مجزأة بن ثور السدوسي الفارس الباسل
2018/11/27م
المقالات
8,077 زيارة
مجزأة بن ثور السدوسي الفارس الباسل
هو سيد بني بكر وأميرهم المطاع .
مواصلة الفتوحات
بعد أن نفض جند الله عنهم غبار معركة القادسية فرحين بما آتاهم الله من نصر، تشوَّقوا إلى معركة أخرى تكون أختًا للقادسية في روعتها وجلالها، وها هو ذا رسول الفاروق رضي الله عنه يقدم من المدينة إلى الكوفة، ومعه أمر من الخليفة رضي الله عنه لواليها أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بالمضي بعسكره والالتقاء مع جند المسلمين القادمين من البصرة، والإنطلاق معًا إلى الأهواز لتتبع الهرمزان والقضاء عليه وتحرير مدينة “تستر” درة التاج الكسروي، ولؤلؤة بلاد فارس، وقد جاء في الأمر الذي وجهه الخليفة لأبي موسى رضي الله عنهما أن يصطحب معه الفارس الباسل مجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه سيد بني بكر وأميرهم المطاع، صدع أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بأمر خليفة المسلمين رضي الله عنه، فعبأ جيشه، وجعل على ميسرته مجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه، وانضم إلى جيوش المسلمين القادمة من البصرة، ومضوا معا غزاةً في سبيل الله، فما زالوا يحررون المدن، ويطهرون المعاقل، والهرمزان يفرُّ من أمامهم من مكان إلى آخر حتى بلغ مدينة “تستر”، واحتمى بحماها، وكانت “تستر” التي انحاز إليها “الهرمزان” من أجمل مدن الفرس جمالًا، وأبهاها طبيعة، وأقواها تحصينًا، مبنية على مرتفع من الأرض على شكل فرس، يسقيها نهر كبير يدعى بنهر “دجيل”، وحول “تستر” سور كبير عال يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، ثم حفر”الهرمزان” حول السور خندقًا عظيمًا يتعذر اجتيازه، وحشد وراءه خيرة جنود فارس.
شجاعة مجزأة
عسكرت جيوش المسلمين حول خندق “تستر” وظلت ثمانية عشر شهرًا لا تستطيع اجتيازه، وخاضت مع جيوش الفرس خلال تلك المدة الطويلة ثمانين معركة، وكانت كل معركة من هذه المعارك تبدأ بالمبارزة بين فرسان الفريقين، ثم تتحول إلى حرب ضارية ضروس، وقد أبلى مجزأة بن ثور في هذه المبارزات بلاء أذهل العقول، وأدهش الأعداء والأصدقاء في وقت معًا، فقد تمكن من قتل مائة من شجعان العدو مبارزة، فأصبح اسمه يثير الرعب في صفوف الفرس، ويبعث النخوة والعزة في صدور المسلمين، وعند ذلك عرف الذين لم يكونوا قد عرفوه من قبل لما حرص أمير المؤمنين رضي الله عنه على أن يكون هذا البطل الباسل في عداد الجيش الغازي.
الفرج بعد الشدة
انتقل المسلمون بعد هذا الصبر الطويل من حال سيئة إلى أخرى أشد سوءًا، فبعد أن لاذ الفرس بالمدينة، وأغلقوا عليهم أبواب حصنها، أخذوا يمطرون المسلمين من أعالي الأبراج بسهامهم الصائبة، وجعلوا يدلون من فوق الأسوار سلاسل من الحديد، في نهاية كل سلسلة كلاليب متوهجة من شدة ما حميت بالنار، إذا رام أحد جنود المسلمين تسلق السور أو الاقتراب منه أنشبوها فيه وجذبوه إليهم، فيحترق جسده، ويتساقط لحمه، ويقضى عليه… فاشتد الكرب على المسلمين، وأخذوا يسألون الله بقلوب ضارعة خاشعة أن يفرج عنهم، وينصرهم على عدوه وعدوهم، وبينما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يتأمل سور “تستر” العظيم يائسًا من اقتحامه، سقط أمامه سهم قذِف نحوه من فوق السور، فنظر فيه فإذا فيه رسالة تقول: لقد وثقت بكم معشر المسلمين، وإني أستأمنكم على نفسي ومالي وأهلي ومن تبعني، ولكم علي أن أدلكم على منفذ تنفذون منه إلى المدينة، فكتب أبو موسى رضي الله عنه أمانًا لصاحب السهم، وقذفه إليه بالسهم، فاستوثق الرجل من أمان المسلمين لما عرف عنهم من الصدق بالوعد والوفاء بالعهد، وتسلل إليهم تحت جناح الظلام، وأفضى لأبي موسى رضي الله عنه بحقيقة أمره فقال: نحن من سادات القوم، وقد قتل الهرمزان أخي الأكبر، وتعدَّى على ماله وأهله، وأضمر لي الشر في صدره حتى ما عدت آمنه على نفسي وأولادي، فآثرت عدلكم على ظلمه، ووفاءكم على غدره، وعزمت على أن أدلكم على منفذ خفي تنفذون منه إلى “تستر”، فأعطني إنسانًا يتحلى بالجرأة والعقل، ويكون ممن يتقنون السباحة حتى أرشده إلى الطريق.
