدة، فظهرت النظريات الاشتراكية المختلفة وعلى رأسها الشيوعية على يد كارل ماركس. أما الإعلان الفعلي لفساد الحضارة الرأسمالية فكان بقيام دولة حملت حضارة شيوعية معادية للرأسمالية في الاتحاد السوفياتي على يد لينين مع نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1917م، واحتدم الصراع بين الحضارتين وكادت الحضارة الشيوعية أن تطيح بالرأسمالية؛ حيث تمثل فيها البديل الحضاري عمليًا بقيامها على فكرة العدالة الاجتماعية والمسؤولية عن الغير. وكان هذا الصراع مؤذِنًا بأفول نجم الحضارة الرأسمالية ثم انهيارها.
-
بين فساد الحضارة وانهيارها
مع ثبوت فساد أفكار الحضارة الرأسمالية في أوروبا – في التطبيق العملي – منذ أواسط القرن التاسع عشر، ثم رجحان انهيارها واقعيًا بضمها بالقوة إلى دول المعسكر الشرقي والحضارة الشيوعية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذه الحضارة نجت من الانهيار، بأن أنجدت أوروبا «دولة عالمية» جديدة حملت لواء الحضارة الرأسمالية ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث قامت بإسناد أوروبا سياسيًا وعسكريًا، وأوقفت اكتساح الحضارة الشيوعية لها. فكانت أميركا هي من أنقذ أو هي من منع انهيار هذه الحضارة عمليًا.
من زاوية أخرى فقد أدى تطبيق المبدأ الشيوعي في المجتمعات التي تبنت حضارته إلى انحدار في الإنتاج الفكري والمادي، وإلى تأخر اقتصادي، وإلى ديكتاتورية سياسية قمعية وظلم شديد للناس، ثم فشل هذا المبدأ في التطبيق العملي أمام التحديات الداخلية والخارجية. ومع التدافع الحضاري والسياسي بين منظومتي الحضارة الشيوعية والرأسمالية خلال فترة الحرب الباردة رجح ميزان الحضارة الرأسمالية بقيادة أميركا. ثم ما لبثت أن انهارت الحضارة الشيوعية والأمم التي قامت عليها في أواخر الثمانينات من القرن العشرين. فكانت الرأسمالية هي المهرب الوحيد أمام هذه الشعوب من جحيم المبدأ الشيوعي وفشله المدوي.
يقول حزب التحرير في كتاب نقض الاشتراكية الماركسية في صفحة 101 ما نصه: «وأوروبا الشرقية في الوقت الذي يتزحزح عنها كابوس الحكم الاشتراكي الماركسي ترجع لأفكار الرأسمالية وتتبع نظام الحريات، وهذا ليس خرقًا للطبيعة «أو السنن المجتمعية» وإنما هو المنسجم مع الواقع، في أن كل شعب إنما يسير في الحياة حسب ما لديه من أفكار، وحتى روسيا الآن التي تسير على الاشتراكية الماركسية تخشى من أن ترجع إليها أفكار الرأسمالية، فتقاوم الفكر بالحديد والنار؛لأنها تثق أنه إذا أصبحت الأفكار الرأسمالية في روسيا هي الطاغية فلا شك أن النظام الاشتراكي الماركسي سينسف، وسيحل محله النظام الرأسمالي». لقد سطّر الحزب هذا الكلام سنة 1963م، بنظرته الثاقبة الفذة المستنيرة للواقع، أي قبل انهيار الحضارة الشيوعية بعقود؛ لأن هذه هي سنة الله في الحضارات والمجتمعات، وسنن الله لا تتبدل ولا تتحول.
-
هل انهيار الشيوعية هو دليل صحة الرأسمالية؟
لقد أصابت النشوة أهل الحضارة الرأسمالية مع انهيار الحضارة الشيوعية، فقام فيهم مفكرون مثل «فوكوياما» في أميركا يعلنون نهاية التاريخ وانتصار حضارة الرجل الأبيض؛ حيث زعم أن هذه الحضارة قد بلغت القمة في التطور و«التقدمية»، وهي تمثل خلاصة التجربة البشرية في أنظمة الحكم الديمقراطي واقتصاد السوق الحرة، وغدت الممر الإجباري لنهاية تطور أي شعب وأي حضارة أخرى.
