في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، على المسلمين أن يتعلموا كيف يقيمون الإسلام كله في حياتهم
أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وأن يتقيدوا بأمر ربهم، تمامًا على ما أنزل على رسوله الكريم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم هم الأصدق في الالتزام ونقل الدين عن وعي وتدبر وحسن التزام. ولحرصهم وحرص من جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم؛ ثُبِّتت نصوص الدين، ومُيِّز بين الخبيث والطيب، وعُرف الغثُّ من السمين. فلم يعد بعد ذلك من مجال لمتحذلق أن يتكلم بكلمة من خارجه. وحدث بعد ذلك أن المسلمين أرادوا أن يحدثوا في الدين، وبعضهم عن محبة له، وبعضهم عن كيد. وفي الحالين، فإن الإحداث مرفوض مردود. ومن هذا القبيل، فهناك من أراد منهم أن يكرم النبي صلى الله عليه وسلم بجعل عيد لمولده في كل سنة. وهذا لا يصح في الشرع؛ لأن الدين كامل، ولم يأت فيه ما يدل على الوقوف على هذه المناسبة سنويًا كما طلب بالنسبة لعيدي الفطر والأضحى. ولو كان الأمر كذلك لكان جاء النص به، وهذا ما لم يفعله الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان في القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية. ولو عرض الأمر عليهم لمنعوه وعدُّوه إحداثًا في الدين مردودًا.
هذه المناسبة يمكن أن يقال عنها بأنها ذكرى تندرج تحت قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ ٥﴾. ولكن هذه الذكرى يجب أن لا تحدد بيوم معين، ولا بشعائر معينة، بل إن واقعها يتطلب أن تكون حاضرة عند كل مسلم في كل يوم، وفي كل لحظة من حياته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة له، والمأمور باتباعه في كل صغيرة وكبيرة، فما معنى أن يقف عندها مرة واحدة في السنة، وهو المأمور بأن يعيش معها بشكل ملازم.
ومما تحمله هذه الذكرى من دلالات، أن الله سبحانه وتعالى عندما جعل الرسول الكريم خاتم الأنبياء، والإسلام خاتم الرسالات، فهذا معناه:
-
أن رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتم التي ستبقى ويجب أن تسود العالم إلى قيام الساعة، وفيها الهداية، وفي غيرها الضلال. وبها يخاض الصراع الفكري والحضاري إلى قيام الساعة. ولا يقال بأن الحياة تتطور وتتغير والناس تبعًا لذلك يجب أن يغيروا قوانين حياتهم تبعًا لهذا التطور، لا يقال ذلك؛ لأن النظام الموحى به من الله سبحانه وتعالى يحيط بالإنسان كإنسان من جميع جوانبه، والإنسان هو الإنسان كماهية، وحقيقته لم تتغير، فالرجل هو الرجل منذ القدم، والمرأة هي المرأة، لم يتغيرا حتى تتغير العلاقة بينهما، وتكوُّن المجتمعات هو نفسه، وطبيعة الصراع أو التعاون بينها هي نفسها؛ لذلك نرى أن جميع الناس، وخاصة أولئك الذين يقولون بالتطور، يتعلمون من سابقيهم، كل في مجاله. فالديمقراطية فكرة قديمة موجودة منذ ما قبل الإسلام، والخطط العسكرية كثيرًا ما نرى أن القادة العسكريين المعاصرين يتعلمون من الأقدمين، حتى ويعلمونها في كلياتهم العسكرية. وقل مثل ذلك في الطب والفلك… ويمكن القول إن الذي يرى أنه لا بد من مواكبة التطور بتغيير قوانين الحياة هم مفلسون في الحقيقة؛ إذ لم تستطع قرائحهم أن تصل إلى النظام الصحيح، فقالوا سنغيِّر القوانين التي نخضع لها، ولم يقولوا إن سبب التغيير هو فشلهم، ولكن قالوا إنه من باب التطور، إذًا فإن لهجة القائلين بفكرة التطور هي لهجة المفلسين. ولهجة القائلين بثبات النظام الإنساني الذي ينظم علاقات البشر ببعضهم هي لهجة الصادقين الصادحين بالحق. ومن عجيب الأمر أن هناك الكثير من المسلمين من يحيي ذكرى المولد، وهو غافل عن هذه الحقيقة، وتراه يسير مع الغرب في مقولته. فعلامَ يحتفل؟!
-
وبما أن الإسلام دين منه الدولة، وعقيدة ينبثق عنها شريعة؛ فيجب أن تسود هذه الرسالة كمبدأ تحمله دولة، وأن تنتشر وتتوسع وتحكم؛ حتى يصل الإسلام إلى كل مكان فيه نفس حية، وحتى يكون الناس شهداء بالإسلام على من سواهم في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ ﴾. نعم، إن مهمة هداية الناس تقع على عاتق المسلمين حصرًا؛ لأن الحق محصور بالإسلام، فهم المؤتمنون على هذه المهمة ألا وهي تعبيد الناس، كل الناس، لرب العالمين، وهذا يقتضي أن تخوض الدولة الصراع الفكري والحضاري والعقدي عالميًا لتنقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية، ولا تتركهم لأتباع إبليس من الكفار الرأسماليين والعلمانيين والملحدين. ويجب أن تكون دولته هي الدولة الأولى في العالم باستمرار، وأن يكون هدفها فتح كل أرض لم تصله بعد. ومن عجيب الأمر في هذا الموضوع أن كثيرًا من المسلمين غافلون عن أنه يجب أن يكون للإسلام دولة تحكم بما أنزل الله في كل حين كما كان زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتراهم يحتفلون بهذه الذكرى، وهم أبعد ما يكونون عن مضامينها الشرعية الصحيحة. قال تعالى: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠﴾
-
يجب أن يكون الرسول هو قائد المسلمين في كل شؤون حياتهم وأسوتهم، وهو السراج المنير لهم في دروب الحياة؛ لذلك كان المولد ذكرى للماضي والحاضر والمستقبل، وليس للماضي فقط. وهذا يكون على صعيد المسلم كفرد، وعلى صعيد المسلم كجماعة، وعلى صعيد حياة المسلم في مجتمع ودولة.
