قواعد اتِّباع العلماء في أخذ الأحكام
2014/02/28م
المقالات
3,254 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
قواعد اتِّباع العلماء في أخذ الأحكام
حمد طبيب – بيت المقدس
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مسألة تعدّد الفتاوى في المسألة الواحدة عند الفقهاء؛ بين التحريم والتحليل، أو المنع والإجازة، وأصبح الناس في حيرةٍ من أمرهم عمّن يأخذون دينهم ومن يقلّدون من هؤلاء العلماء، وهم على نقيضين متباعدين في المسألة الواحدة!!… فما هي الضوابط الصحيحة في أخذ الرأي عن العلماء، أو ردّه وعدم أخذه؟ وللإجابة عن هذا السؤال المهمّ نبحث هذا الموضوع من عدّة زوايا:
1- ما هو الأصل الشرعي في طريقة فهم الأحكام ومعرفتها؟ 2- أين يجوز الاختلاف وتعدّد الفتوى، ومتى يحرم ذلك؟ 3- ما هي الضوابط الشرعية في إعطاء الرأي الشرعي والفتوى؟ 4-كيف يكون الترجيح بين الآراء الشرعية المتعدّدة عند المسلم؛ العامي والمتعلم؟ 5- ما هو واجب الدولة ووليّ الأمر في مسألة تعدد الآراء الفقهية؟ .
أما الزاوية الأولى؛ وهي الأصل الشرعي في فهم الأحكام والعمل بها؛ فإن الله عز وجل قد خاطب المسلمين خطاباً مباشراً -كلَّ فردٍ دون تمييز- لفهم النصوص من الآيات والأحاديث والعمل بمقتضى هذه النصوص، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) وقال: ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ) وقال عليه الصلاة والسلام: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» رواه البخاري.
فالأصل في النصوص الشرعية أنها كلام عربيٌّ مفهومٌ له دلالاتٌ ومعانٍ، والأصل في المسلم أن يفهم لغة القرآن؛ وهي اللغة العربية، وبذلك يستطيع المسلم أن يفهم خطاب الشارع من هذه النصوص، وأن يعمل بمقتضاها، وهذا الأمر قد طبقه معظم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث سمعوا القرآن يتنزّل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وسمعوا منه عليه الصلاة والسلام الأحاديث مباشرة؛ ففهموها ووعوها وعملوا بها، وهذا هو الأصل في هذا الأمر لكل مسلم، يقول (الدكتور عبد الكريم زيدان) في كتاب الوجيز في أصول الفقه:»..على كل مكلف طاعة الله ورسوله بلا استثناء، وهذا الواجب يستلزم حتماً معرفة ما شرعه الله جلّ جلاله؛ في القرآن أو على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. ومعرفة ما شرعه الله تكون بالرجوع إلى نصوص القرآن والسنة، واستفادة الأحكام منها بعد فهمها ومعرفة المراد فيها، فإن لم يجد المكلف الحكم صريحاً في هذه النصوص تحوَّل إلى الاجتهاد كما أمر الشرع؛ فيجتهد في نطاق الشريعة… هذا هو السبيل القويم للتعرف على الأحكام والعمل بها..» (الوجيز/411)
ولكن هذا الأمر يتعذَّر عند الكثير من المسلمين؛ بسبب عدم معرفة اللغة العربية، أو عدم التعمّق في معرفة معانيها وخاصةً بعدما كثر اللحن وابتعد الناس عن معرفة الفصحى من هذه اللغة… فيحتاج المسلم إلى من هو أعلم منه في فهم النصوص الشرعية للعمل بمقتضاها، -وهذا الأمر جائزٌ شرعاً بضوابط معينة سنذكرها عندما نتحدث عن الضوابط في ترجيح الرأي وأخذه،- وقد كان قسم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون بعضهم البعض عن مسائل معينة كانت تُشكل عليهم، ويصعب فهمها أحياناً، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاوتاً في فهم الصحابة للنصوص الشرعية فقال عليه الصلاة والسلام: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبيُّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» رواه الدارقطني .
