عامة علماء المسلمين: حديث الآحاد لا يفيد الاعتقاد (2)
ابو عبيدة معاوية الحيجي
جمع الكاتب أقوال علماء الأمة في مسألة كثر الكلام عنها، وهي: (حديث الآحاد، وماذا يفيد: الظن أم اليقين؟)؛ وذلك ليبين للمسلمين أن رأي عامة علماء المسلمين في هذه المسألة هو أنها تفيد الظن، ويجب العمل بها في الأحكام الشرعية، ولا تفيد العلم في العقيدة، وبالتالي لا يجب أخذها فيها، وقد قسم الكاتب العلماء الذين تحدثوا في الموضوع إلى فئات، أولهم أهل التفسير، ثم شرَّاح الحديث، ثم علماء مصطلح الحديث، ثم أصحاب أصول الفقه، ثم أقوال متفرقة للعلماء، وجعل لكل فئة زمرة، وعرض أقوال العلماء في كل زمرة؛ وذلك كمثال على صحة الرأي وانتشاره بين العلماء، وليس العكس.
وقد عرضنا في العدد السابق أقوال أهل التفسير وشرَّاح الحديث، وسنعرض في هذا العدد أقوال علماء مصطلح الحديث، ثم أقوال أصحاب أصول الفقه، ثم أقوال متفرقة للعلماء:
علماء مصطلح الحديث
-
المقترب في بيان المضطرب، المؤلف: أحمد بن عمر بن سالم بازمول: قال العلائي: “إن مدار قبول خبر الواحد على غلبة الظن. وعند الاختلاف فيما هو مقتضٍ لصحة الحديث أو لتعليله، يرجع إلى قول الأكثر عددًا؛ لبعدهم عن الغلط والسهو. وذلك عند التساوي في الحفظ والإتقان. فإن تفارقوا واستوى العدد فإلى قول الأحفظ والأكثر إتقانًا. وهذه قاعدة متفق على العمل بها عند أهل الحديث” (ونسبه الى نظم الفرائد)
-
المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي، المؤلف: محمـد بن إبراهيم بن جماعة: “وأما أخبار الآحاد، فخبر الواحد كل ما لم ينتهِ إلى التواتر، وقيل هو ما يفيد الظن”.
-
اليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر، عبد الرؤوف المناوي: “الذي ذهب إليه الإمامان والغزالي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي؛ حيث قالوا خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة”.
-
تحقيق الرغبة في توضيح النخبة، فضيلة الشيخ / عبد الكريم بن عبد الله الخضير: “وقد اختلف العلماء فيما يفيده خبر الواحد على أقوال: أولًا: إن خبر الواحد لا يفيد العلم وإنما يفيد الظن مطلقًا، ونسبه النووي إلى المحققين والأكثرين، وحجة هؤلاء أن الراوي وإن كان ثقة حافظًا ضابطًا غير معصوم من الخطأ والسهو، وإذا وجد هذا الاحتمال فإن النفس لا تجزم بصحة الخبر. ثانيًا: وذهب حسين الكرابيسي وداود الظاهري والحارث المحاسبي إلى أن خبر الواحد إذا صح يوجب العلم، وهو مروي عن الإمام أحمد. ولعل مما يحتج لهؤلاء وجوب العمل به والعمل ملازم للعلم؛ لأن الظن لا يغني من الحق شيئًا. ثالثًا: إنه يوجب العلم ويقطع به إذا احتفت به قرينة، مثل: أ – كون الحديث مشهورًا بحيث تكون له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل. ب – كون الحديث مسلسلًا بالأئمة الحفاظ المتقنين، وذلك بأن يكون رجال إسناده الأئمة كأحمد عن الشافعي عن مالك. ج- أن يكون الحديث مما أخرجه الشيخان في صحيحيهما لجلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، ولتلقي الأمة لكتابيهما بالقبول. الراجح: لعلّ أرجح هذه الأقوال ما اختاره الحافظ ابن حجر من أن خبر الواحد إذا احتفت به قرينة أفاد العلم وإلا فلا، ورجّحه ابن القيم أيضًا وأطال في تقريره في الصواعق. وممن صرَّح بذلك الغزالي في المنخول، والرازي في المحصول، والآمدي وابن الحاجب، ونقله السفاريني في لوامع الأنوار عن الإمام الموفق وابن حمدان والطوفي، وقال المرداوي في شرح التحرير: وهذا أظهر وأصح. اهـ . وسبب ترجيحه أن القرينة التي احتفت بالخبر تكون في مقابل الاحتمال الذي أبداه أصحاب القول الأول”.