ولكن هل من الصواب الاستنتاج بأن فشل الحضارة الشيوعية وسقوطها، يعني بالضرورة صحة وجدارة الحضارة الرأسمالية بطبعتها الأميركية، لتكون هي الحضارة الأسمى للإنسان، كما زعم فوكوياما؟
-
هل الحضارة الرأسمالية صحيحة أم فاسدة؟
إن كل شعب إنما يسير في الحياة حسب ما لديه من أفكار، وتتولد حضارته عن هذه الأفكار كما يطبق النظام المنبثق عنها، فتوجد له طريقة معينة في العيش. وإذا غُيرت هذه الأفكار تغير النظام وتغيرت الحضارة. فالحضارة إذًا هي مجموعة المفاهيم عن الحياة، وهي تقوم على ثلاثة أمور هي: الفكرة الأساسية، وتصوير الحياة، ومعنى السعادة. وصحة أو فساد هذه الحضارة تتوقف على هذه الأركان الثلاثة، فلا بد إذًا من تقييم صحة هذه الأمور أو فسادها من زاوية النظرة الإنسانية الشاملة.
أما الفكرة الأساسية أو وجهة النظر التي تقوم عليها الحضارة الرأسمالية فهي فصل الدين عن الحياة. وهذه العقيدة العلمانية الرأسمالية هي فاسدة في حقيقتها؛ لأنها لا تقنع العقل ولا توافق الفطرة، فهي لا تحل العقدة الكبرى للإنسان حلًا صحيحًا، وتظل هذه العقدة الكبرى تلاحق وتزعج الأفراد والشعوب والأمم التي تعيش تحت النظم الرأسمالية، وتبعد عنهم السعادة المطلوبة.
أما تصوير الحياة فهي الفلسفة التي تصبغ بها الرأسمالية الحياة وأعمال الإنسان فيها، بالإضافة إلى المقاصد أو القيم التي يراعى تحقيقها حين القيام بالأعمال. فالحضارة الغربية تعتبر بأن تصوير الحياة يقوم على المنفعة. ولا تعترف في الحياة إلا بالقيمة المادية فقط، وجميع القيم الأخرى من أخلاقية وإنسانية وروحية لا أثر لها في حضارتهم. فأي خلق فيه منفعة يعتبر هو الصحيح عندهم، سواء أكان صدقًا أم كذبًا، غشًّا أم أمانة، وهذا ما يطلقون عليه اسم «البراغماتية» أو الذرائعية، فكل فكرة عندهم تعتبر صحيحة إذا كانت نافعة فحسب، ولا اعتبار لمقدار صدقها بمطابقتها للواقع وللحقيقة.
أما تحقيق السعادة عند الرأسمالية فتكون بإعطاء الإنسان أكبر قسط من المتع الجسدية. والوسيلة لتحصيل أكبر قدر من هذه المتع تتمثل في حيازة المال والحصول على الأرباح المادية بأية واسطة ممكنة؛ لأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة.
إن الحضارة الغربية، بتصويرها بأن المنفعة أساس الحياة، سببت شقاء الإنسانية وفقدان طمأنينتها؛ ولهذا فمن الطبيعي أن تنفى من الحياة الأخلاق الكريمة وقيمتها كما نفيت القيمة الروحية، وأن تستشري في أوساط الأفراد والجماعات الأزمات الروحية، وأن تقوم الحياة على أساس التنافس والأنانية والاعتداء والاستعمار، وكل الأزمات التي يمر بها العالم اليوم هي من نتائج تحكم هذه الحضارة في العالم، وهي لا شك نتائج خطرة على سعادة الإنسانية.
إن العالم اليوم – في تفكيره بالعيش – منحطٌّ وليس متقدمًا، وقلقٌ وليس بمطمئن، ويعتبر بقاء التفكير بالعيش الخالي من المسؤولية عن الغير أمرًا مضرًا بالحياة، ومجلبة لشقاء الإنسان؛ لذلك لا بد من القضاء على هذا التفكير الأناني اللامسؤول، والعمل لأن يحل محله تفكير بالعيش تكون المسؤولية عن الغير جزءًا لا يتجزأ منه، ويحقق العيش الراقي والهنيء لكافة البشر.
إن الحضارة الصحيحة المطلوبة يجب أن تقوم على مجموعة المفاهيم عن الحياة، منبثقة عن مبدأ صحيح يعالج شؤون الإنسان بشكل صحيح ومتوازن، ولا ينحاز لقيمة على حساب قيمة أخرى أو جانب على جانب آخر. ويحقق السعادة للإنسان من خلال إيجاد الطمأنينة الدائمة، وذلك بعقيدة عقلية تحل العقدة الكبرى حلًا صحيحًا، ثم من خلال نظام يوفر العيش الكريم للناس.