وكان بعض الصحابة يتفوّق على بعض في فهم المسألة الواحدة، فقد ذكر القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قال: «رُوي أن عثمان قد أُتيَ بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضيَ عليها بالحدّ، فقال له علي رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)، وقال:( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ )؛ فالرضاع أربعة وعشرون شهراً، والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدَّها، وهذا يدل على عمق المعرفة الفقهية، وفهم الآيات ودلالاتها عند علي أكثر من عثمان رضي الله عنهما». قال في الوجيز: «… فإذا عجز المكلف عن معرفة الأحكام بهذا الطريق؛ أي (الاجتهاد بنفسه) فإن عليه أن يعمل كما أمره الله، فيسأل أهل العلم عن حكم الله في الواقعة التي يريد معرفة حكمها؛ قال تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) 411/الوجيز
هذا من حيث جواز السؤال واتباع من هو أعلم بالرأي، ويبقى الأصل على أصله؛ وهو تعلم اللغة العربية، وفهم نصوص الشريعة من القرآن الكريم والسنة النبوية مباشرة للعمل بمقتضاها كما ذكر الفقهاء.
أما بالنسبة للأمر الثاني وهو (متى يجوز الاختلاف) وتعدّد الفهم ومتى يحرم ذلك… فإن الاختلاف الذي حصل بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرّهم عليه هو ما كان محتملاً لتعدّد الفهم للمعنى؛ وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يصلينَّ أحدٌّ العصر إلا في بني قريظة» رواه البخاري عن ابن عمر؛ فهذا النص الشرعي احتمل أكثر من فهم عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأول: عدم جواز الصلاة إلا بعد وصول مضارب بني قريظة، حتى لو حلَّ وقتها وقارب على الانتهاء، والثاني: السرعة في المسير قبل فوات وقت الصلاة؛ وقد اختلف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ فصلى قسم منهم في الطريق، وقسمٌ امتنع عن ذلك فصلّى في بني قريظة، وقد أقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفهمين وأثنى عليهما .. فعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: «قال النبي ، صلى الله عليه وسلم، يوم الأحزاب: لا يصلينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلّي؛ لم يُرد منا ذلك، فذُكر ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يعنِّف واحداً منهم» رواه البخاري؛ قال الحافظ ابن حجر (رحمه الله): «قال السُّهيلي وغيرُه: في هذا الحديث من الفقه: «إنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النَّص معنى يخصِّصُه» فتح الباري/ 7/473، وقال ابن القيم (رحمه الله): «وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنّفهم؛ كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلّوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقالوا: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخّروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس». إعلام الموقعين 1/203
فإذا كان النص الشرعي يحتمل تعدد الفهم فإن ذلك الأمر جائز، ويحتاج إلى مرجّحات أخرى إن وجدت، وإلا يؤخذ من نفس النص حكمٌ شرعي ويتّبع… وهذا ما سنذكره في مسألة الترجيح للرأي… ولكن يحرم تعدد الرأي فيما كان قطعياً في المعنى ولا يحتمل أيّ معنىً آخر، كقوله تعالى:( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )؛ فإقامة الصلاة لا تحتمل معنىً آخر، وترك الربا أيضاً صريح في الآية، ولا يحتمل معنى آخر… ولا يجوز القول: هناك فهم في جواز ترك الصلاة… وقد بيَّن الأصوليون هذا المعنى فقال الامام المازري في كتاب (إيضاح المحصول من برهان الأصول) في بيان النص الذي لا اجتهاد فيه: «اللفظ الدال على الحكم بصريحه؛ على وجه لا احتمال فيه، ولعل هذا ذكر الصريح احترازاً من الاعتراض بفحوى الخطاب»-الإيضاح/ص305، وقال الأسنوي في نهاية السول: (والمجتَهَد فيه؛ هو الحكم الشرعي المظنون شرعاً، فخرج الأركان الأربعة، وحرمة الزنا، وشرب الخمر، وسائر الضروريات الدينية .. فالأمر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتواتر مع قوة الدلالة في الأحكام فيه يفيد القطع ضرورة…»، نهاية السول/(4/530)
قال الدكتور أحمد الزرقا: «لا مساغ للاجتهاد في مورد النص؛ لأن الحكم الشرعي حاصل بالنص، فلا حاجة لبذل الوسع في تحصيله. ولأن الاجتهاد ظني والحكم الحاصل به حاصل بظني، بخلاف الحاصل بالنص فإنه يقيني، ولا يترك اليقيني للظني».شرح القواعد الفقهية(147).