-
جامع التحصيل في أحكام المراسيل (ص: 73) أبو سعيد بن خليل بن كيكلدي أبو سعيد العلائي المحقق: حمدي عبد المجيد السلفي: “لا سبيل إلى القطع إلا في الخبر المتواتر، وأما خبر الواحد فلا يفيد إلا الظن”.
-
شرح التبصرة والتذكرة (ص: 38) الحافظ العراقي: “حيثُ قال أهلُ الحديثِ: هذا حديثٌ صحيحٌ، فمرادُهُم فيما ظهرَ لنا عملًا بظاهر الإسنادِ، لا أَنَّهُ مقطوعٌ بصحتِهِ في نفسِ الأمرِ، لجوازِ الخطأ والنسيانِ على الثقةِ، هذا هو الصحيحُ الذي عليه أكثرُ أهلِ العلمِ، خلافًا لِمَنْ قالَ: إنَّ خبرَ الواحدِ يوجبُ العلمَ الظاهرَ كحسين بن علي الكرابيسيِّ وغيرِهِ”.
-
شرح نخبة الفكر للقاري (ص: 215): “وقد يقع فيها، أي في أخبار الآحاد، أي المفيدة للظنّ. (المنقسمة إلى مشهور، وعزيز، وغريب ما يفيد العلم) قال القاضي في شرح مختصر ابن الحَاجِب: اختلف في خبر الواحد العدل، والمختار أنه يفيد العلم بانضمام القرائن. وقال قوم: يحصل بالقرائن وبغيرها أيضًا، ويطّرد أي كلما حصل خبر الواحد حصل العلم. وقال قوم: لا يطَّرِد، أي قد يحصل العلم به لكن ليس كلما حصل، حصل العلم به. وقال الأكثر: لا يحصل العلم به لا بقرينة، ولا بغير قرينة”. كما جاء في شرح نخبة الفكر للقاري (ص: 217): “الاتفاق حاصل على أنّ الآحاد إنما يفيد الظن لا اليقين” كما جاء في شرح نخبة الفكر للقاري (ص: 218): “مَن قال بأن خبر الواحد يفيد العلم، أراد أنه يفيد العلم النظري المستفادَ بالنظر في القرائن، لا بنفس خبر الآحاد بدون النظر في القرائن. ومَن قال: بأنه لا يفيد العلم إلا المتواتر، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن أراد، أنه بدون القرائن لا يفيد إلا الظن. ولا ينفي أن ما احتفَّ بالقرائن أرجح مما عداه؛ بحيث يترقى عن مرتبة إفادة الظن إلى إفادة العلم، فيكون الخلاف لفظيًا”.
-
الشيخ محـمد جمال الدين القاسمي كتابه (قواعد التحديث) الطبعة الثانية، دار إحياء الكتب العربية، (ص 147 و 148): “الذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الأصول أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم. وهذا كله لا شك في شيء منه، والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد، وقد جاء الشرع بوجوب العمل به فوجب المصير إليه. وأما من قال يوجب العلم فهو مكابر للحس، وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك متطرق إليه”.
-
الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي (ص: 25): “ذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم وإبطالها” هذا عنوان لفصل كامل عقده البغدادي، وجاء فيه (ص: 432): “خبر الواحد لا يقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها” وجاء فيه (ص: 432): “ولا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل وحكم القرآن الثابت المحكم والسنة المعلومة والفعل الجاري مجرى السنة كل دليل مقطوع به”. كما قال الإمام الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) (ج:1، ص: 96) ما نصه: ” إن أخبار الآحاد المروية في كتب السنن الصحاح فإنها توجب العمل ولا توجب العلم”.