والسؤال الموجه لأصحاب الحضارة الرأسمالية ومنظريها – للمحاججة والبرهنة والنقاش – مفاده: هل حققت حضارتكم ونظامكم الرأسمالي الطمأنينة لكم أولًا، ثم لغيركم من البشر ثانيًا، أم أدت إلى شقائكم وشقاء الإنسانية؟
-
أسباب انهيار المجتمعات والحضارات
للإجابة على هذا السؤال المحوري والصعب، يجب أولًا التفريق بين انهيار الحضارات وانهيار الدول، فالدول تنهار لأسباب كثيرة بخلاف الحضارات، فهذه لها أسبابها الخاصة، فقد تقوم قوة عسكرية متفوقة بالقضاء على دولة ما؛ ولكنها لا تقضي على حضارتها؛ لأنها سرعان ما تعود إذا بقيت مركوزة في مفاهيم ذلك الشعب؛ ولذلك لا بد أن نتعرف على الأسباب والسنن التي تؤدي إلى انهيار الحضارات وانهيار الدول. وبما أن هذا الانهيار هو تغير منضبط بقانون السببية الكوني، فإنه من الأنسب استخدام التحليل السببي للأنظمة، بهدف تفسير أسباب زوال الدول، ثم سنقوم بتطبيقه على الحضارات، ثم نجيب عن المصير المتوقع للحضارة الرأسمالية.
إن الحضارات والدول والأمم هي عبارة عن كيانات بشرية، أي مجتمعات، والمجتمعات هي أنظمة سببية يتكون كل مجتمع منها من أجزاء وعلاقات بين هذه الأجزاء. أما أجزاء المجتمع فهم الأفراد. وأما العلاقات فهي الأفكار والمشاعر والأنظمة.
فما الذي يجعل نظامًا معينًا مستقرًا، أو يوصله إلى حالة من عدم الاستقرار، ويصبح التغيير ضرورة لا بد منها؟
إن الأنظمة السببية بطبيعتها تميل إلى الاستقرار وتقاوم التغيير، وهذا أصل من «الأصليات» والبدهيات، وبما أن المجتمع هو نظام سببي فهو يحاول المحافظة على الوضع القائم المستقر ويمانع التغيير، وعملية التغيير تحدث – في العادة – بفعل الأسباب المغيرة.
إن كل أمة أو شعب إنما يسير في الحياة حسب ما لديه من أفكار، ويطبق النظام المنبثق عنها، فالاستقرار في المجتمعات الإنسانية إنما يأتي من العلاقات المجتمعية، وهي الأفكار والمشاعر والأنظمة، وإذا غير الشعب هذه الأفكار تغير نظامه وتغيرت حضارته. والذي يغير الأفكار عند الشعوب هو استبدالهم أفكارًا جديدة بالأفكار التي لديهم. وعملية تغيير الأفكار المجتمعية تحدث في ثلاث حالات:
أولها: إذا تبين للشعب والأمة فساد حضارتهم أو فشل نظامهم في حل مشاكلهم المجتمعية، فيقومون بتطوير هذه الحضارة ذاتيًا. والثانية: أن يتبنَّوا طوعًا حضارة أخرى أكثر صلاحًا لعيشهم. والثالثة: أن تفرض عليهم حضارة أخرى من قوة خارجية عنهم فيرون صلاحها ويأخذون بها.
أما الحالة الأولى التي توجد الدافع الذاتي لتغيير الحضارة فتأتي من سببين هما: فساد الأفكار وفشل النظام. أما فساد الأفكار المجتمعية فيحدث عندما يتبين للمفكرين والعلماء عدم صدق الأفكار التي يقوم عليها المجتمع، فيقومون بتطوير حضارتهم تبعًا لفكرة جديدة، كما حصل في أوروبا من إيجاد للرأسمالية في العصور الوسطى والمذكور أعلاه.
أما فشل النظام المجتمعي، فيحدث بسبب عدم تحقيقه للسعادة المطلوبة، والتي تتحقق بأمرين هما: شعور الناس بعدالة النظام المطبق عليهم، وبقدرة النظام على توفير وإشباع الحاجات الأساسية للفرد والمجتمع؛ ولذلك فإن النظام المجتمعي ينهار في حالتين:
الأولى: إذا فشل النظام في رعاية شؤون الناس بعجزه عن توفير الحاجات الأساسية.
الثانية: إذا أحس الناس بظلم شديد من النظام أو بغياب قيمة العدالة فيه.