ونصل إلى النقطة الثالثة في الموضوع وهي: الضوابط الشرعية في إعطاء الرأي الشرعي؛ (الفتوى)، وأهم الضوابط الشرعية هي:
1- ارتكاز الرأي وانبثاقه من النص الشرعي؛ من القرآن والسنة الصحيحة وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة أو القياس، وعدم إعطاء الرأي بناءً على الهوى أو العقل وحده، دون الرجوع إلى النصوص. لأن العقل وحده لا يصلح للبناء التشريعي لأنه يخطئ ويصيب، فكل قولٍ يؤخذ منه ويرد إلا الوحي؛ لأنه لا يحتمل الخطأ ولا يجوز عليه ذلك…
فمن يعطي الرأي الشرعي لا بد أن يكون عنده معرفة بالنصوص وفهمها، ومعرفة بالقياس والإجماع، ولا بد له من الإحاطة بالناسخ والمنسوخ في النصوص، وكيفية الترجيح إذا تعارض نصان ظاهراً، سواء أكان هذان النصان حديثاً مع حديث آخر، أم حديثاً مع قرآن… قال عبد الكريم زيدان في الوجيز: «على المجتهد أن يعرف اللغة العربية؛ على وجه يتمكن به من فهم خطاب العرب ومعاني مفردات كلامهم وأساليبهم في التعبير، وأن يعرف الناسخ والمنسوخ، والأحاديث صحيحها من ضعيفها… « (ص402-405)
2-ولا بد أيضاً من فهم الواقع فهماً دقيقاً لإنزال النص المناسب على هذا الواقع، فلا تُنزّل نصوص الضرورات في الطعام والشراب على غيرها من الحاجات التي لا تصل إلى هذه المرتبة؛ كأخذ الربا مثلاً من أجل شراء سيارة، واعتبارها حاجة بمنزلة الضرورات الشرعية، فهذا الأمر فيه مخالفة في طريقة إنزال النصوص على وقائعها… يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: «…إن الاجتهاد في تحقيق المناط لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفتٍ، بل بالنسبة إلى كل مكلّف في نفسه… «والمناط هو فهم الواقعة المراد إنزال الحكم عليها». (ج4-ص94 )
وأما المصلحة في التشريع فإنها تكون حيث يكون النص، فالله سبحانه فقط هو الذي يقرّر مصالح العباد، وليس العقل الإنساني؛ لأن هذا العقل ناقص وعاجز عن الإحاطة بكل ما ينفع ويضرّ، فقد يرى العقل مصلحة في أمر وتكون مفسدة، وقد يراها مفسدة وتكون مصلحة، قال تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )، يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله): «… فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلُّها، وحكمةٌ كلّها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل…» (إعلام الموقعين 3/41)، يقول الشيخ محمد أبو زهرة «… إن المصلحة ثابتة حيث وجد النص، فلا يمكن أن تكون هناك مصلحة مؤكدة أو غالبة والنص القاطع يعارضها، إنما هي ضلال الفكر أو نزعة الهوى، أو غلبة الشهوة أو التأثر بحال عارضة غير دائمة، أو منفعة عاجلة سريعة الزوال، أو تحقيق منفعة مشكوك في وجودها، وهي لا تقف أمام النص الذي جاء من الشارع الحكيم، وثبت ثبوتاً قطعياً لا مجال للنظر فيه ولا في دلالته» (أصول الفقه- 294/ 295).