-
المختصر في علم الأثر (ص: 167): “إن ما اتفق عليه الشيخان من الصحيح يفيد الظن بصحته وبمضمونه ما لم يتواتر خلافًا للبعض؛ لكونه من قبيل غير المتواتر؛ فظهر ضعف قول من قال إنه يفيد القطع بصحته لاجتماع الأمة على تلقيه بالقبول بناءً على أن الكلام ههنا في الخبر نفسه مع قطع النظر عما عداه لا في الخبر مع انضمام إجماع الأمة إليه. ألا ترى أنهم يقولون خبر الواحد لا يفيد إلا الظن وإن كان يفيد العلم في بعض المواضع بانضمام القرائن إليه، فإذًا القول ههنا قول الجمهور لا غير”.
-
تحرير علوم الحديث لعبد الله الجديع (1/ 34): “والأكثرون من أهل العلم على أن خبر الواحد الثابت يوجب العمل بمقتضاه، ولا يوجب القطع خلافًا لابن حزم وطائفة”.
-
علم مصطلح الحديث (ص: 5) لابن عثيمين: “وتفيد أخبار الآحاد سوى الضعيف: أولًا: الظن وهو: رجحان صحة نسبتها إلى من نقلت عنه، ويختلف ذلك بحسب مراتبها السابقة، وربما تفيد العلم إذا احتفت بها القرائن، وشهدت بها الأصول”.
-
روضة الناظر وجنة المناظر (1/ 341) ابن قدامة المقدسي: “اختلفت الرواية عن إمامنا -رحمه الله- في حصول العلم بخبر الواحد: فروى: أنه لا يحصل به. وهو قول الأكثرين والمتأخرين من أصحابنا؛ لأنَّا نعلم -ضرورة- أنَّا لا نصدق كل خبر نسمعه. ولو كان مفيدًا للعلم: لما صح ورود خبرين متعارضين؛ لاستحالة اجتماع الضدين. ولجاز نسخ القرآن والأخبار المتواترة به، لكونه بمنزلتهما في إفادة العلم، ولوجب الحكم بالشاهد الواحد، ولاستوى في ذلك العدل والفاسق كما في المتواتر. وروي عن أحمد أنه قال في أخبار الرؤية (يقطع على العلم بها) وهذا يحتمل أن يكون في أخبار الرؤية وما أشبهها، مما كثرت رواته، وتلقته الآمة بالقبول، ودلت القرائن على صدق ناقله، فيكون إذًا من المتواتر؛ إذ ليس للمتواتر عدد محصور. ويحتمل أن يكون خبر الواحد عنده مفيدًا للعلم. وهو قول جماعة من أصحاب الحديث وأهل الظاهر. قال بعض العلماء: إنما يقول أحمد بحصول العلم بخبر الواحد فيما نقله الأئمة الذين حصل الاتفاق على عدالتهم وثقتهم وإتقانهم، ونقل من طرق متساوية، وتلقته الأمة بالقبول، ولم ينكره منهم منكر؛ فإن الصِّدِّيق والفاروق -رضي الله عنهما- لو رويا شيئًا سمعاه أو رأياه، لم يتطرق إلى سامعهما شك ولا ريب، مع ما تقرر في نفسه لهما، وثبت عنده من ثقتهما وأمانتهما؛ ولذلك اتفق السلف في نقل أخبار الصفات، وليس فيها عمل، وإنما فائدتها: وجوب تصديقها، واعتقاد ما فيها؛ لأن اتفاق الأمة على قبولها إجماع منهم على صحتها، والإجماع حجة قاطعة”.