أما الحالة الثانية التي تؤدي إلى انهيار النظام، وهي فقدان قدرة النظام أو عجزه عن رعاية شؤون الناس، فتحدث بسبب سوء توزيع الثروة في المجتمع بعدالة ووجود مشاكل واضطرابات اقتصادية وسياسية واجتماعية متأزمة، وبفشل النظام في حلها بحيث تصل إلى حالة من الاستعصاء أو الأزمة الخانقة، مما يؤدي إلى بلوغ الحافز النفسي مداه في لزوم تغيير النظام أو الثورة عليه. وهذا ما حدث في أوروبا في القرن التاسع عشر والذي توِّج بظهور مبدأ وحضارة جديدة هي الحضارة الشيوعية.
أما الحالة الثالثة وهي استفحال الظلم الشديد وغياب قيمة العدالة فيه، ذلك أن عدالة النظام في نظر المحكومين لا بد من أن تستند إلى ثلاثة أمور: شرعية للعدل كقيمة مقبولة لدى الناس، والرضا الشعبي، والقوى العسكرية التي تحمي تطبيق النظام العدلي. فإذا فقدت العدالة واحدة من هذه الإسنادات أو كلها فإن العلاقات المجتمعية تنهار معنويًا ثم يتبعها انهيار فعلي حقيقي للمجتمع.
أما قيمة العدالة فتستند إلى إيمان الناس بشرعية القوانين المطبقة عليهم بانبثاقها عن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الحضارة، وإذا فقدت هذه الشرعية تنهار القيمة المعنوية للعدالة في نظر الناس ويحصل حينئذ انفصام شعوري ما بين الناس والنظام.
أما الرضا والقبول الشعبي للنظام والقائمين عليه فيوجد في الدول الطبيعية، حين تكون الأمة هي صاحبة السلطان فعليًا؛ ولذلك تكون هي السند الطبيعي للنظام، وحين يشعر الناس بضرورة التغيير تحصل استجابة طبيعية من النظام لأنه من جنس الأمة.
أما في الدول المصطنعة غير الطبيعية، فإنه حين يحصل انفصام ما بين النظام والشعب، يلجأ القائمون إلى النظام لاستخدام القوة الغاشمة لفرض النظام على الناس بقوة الجيوش، تمامًا كما يحدث في معظم دول المسلمين اليوم. ولكن سنن الله غالبة دائمًا، ومن سنن الله في المجتمعات أن الأمة هي صاحبة السلطان، فقد يتسلط متسلط عليها ولكن هذا الأمر لا يدوم بل هو إلى زوال حتمًا.
وأقرب مثال على ذلك النظام السوري فهو نظام عصابات فاقد لأي شرعية، وهو ظالم ومتجبر في حق شعبه؛ حيث تتحكم فئة قليلة من العلويين، قفزوا على رأس حزب البعث العلماني واغتصبوا سلطان الأمة، فكانت ثورات أهل الشام ضدهم طبيعية ومتوقعة، وإن ظن ملأ النظام وأعوانه أنهم أخمدوا الثورة بقوة السلاح والحديد والنار، فإن حكمهم إلى زوال حتمًا بمشيئة الله تعالى؛ لأن وجودهم في الحكم مضاد لسنن التاريخ، فهذا أمر واقع لا محالة طال الزمن أم قصر.
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في نشرة مؤرخة في 27/2/1974م: «وإقامة دولة أي دولة، في جماعة أي جماعة، لها قوانين ونواميس، وهي أن تتقبل تلك الجماعة أو الفئة الأقوى فيها للمفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقوم عليها تلك الدولة، وما لم تتقبل تلك المفاهيم والمقاييس لا يمكن أن تقوم فيها الدولة، ولو تسلط عليها متسلطون، وتولى السلطة فيها أقوياء. فالأصل في إقامة الدولة هو تقبل الجماعة أو الفئة الأقوى لتلك المفاهيم والمقاييس والقناعات، فالخطوة الأولى هي المفاهيم والمقاييس والقناعات. هذه هي نواميس الجماعات، وهذه هي قوانين الحكم والسلطان. فهذه القوانين مشاهدة منظورة. فمحاولة تجاهلها وأخذ السلطة بالقوة والقهر، لا يمكن أن يوجد الدولة، وإن كان يمكن أن يوجد المتسلطين إلى حين».
