موقف السلف الصالح من العلاقة بين العلماء والحكام
هذه طائفة من مواقف من فهم إرث النبوة حق الفهم، وقام بالميثاق الذي أخذه الله على العلماء حق القيام، فحفظوا العلم ولم يزروا به، فحفظهم الله وجعلهم أئمة بحق، تنير مواقفهم الدرب إلا من أعشت عيناه، فلم ينفعه نور… هذه المواقف الصادقة مع الله صار علماء اليوم من أبعد الناس عنها، إلا من رحم الله، وقليل ما هم، وصرنا، نحن المسلمين، بأمس الحاجة إليها. نعم، صار علماء اليوم معوانًا للحكام يزينون الباطل، ويزيفون الدين، وكانوا واسطة عقد فارط بين المسلمين وحكامهم… وهذه الطائفة من المواقف هي موجهة إلى علماء اليوم لتذكِّر صالحهم، وتزجر طالحهم، وموجهة إلى المسلمين ليلتفوا حول الصالحين من العلماء، ولينفضوا عن طالحيهم.
– أخرج ابن النجار، عن الحسن أنه قال: «إن سركم أن تسلَموا ويسلمَ لكم دينُكم، فكفُّوا أيديَكم عن دماء المسلمين، وكفوا بطونكم عن أموالهم، وكفوا ألسنتكم عن أعراضهم، ولا تجالسوا أهل البدع، ولا تأتوا الملوك فيلبسوا عليكم دينكم».
– وقال ابن باكويه الشيرازي في «أخبار الصوفية»: «حدثنا سلامة بن أحمد التكريني، أنبأنا يعقوب ابن اسحاق، أنبأنا عبيد الله بن محمد القرشي، قال: كنا مع سفيان الثوري بمكة، فجاءه كتاب من عياله من الكوفة: بلغت بنا الحاجة أنَّا نقلي النوى فنأكله، فبكى سفيان. فقال له بعض أصحابه: يا أبا عبد الله! لو مررت إلى السلطان، صرتَ إلى ما تريد! فقال سفيان: «والله لا أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها».
– أخبرنا أبو العلاء، سمعت أحمد بن محمد التستري، سمعت زياد بن علي الدمشقي يقول: سمعت صالح بن خليفة الكوفي يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: «إن فجار القراء اتخذوا سلّمًا إلى الدنيا فقالوا: ندخل على الأمراء، نفرج عن مكروب، ونكلم في محبوس».
– وأخرج ابن باكويه، عن الفضيل بن عياض، قال: «لو أن أهل العلم أكرموا على أنفسهم، وشحوا على دينهم، وأعزوا العلم وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله، لخضعت لهم رقاب الجبابرة، وانقاد لهم الناس، واشتغلوا بما يعنيهم، وعَزَّ الإسلام وأهله؛ لكنهم استذلوا أنفسهم، ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم، وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا ما في أيديهم، فذلوا وهانوا على الناس».
– وأخرج ابن عساكر، عن عبد الجبار بن عبد العزيز أبي حازم عن أبيه، عن جده: أن سليمان بن عبد الملك دخل المدينة، فأقام بها ثلاثًا. فقال: ههنا رجل ممن أدرك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحدثنا؟ فقيل له: بلى ههنا رجل يقال له أبو حازم فبعث إليه، فجاءه، فقال له سليمان: يا أبا حازم! ما هذا الجفاء؟ أتاني وجوه المدينة كلهم ولم تأتني!؟ قال أبو حازم: «إن الناس لما كانوا على الصواب، كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفرُّ بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا العلم وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا أو تعسوا أو تنسكوا، ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم، لم تزل الأمراء تهابهم».
– وقال الزجاجي في أماليه: «أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسن، أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه قال: مرَّ الحسن البصري بباب عمر بن هبيرة وعليه القراء فسلم، ثم قال: «ما لكم جلوسًا قد أحفيتم شواربكم وحلقتم رؤوسكم، وقصرتم أكمامكم، وفلطحتم نعالكم! أما والله! لو زهدتم فيما عندهم، لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم، فزهدوا فيما عندكم، فضحتم القراء فضحكم الله».