علماء أصول الفقه
1 – الدكتور محـمد الزحيلي أستاذ كلية الشريعة الإسلامية جامعة دمشق في كتابه (أصول الفقه الإسلامي) (طبعة 1975 ص 163 ـ 164) تحت باب حجية خبر الآحاد ما نصه: “خبر الآحاد يفيد غالبية الظن من حيث وروده عن رسول الله حتى توافرت فيه شروط الراوي التي وضعها علماء الحديث كالثقة والعدالة والضبط وغير ذلك، ولكنه يجب العمل به مع الشك في ثبوته. والآحاد حجة يجب العمل بها واتباع ما ورد فيها، ولكن لا يؤخذ بحديث الآحاد في الاعتقاد؛ لأن الأمور الاعتقادية تبنى على الجزم واليقين، ولا تبنى على الظن ولو كان راجحًا؛ لأن الظن في الاعتقاد لا يغني عن الحق شيئًا”.
2 – أصول السرخسي (1/ 321): “باب: الكلام في قبول أخبار الآحاد والعمل بها، قال فقهاء الأمصار رحمهم الله: خبر الواحد العدل حجة للعمل به في أمر الدين، ولا يثبت به علم اليقين”.
3 – إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (1/ 133) الشوكاني: “الآحاد وهو خبر لا يفيد بنفسه العلم سواء كان لا يفيد أصلًا، أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه، فلا واسطة بين المتواتر والآحاد، وهذا قول الجمهور”.
4- الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات (ص: 46) المؤلف / شمس الدين محـمد بن عثمان بن علي المارديني الشافعي (والورقات أصلها لإمام الحرمين الجويني) قال: “والآحاد الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم) أقول (المارديني) لما فرغ من أخبار التواتر شرع في أخبار الآحاد، ورسم الآحاد بالذي يوجب العمل ولا يوجب العلم؛ لأن خبر الآحاد ظني لتطرق الوهم إلى الآحاد”.
5- الضروري في أصول الفقه (ص: 29) ابن رشد الحفيد: “فأما خبر الآحاد بحسب ما حد في هذه الصناعة فهو مما لم ينتهِ أن يفيد اليقين في موضع ما بخبر الواحد بحسب ما يقترن بذلك من قرائن، قلنا هذا وإن كان غير ممتنع فهو مما يقل وجوده، ولعل ذلك يقع في حق شخص ما ونازلة ما. ولتفاوت هذا الظن الواقع في النفس عند اقتران القرائن بأخبار الآحاد رأى بعضهم أن خبر الواحد قد يفيد اليقين”.
6- مهيع الوصول إلى علم الأصول، نَظمُ الإمَامِ أبِي بَكر مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَاصِمِ الأندَلُسِيِّ الغَرنَاطِيِّ المـُتَوفَّى سَنَةَ 829هـ، وَهُوَ نظمٌ لكِتَابِ «تَقْرِيبِ الوُصُولِ إلى عِلمِ الأُصُولِ» لجَدِّ النَّاظِمِ الإمَامِ أبِي القَاسِمِ مُحمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ جُزَي الكَلْبيِّ الغَرنَاطيِّ المُتوفَّى سَنَةَ 741هـ
“وأما خبر الآحاد … فالعلم منه غير مستفاد لكن يفيد الظن في الأمور … و هو بنقل واحد مشهور”
7- الجامع لمسائل أصول الفقه (ص: 297) تَأليفُ الأُستاذِ الدّكتورِ عَبدِ الكَريمِ بنِ عَلِيٍّ النَّملة الأستاذ في قسم أصول الفقه بكلية الشريعة بالرياض جامعة الإمام محـمد بن سعود الإسلامية: “يرجح خبر المتواتر على الآحاد والمشهور؛ لأن المتواتر يفيد القطع بخلاف خبر الآحاد والمشهور فإنه لا يفيد إلا في الظن، والقطع مقدم على الظن”.
8- الشرح على شرح جلال الدين المحلي للورقات (ص: 182) شرح أحمد بن عبد الله بن حميد: “خبر الآحاد، والآحاد وهو مقابل التواتر، هو الذي يوجب العمل، ولا يوجب العلم لاحتمال الخطأ فيه”. وقال أيضًا في الشرح على شرح جلال الدين المحلي للورقات (ص: 183): “لكن ما الذي يفيده خبر الآحاد؟ هل يفيد الظن أو يفيد اليقين؟ الجمهور على أنه يفيد الظن، قالوا: لأن احتمال الخطأ فيه وارد؛ فلهذا يفيد الظن، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: إنه يفيد العلم أي اليقين إذا احتفت به القرائن، فإنه يفيد كعمل الأمة، أو كونه من رواية الشيخين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – ففي هذه الحال إنه يفيد اليقين”.