وعليه فالدول تنهار لأسباب معينة، وإذا انهارت فإنها لا تعود بل تنشأ دولة جديدة مكانها. أما الحضارة وبوصفها مجموعة مفاهيم عن الحياة فيمكن إعادتها حتى بعد ذهابها، إذا تقبلها مجموع الناس في أي مجتمع وطبقوها. فقد تم محو حضارات ودول الهنود الحمر في أميركا بفعل وحشية الحضارة الرأسمالية؛ ولكن حضارة الإسلام استمرت حتى بعد انهيار الدولة العباسية على يد التتار سنة 1258م وصهرت الغازي المنتصر بعكس عادة المنتصرين في التاريخ.
-
السنن الضابطة للمجتمعات البشرية
إن الانهيار الحتمي للدول يجري وفق سنن وأسباب خاصة بالمجتمعات، ولا بد لنا من الاستعانة بالقرآن الكريم ثم بالتاريخ لكي نستخلص منهما العوامل والسنن التي تضبط وتتحكم في حركة الدول والحضارات. ولا بد من التنويه بأن السنن الربانية رغم حقيقتها فإنها تختلف عن القوانين الطبيعية بأنها مرنة في توقيتها؛ ولذلك فقد تحدث نتائجها عاجلًا وقد تتأخر، ولكنها لا تتخلف بتاتًا.
لقد ذكر القرآن الكريم لنا سننًا سنها الله تعالى وجعل عملها هو ضبط سير المجتمعات البشرية ذاتيًا، من غير تدخل منهم كسنة الاختلاف والتنوع، وذلك لكي تعمر الأرض وتبقى صالحة للاستخلاف الإنساني، ولكن هناك سنن من نوع آخر وهي سنن السببية أو سنن التغيير، بمعنى أن لبعض الأفعال نتائج وعواقب معينة. يقول الله تعالى في سورة فاطر: (فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِينَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا )
وأول السنن التي نود التعرف عليها من الصنف الأول، هي أن لكل الأمم أجلًا ثم تنتهي كما يموت الأفراد، يقول الله عز وجل في سورة الأعراف: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٞۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ ٢٤) فحضارة وأمة قريش ودولتها مثلًا، قد انتهت وجاء أجلها بفتح الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة المكرمة، ولكن أهل قريش كأفراد لم يموتوا بل تحولوا إلى حضارة الإسلام.
أما من ناحية دراسة التاريخ الواقعي، فنجد أن جميع الدول كانت لها نهاية محتومة وهي الزوال، وهذه سنة ماضية في كل الدول والأمم. غير أن هذه السنة تستثني أمة واحدة وهي أمة الإسلام؛ لأن الله سبحانه تعهد بحفظ هذا الدين، وهذا يقتضي حفظ من يقوم عليه؛ لذلك ستبقى هذه الأمة وحضارتها قائمة حتى تطلع الشمس من مغربها، فهي أمة لا تخضع لهذه السنَّة؛ ولكن ذلك لا يقتضي بقاء دولة الإسلام.
ومن سنن الله تعالى سنة التدافع بين الصالح والفاسد لمنع طغيان الفساد في كل الأرض، يقول تعالى:﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ للَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ٢٥١﴾. ومن سنن الله أيضًا سنة التداول، يقول تعالى:﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ﴾ فهناك تداول للأيام أي للغلبة والهزيمة بين الدول والمجتمعات؛ وذلك لينظر أهل الإسلام في نواحي تقصيرهم ليصححوا مسار حياتهم.
أما السنن السببية التغييرية من الصنف الثاني فهي كسنة الإملاء لأهل الباطل، فلا يعاقب الله العاصين مباشرة؛ ولكن يؤخرهم ويمهلهم حتى يعمَّ فسادهم وطغيانهم، ثم يعلو ترفهم وفسوقهم فيحق عليهم قول الله، كما في سورة الإسراء:(وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ٦)وهناك سنة النصر والغلبة للمؤمنين، وهي سنة مشروطة بنصرهم لله، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧) فلربما يكون أهل الحق والعدل ضعفاء، ولكن سنن الله ستعينهم، وسيجبر الله ضعفهم وينصرهم. يقول الله تعالى مباشرة في الآية التي سبقت آية التدافع أعلاه: (كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ٢٤٩).
ومن السنن سنة وراثة الصالحين والمتقين للأرض بعد إهلاك المفسدين، يقول الله تعالى: (تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ٨٢)فالفساد مصيره أن ينتهي ثم يورث الله الأرض للصالحين المصلحين، قال تعالى: (وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ ١٠٥ إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَٰغٗا لِّقَوۡمٍ عَٰبِدِينَ ١٠٦ ). [يتبع]