– وأخرج أبو نعيم، وابن عساكر، عن يوسف بن أسباط قال: أخبرنا نجم: أن بعض الأمراء أرسل إلى أبي حازم فأتاه، وعنده الأفريقي والزهري وغيرهما، فقال له: تكلم يا أبا حازم. فقال أبو حازم: «إن خير الأمراء من أحب العلماء، وأن شر العلماء من أحب الأمراء. وكانوا فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم، وكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء. فلما رأى ذلك ناس من الناس، قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء! وطلبوا العلم فأتوا الأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم فخربت العلماء على الأمراء، وخربت، الأمراء على العلماء».
– وأخرج البيهقي في «الزهد»، وابن عساكر، عن سفيان: قال: قال بعض الأمراء لأبي حازم: ارفع إليَّ حاجتك قال: «هيهات! هيهات! رفعتها إلى من لا تختزن الحوائج دونه، فما أعطاني منها قنعت، وما زوى عني منها رضيت، كان العلماء فيما مضى يطلبهم السلطان وهم يفرون منه، وإن العلماء اليوم طلبوا العلم حتى إذا جمعوه بحذافيره، أتوا به أبواب السلاطين، والسلاطين يفرُّون منهم، وهم يطلبونهم».
– وأخرج ابن عساكر، من طريق أبي قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي قال: حدثنا أبو سعيد الأصمعي، عن أبي الزناد، عن أبيه، قال: «كان الفقهاء كلهم بالمدينة يأتون عمر بن عبد العزيز، خلا سعيد بن المسيب، فإن عمر كان يرضى أن يكون بينهما رسول، وكنت الرسول بينهما».
– وأخرج الخطيب وابن عساكر، عن مقاتل بن صالح الخراساني قال: دخلت على حمَّاد بن سلمة، فبينا أنا عنده جالس، إذ دقَّ داقٌّ الباب فقال: «يا صبية، أخرجي فانظري من هذا! فقالت: هذا رسول محمد بن سليمان الهاشمي – وهو أمير البصرة والكوفة – قال: قولي له يدخل وحده، فدخل وسلم فناوله كتابه، فقال: اقرأه فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من سليمان إلى حمَّاد بن سلمة. أما بعد: فصبَّحك الله بما صبَّح به أولياءه وأهل طاعته. وقعت مسألة فائتينا نسألك عنها». فقال: «يا صبية هلمي الدواة!» ثم قال لي: «اقلب الكتاب وكتب: أما بعد، فقد صبَّحك الله بما صبَّح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدًا، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك! وإن أتيتني، فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك ولا أنصح نفسي، والسلام». فبينما أنا عنده، إذ دقَّ داقٌّ الباب فقال: «يا صبية، اخرجي فانظري من هذا! قالت: «هذا محمد بن سليمان، قال: «قولي له يدخل وحده» فدخل، فسلم ثم جلس بن يديه، ثم ابتدأ، فقال: ما لي إذا نظرتُ إليك امتلأتُ رعبًا!؟ فقال حماد: «سمعت ثابت البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد به أن يكثر به الكنوز هاب من كل شيء».
– وأخرج ابن النجار في تاريخه عن سفيان الثوري قال: «ما زال العلم عزيزًا حتى حمل إلى أبواب الملوك فأخذوا عليه أجرًا، فنزع الله الحلاوة من قلوبهم ومنعهم العلم به».
– وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن بشر الحافي قال: «ما أقبح أن يطلب العالم، فيقال: هو بباب الأمير».
– وأخرج البيهقي عن الفضيل بن عياض، قال: «إن آفة القراء العجب، واحذروا أبواب الملوك فإنها تزيل النعم». فقيل: كيف؟ قال: «الرجل يكون عليه من الله نعمة ليست له إلى خلق حاجة، فإذا دخل إلى هؤلاء فرأى ما بسط لهم في الدور والخدم استصغر ما هو فيه من خير ثم تزول النعم».