9- الإشارة في معرفة الأصول والوجازة في معرفة الدليل، تصنيف الإمام القاضي الفقيه الحافظ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت: 474 هـ): “وأما خبر الآحاد فما قصر عن التواتر، وذلك لا يقع به العلم، وإنما يغلب على ظن السامع له صحته؛ لثقة المخبر به؛ لأن المخبر وإن كان ثقة يجوز عليه الغلط والسهو، كالشاهد”.
10- شرح الورقات في أصول الفقه/المحلي (ص: 145): “والآحاد، وهو مقابل المتواتر، هو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم لاحتمال الخطأ فيه”.
11- شرح الورقات للشيخ محـمد الحسن الدد (ص: 63) شرح متن الورقات للجويني للشيخ محـمد الحسن الددو الشنقيطي قوله: “ولا يوجب العلم” أي: ما لم يحتفَّ بالقرائن، فقد يحتف خبر الآحاد بالقرائن، فيقتضي العلمَ الضروري كذلك.
12- الإمام الجويني: “وأما الأخبار، فالخبر ما يدخله الصدق والكذب، والخبر ينقسم إلى قسمين: آحاد ومتواتر، فالمتواتر ما يوجب العلم، وهو أن يروي جماعة لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم إلى أن ينتهي إلى المخبَر عنه، ويكون في الأصل عن مشاهدة أو سماع لا عن اجتهاد، والآحاد هو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم”.
13- الإمام الغزالي (المستصفى من علم الأصول): “اعلم أنَّا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلًا فهو خبر الواحد. وأما قول الرسول عليه السلام مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد. وإذا عرفت هذا فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة أنَّا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدَّرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين، وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل؛ إذ يسمى الظن علمًا؛ ولهذا قال بعضهم يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن”.
14- الإمام سعد الدين مسعود ابن عمر التفتازاني الشافعي المذهب، المتوفى عام 792ﻫ في كتابه (شرح التلويح على التوضيح لمتن كتاب التنقيح في أصول الفقه) الجزء 2: “خبر الواحد وإن كان ظنيًا يوجب العمل دون علم اليقين، وقيل لا يوجب شيئًا منهما، وقيل بوجوبهما جميعًا. ووجه ذلك أن الجمهور ذهبوا إلى أنه يوجب العمل دون العلم، وقد دل على ذلك ظاهر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ﴾، ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ ﴾ [النجم: 23]… والعقل شاهد بأن خبر الواحد العدل لا يوجب اليقين، وإن احتمال الكذب قائم”. وأضاف الإمام التفتازاني في نفس المصدر (ص432) ما نصه: “والأخبار في أحكام الآخرة مثل عذاب القبر وتفاصيل الحشر والصراط والحساب والعقاب إلى غير ذلك والتي لا توجب إلا الاعتقاد، أي التي لا تتطلب منا إلا التصديق الجازم. قد يقول قائل فيها، أي في هذه الأخبار، أن خبر الواحد يحتمل الصدق والكذب. وبالعدالة، أي عدالة الراوي، يترجح الصدق بحيث لا يبقى احتمال الكذب، وهو معنى العلم. وجوابه أنَّا لا نسلم ترجح جانب الصدق إلى حيث لا يحتمل الكذب أصلًا بل العقل شاهد بأن خبر الواحد العدل لا يوجب علم اليقين، وأن احتمال الكذب قائم وإن كان مرجوحًا. والإلزام القطع بالنقيضين عند أخبار العدلين بهما، وجواب الأول وجهان: أحدها أن الأحاديث في باب الآخرة فيها ما اشتهر فيوجب علم الطمأنينة، وفيها ما هو خبر الواحد فيفيد الظن وذلك في التفاصيل والفروع، ومنها ما تواتر فيفيد القطع واليقين”.