السباح البطل
استدعى أبو موسى الأشعري مجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنهما، وأسرَّ إليه بالأمر، وقال: أعني برجل من قومك له عقل وحزم، وقدرة على السباحة، فقال مجزأة رضي الله عنه: “اجعلني ذلك الرجل أيها الأمير” فقال له أبو موسى رضي الله عنه: إذا كنت قد شئت، فعلى بركة الله، وأوصاه أن يحفظ الطريق، وأن يعرف موضع الباب، وأن يحدد مكان “الهرمزان” وأن يتثبت من شخصه، وألا يحدث أمرًا غير ذلك، مضى مجزأة بن ثور رضي الله عنه تحت جنح الظلام مع دليله الفارسي، فأدخله في نفق تحت الأرض يصل بين النهر والمدينة، فكان النفق يتسع تارة حتى يتمكن من الخوض في مائه وهو ماشٍ على قدميه، ويضيق تارة أخرى حتى يحمله على السباحة حملًا، وكان يتشعب ويتعرج مرة، ويستقيم مرة ثانية… وهكذا حتى بلغ به المنفذ الذي ينفذ منه إلى المدينة، وأراه “الهرمزان” قاتل أخيه، والمكان الذي يتحصن فيه، فلما رأى مجزأة “الهرمزان” همَّ بأن يرديَه بسهم في نحره، لكنه مالبث أن تذكر وصية أبي موسى رضي الله عنه له بألا يحدث أمرًا ، فكبح جماح هذه الرغبة في نفسه وعاد من حيث جاء قبل بزوغ الفجر.
مجزأة والمعركة الحاسمة
أعد أبو موسى رضي الله عنه ثلاثمائة من أشجع جند المسلمين قلبًا، و أشدهم جلدًا وصبرًا ، وأقدرهم على العوم، وأمَّر عليهم مجزأة بن ثور رضي الله عنه وودعهم وأوصاهم، وجعل التكبير علامة على دعوة جند المسلمين لاقتحام المدينة، أمر مجزأة رضي الله عنه رجاله أن يتخففوا من ملابسهم ما استطاعوا حتى لا تحمل من الماء ما يثقلهم، وحذَّرهم من أن يأخذوا معهم غير سيوفهم، وأوصاهم أن يشدوها على أجسادهم تحت الثياب، ومضى بهم في آخر الثلث الأول من الليل. ظل مجزأه بن ثور رضي الله عنه وجنده البواسل نحوًا من ساعتين يصارعون عقبات هذا النفق الخطير، فيصرعونها تارة وتصرعهم تارة أخرى. ولما بلغوا المنفذ المؤدي إلى المدينة وجد مجزأة رضي الله عنه أن النفق قد ابتلع مائتين وعشرين رجلًا من رجاله، و أبقى له ثمانين، وما أن وطئت أقدام مجزأة رضي الله عنه وصحبه أرض المدينة حتى جردوا سيوفهم، وانقضوا على حماة الحصن، فأغمدوها في صدورهم، ثم وثبوا إلى الأبواب وفتحوها وهم يكبرون، فتلاقى تكبيرهم من الداخل مع تكبير إخوانهم من الخارج، وتدفق المسلمون على المدينة عند الفجر، ودارت بينهم وبين أعداء الله رحى معركة ضروس قلما شهد تاريخ الحروب مثلها هولًا ورهبة وكثرة في القتلى.
وترجل الفارس
فيما كانت المعركة قائمة على قدم وساق أبصر، مجزأة بن ثور رضي الله عنه “الهرمزان” في ساحها، فاتجه نحوه، و ساوره بالسيف، فما لبث أن ابتلعه موج المتقاتلين وأخفاه عن ناظريه، ثم إنه بدا له مرة أخرى فاندفع نحوه وحمل عليه. وتصاول مجزأة رضي الله عنه والهرمزان بسيفيهما فضرب كل منهما صاحبه ضربة قاضية، فارتد سيف مجزأة رضي الله عنه، وأصاب سيف الهرمزان، فخر البطل الباسل صريعًا على أرض المعركة، وعينه قريرة بما حقق الله على يديه، وواصل جند المسلمين القتال، حتى كتب الله لهم النصر، ووقع الهرمزان في أيديهم أسيرًا.
انطلاق البشير
انطلق المبشرون إلى المدينة المنورة يزفون إلى الفاروق رضي الله عنه بشائر الفتح، و يسوقون أمامهم الهرمزان وعلى كتفيه حلته الموشاة بخيوط الذهب ليراه الخليفة، وكان المبشرون يحملون مع ذلك تعزية حارة للخليفة بفارسه الباسل الصحابي الفارسي مجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه وأرضاه .
2018-11-27