فبالنسبة إلى الفرد المسلم:
-
فإن الإسلام يحرص على أن تكون شخصية المسلم شخصية إسلامية، يقيس تصرفاته على أساسها، فيعرف الحلال ويلتزمه، والحرام فيجتنبه، ويقوم بالامتثال والطاعة عن قناعة ورضى ومحبة التقرب من لله تعالى، ومراقبة النفس وتزكيتها وتعهدها بالمراقبة، حتى إذا اكتملت عقليته ونفسيته كان مسلمًا قويًا في كل أمور حياته. فمن الناحية العقدية، فهو يجعل أساس كل تصرفاته إرضاء الله وحده، والقيام بطاعته وحده، وبطاعة رسوله الكريم وحده فيما جاء به. ومن الناحية التعبدية، يقوم بكل ما هو مطلوب منه من صلاة وزكاة وحج وصوم… ويقوم بما هو فوقها، من قيام ليل والإكثار من النوافل وصيام التطوع والحج لأكثر من مرة والعمرة والتصدق والإكثار من الدعاء والذكر… ومن الناحية الأخلاقية، فهو يمتثل أحسن الأخلاق وأحبها إلى الله، فهو صادق مصدوق يراقب الله في كلامه وتصرفاته، وهو الأمين الوفي اللين الجانب من غير ضعف، البعيد عن اللغو والكذب والملاحاة والرياء… أما من ناحية معاملاته، فهي قائمة على الالتزام بالأحكام الشرعية المتعلقة في كل شؤون حياته من بيع وشراء.. فلا يغش ولا يحتكر ولا يرابي…
ومتى التزم المسلم بكل ما هو مطلوب منه جاعلًا أساس التزامه إيمانه بالله، فإنه يكون ذلك المسلم الذي يمكن أن يقال بحق بأنه يحب الله ورسوله، وينطبق عليه قوله تعالى: ﴿ قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١ قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٣٢﴾ [آل عمران]. وإلا فما معنى أن يحتفل المسمون بذكرى المولد وهم عن طاعة الله ورسوله غافلون، وهذا المعنى الجامع للطاعة مفقود لديهم.
أما بالنسبة إلى الدولة:
فقد جعل الله سبحانه الدولة الإسلامية من الأحكام الشرعية التي أناط بها تنفيذ الكثرة الكاثرة من الأحكام الشرعية. والشرع جعل للدولة الإسلامية صلاحيات تتقيد بها ومهمات تنفذها، وهذه نفهمها من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله: وهي متعلقة بأنظمة الحياة: نظام الحكم، والنظام الاقتصادي، النظام الاجتماعي، وسياسة التعليم، والسياسة الخارجية. فأي دولة إسلامية تقام، فهذا هو مجال عملها.
-
فنظام الحكم في الإسلام ثابت باق كما هو على مر الزمان والمكان (هناك خليفة ومعاونون وولايات ومجالس قضاء وشورى وجهاز إداري…) وتكون السيادة فيه للشرع فقط، والدستور قائم على العقيدة الإسلامية، والأحكام الشرعية مستنبطة فيه بطريقة اجتهاد صحيح…
-
والنظام الاقتصادي قائم على الأحكام الشرعية التي تحدد طرق التملك المشروعة في الإسلام، وطرق تنميتها، وعلى منع الاحتكار، وجعل الذهب هو أساس العملة، وتحرص على توزيع المال وعدم تركُّزِه في أيدي فئة قليلة من الناس، وله نظامه الخاص في إنشاء الشركات، وفي البيع والشراء والضمان والرهن… والملكية فيه تقوم على الملكية الفردية، وملكية الدولة، والملكية العامة، ولكل ملكية أحكامها الشرعية الخاصة بها…
-
والنظام الاجتماعي الذي يضبط علاقة الرجل بالمرأة ضبطًا شرعيًا خاصًا يمنعهما من ارتكاب الحرام؛ فيمنع الخلوة والاختلاط… ويجعل الحياة بينهما قائمة على أساس من الاحترام المتبادل، وعلى الطهر ونظافة النسب، وقيام كل منهما بدوره المناط به في الحياة… ويرعى كل ما تولَّد عن هذه العلاقة بينهما من طلاق وزواج وكفالة ورضاعة…
-
النظام التعليمي، ويحرص فيه على إنشاء أجيال إسلامية في شخصيتها، وتصل إلى أعلى سلم الاختراعات المفيدة للبشرية التي تستخدمها في خدمة الفرد المسلم وتسهيل حياته وتوفير أسباب الراحة له، وفي خدمة الدولة الإسلامية في حملها لرسالة الإسلام بقوة العلم والاختراعات…
-
أما السياسة الخارجية للدولة؛ فتكون الصورة الأبرز لها أمام الدول الأخرى أنها دولة إسلامية ذات رسالة، وتجعل أساس علاقتها بغيرها من الدول الدعوة إلى الله ونشر الإسلام…