أقوال متناثرة للعلماء
-
الشيخ الألباني (وهذا من تناقضاته العجيبة)
سؤالات أبي الحسن المأربي للعلامة المحدث الألباني (ص: 9) المكتبة الشاملة (س: 29): “ما القول في خبر الآحاد؟ ج/ خبر الآحاد يفيد الظن الراجح إلا إذا احتفت به القرائن. والشيخ رحمه الله يتعجب من بعض الأفاضل من العلماء الذين يقولون بأن خبر الآحاد يفيد العلم القطعي (ولعله يقصد ابن حزم رحمه الله) وذلك لأن احتمال الخطأ وارد في رواية الواحد” اهـ. (ملاحظة: إن هذه الأسئلة مسجلة في سلسلة من الشرائط تحت عنوان: “الدرر في مسائل المصطلح والأثر” من 8 شرائط ويمكن تحميلها من موقع طريق الإسلام من مكتبة الشيخ الألباني رحمه الله) وفي موسوعة الألباني في العقيدة (1/ 335) المكتبة الشاملة: “ينبغي أن يعلم أن القول بأن خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن الراجح ليس مسلمًا على إطلاقه، بل فيه تفصيل مذكور في موضعه. والذي يهمنا ذكره الآن هو أن خبر الآحاد يفيد العلم واليقين في كثير من الأحيان، من ذلك الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مما لم ينتقد عليهما، فإنه مقطوع بصحته”. وفي موسوعة الألباني في العقيدة (1/ 346) المكتبة الشاملة: “حديث الآحاد في واقع الأمر يفيد الظن الغالب، هذا هو الأصل في خبر الآحاد، لكن كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: خبر الآحاد إذا اقترنت به قرينة من قرائن أفاد بسبب انضمام هذه القرائن إليه العلم واليقين”.
2- شيخ الإسلام ابن تيمية، الفتاوى الكبرى (5/ 81): “وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يُفِيدُ الْعِلْمَ إذَا احْتَفَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُفِيدُ الْعِلْمَ. وَعَلَى هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَوَاتِرُ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا يَعْلَمُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ: تَارَةً لِتَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ، وَتَارَةً لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ كَالإسْفَرايِينِيّ وَابْنِ فُورَكٍ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، لَكِنْ لَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَلَقِّيه بِالتَّصْدِيقِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ عَلَى حُكْمٍ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إلَى ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ خَبَرِ وَاحِدٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَصِيرُ قَطْعِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ”.
الفتاوى الكبرى (5/ 575): “ذَلِكَ أَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ يُوجِبُ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يُوجِبُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ”.
المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 68) مسألة: “خبر الواحد يوجب العمل وغلبة الظن دون القطع في قول الجمهور؛ وارتضى الجويني من العبارة أن يقال: لا يفيد العلم ولكن يجب العمل عنده؛ لا به، بل بالأدلة القطعية على وجوب العمل بمقتضاه؛ ثم قال: هذه مناقشة في اللفظ، ونقل عن أحمد ما يدل على أنه قد يفيد القطع إذا صح واختاره جماعة من أصحابنا”.
المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 73): فصل: “أخبار الآحاد تصلح لإثبات الديانات… مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات. قال القاضي في مقدمة المجرد: وخبر الواحد يوجب العلم إذا صح ولم تختلف الرواة فيه وتلقته الأمة بالقبول. وأصحابنا يطلقون القول به، وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول، والمذهب على ما حكيت لا غير”
المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 128): “هل يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد… مسألة: يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد، قال ابن عقيل: وهو قول أكثر الفقهاء، ذكرها في أواخر كتابه، قال أبو سفيان: وهو مذهب شيوخنا: قال: وقال بعض شيوخنا: لا يجوز. قال شيخنا: تكلم على ذلك ابن عقيل بكلام ذكره، فقال: هذا [على] ما يقع لي خلاف في عبارة وتحتها اتفاق، فإن خبر الواحد لا يعطي علمًا، ولكن يفيد ظنًا، ونحن إذا قلنا إنه يثبت به الإجماع فلسنا قاطعين بالإجماع ولا بحصوله بخبر الواحد بل هو بمنزلة ثبوت قول النبي صلى الله عليه وسلم والمنازع قال: «الإجماع دليل قطعي» وخبر الواحد دليل ظني، فلا يثبت قطعيًا”.
منهاج السنة النبوية (7/ 379) لابن تيمية: “وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة، وإذا قالوا ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره، قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمته أولًا، وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته، فإنه دور ولا تثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها”.
3– الإمام عبد القاهر البغدادي. قال الإمام عبد القاهر بن طاهر بن محـمد البغدادي الإسفرائيني التميمي المتوفى عام 429ﻫ في كتابه (أصول الدين) الطبعة الأولى 1928 الصادرة في إستنابول ص 12 ما نصه: “وأخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل كانت موجبة للعمل بها دون العلم”. وقال الإمام عبد القاهر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) طبعة دار المعرفة (ص 325 ـ 326) ما نصه: “وأما أخبار الآحاد، فمتى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل كانت موجبة للعمل بها دون العلم، وكانت بمنزلة شهادة العدول عند الحاكم في أن يلزم الحكم بها في الظاهر وإن لم يعلم صدقهم في الشهادة. وبهذا النوع من الخبر أثبت الفقهاء أكثر فروع الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الحلال والحرام، وضللوا من أسقط وجوب العمل بأخبار الآحاد في الجملة”.
4- الإمام عبد الرحمن الجزيري (الفقه على المذاهب الأربعة) ج5 ص 391 و 392 في معرض حديثه عن حقيقة السحر، وعن ما قيل في سحر النبي ما نصه: “ولم يبقَ للقائلين بأن السحر له أثر حقيقي إلا الاستدلال بحديث البخاري الذي رواه عن عائشة رضي الله عنها من أن النبي قد سحر، وأنه كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وهذا حديث صحيح لم يتعرض أحد للقدح في أحد من رواته، ومن الحسن أن يقال: إن مثل هذه الأحاديث تجزئ في المسائل الفرعية لا في المسائل الاعتقادية، فإن العقائد لا تبنى إلا على الأدلة اليقينية. وهذه الأحاديث مهما كانت صحيحة فهي أحاديث آحاد لا تفيد إلا الظن، لأن الأحاديث الصحيحة يجب أن يكون لها قيمتها في الإثبات. فهي معضدة للبراهين العقلية”.
5- الأمير الصنعاني كتابه (توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار) ج1، ص 24 – 25 ما نصه: “إن الصحيح الذي عليه أكثر العلم أن خبر الآحاد وهو حديث صحيح ولكنه ليس مقطوعًا به في نفس الأمر؛ لذلك فهو لا يكلف أحدًا إلا بالعمل دون العلم؛ هذا هو الصحيح الذي عليه أكثر العلم خلافًا لمن قال أن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر كحسين بن علي الكرابيسي”.
6- الكفوي كتاب الكليات (ص: 44) المؤلف: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي: “ونقل الإجماع إلينا قد يكون بالتواتر فيفيد القطع، وقد يكون بالشهرة فيقرب منه، وقد يكون بخبر الواحد فيفيد الظن ويوجب العمل”. وفي كتاب الكليات (ص: 416): “وحكم الخبر الواحد أنه يوجب العمل دون العلم، ولهذا لا يكون حجة في المسائل الاعتقادية لأنها تبنى على الاعتقاد، وهو العلم القطعي. وخبر الواحد يوجب علم غالب الرأي وأكبر الظن لا علمًا قطعيًا”.ٍ
وبعد أخي المسلم هذا قليل من كثير مما هو موجود في كتب العلماء حول هذه المسألة. ولعلي أنصح من ذم تقليد العلماء أن يلتزموا بقولهم هذا ولا يقلدوا الألباني ولا ابن حزم، وانما يعودوا بأنفسهم إلى كتب أهل السنة القدامى، وليس إلى كتب من نسب نفسه من المعاصرين إلى أهل السنة وهو في الحقيقة يخالفهم في أهم بحث، ألا وهو العقيدة الإسلامية. والله ولي التوفيق