3- والأمر الثالث في هذه الضوابط هو أن لا يخالف الرأي نصاً أو رأياً صحيحاً صريحاً؛ من قرآن أو سنة، فلا اجتهاد في موضع النصوص الصريحة، وإذا خالف الاجتهاد رأياً صريحاً فإنه يضرب به عرض الحائط، فلا يقال إن الله عز وجل لم يجعل علينا في الدين من حرج لإباحة الربا؛ لأن الربا نصٌ صريح في الحرمة، يقول الإمام النووي (رحمه الله) في شرح صحيح مسلم: «… ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه، إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جليًّا…» (2/ 24)، ويقول الماوردي في الأحكام السلطانية: «… وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته، فلا مدخل له في إنكاره، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد فالخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه…» (2/10)
أما المسألة الرابعة وهي كيفية الترجيح بين الآراء المختلفة؛ فهنا نحتاج إلى قليل من البيان والتدقيق، وهذه المسألة تنقسم إلى عدة أقسام:
1- الترجيح لمن عنده القدرة على الموازنة والمقارنة بين النصوص، أي عنده علم شرعي؛ يمكنه من إعمال الدليل والنظر فيه، وترجيح أحد الدليلين على الآخر.
2- ترجيح العامي الذي ليس عنده قدرة على فهم النصوص؛ أي ليس عنده علم شرعي يرجع إليه.
فالترجيح عند الأول يكون بناءً على قرينة معينة ترجّح أحد الرأيين في الفتوى على الآخر؛ فمثلاً ينظر في رأيين فيرى أحدهما ارتكز على حديث ضعيف، فيتركه ويرجح الرأي الآخر، أو ينظر فيرى أن أحد الرأيين ارتكز على نصّ منسوخ بآخر فيتركه ويتبع الرأي الثاني… أو ينظر إلى دلالات اللغة العربية فيرى ترجيح أحد الرأيين بناء على قرينة لغوية؛ فهنا يجب أن تكون عند المرجح قرينة تقوي رأياً على آخر في الأخذ… قال الجويني في البرهان: «الترجيح تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن ولا ينكر القول به على الجملة… « (2/175)، والترجيح يكون بناء على غلبة الظن في فهم المسألة بعد بذل نهاية الوسع في فهم المسالة؛ لأن الاجتهاد يكون بطلب الظن في المسالة الفقهية كما ذكر الفقهاء؛ يقول الدكتور محمد الخضري في أصول الفقه: «وأما الفقهيات الظنية التي ليست عليها دليل قاطع فهي في مجمل الاجتهاد» (ص374)، وقال الأسنوي في كتاب نهاية السول: «والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية؛ وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين، وكذلك قواعد أصول الفقه»، وقال في تعريف الاجتهاد: «هو استفراغ الوسع في تحصيل الظن لحكم شرعي» (4/527)
وأما ترجيح العامي فإنه لا يكون بالهوى؛ لأن هذا الرأي أسهل، أو فيه مصلحة، إنما يجب أن يرتكز على أمرين، الأول: (الأعلمية)؛ وهذا يكون بالسماع من الناس أن العالم الفلاني أعلم من العالم الآخر، والثاني: (التقوى)؛ وهذه أيضاً تكون بالسماع والمتابعة لأحوال هذا العالم، فإذا اجتمعت في العالم هاتان الصفتان كان الترجيح بناءً عليها، فإذا اجتمع عنده عدة آراء لأكثر من عالم كلّهم أتقياء، فإنه ينظر في أيهم أعلم من الآخر عن طريق السماع من أهل العلم والتقوى ومن يوثق بدينه؛ قال الجويني: «…فليعلم الناظر أن المستفتي لا يتخير في تقليد من شاء من المفتين، ولكن عليه ضرب من النظر في تخير واحد منهم لمزية يتخيلها أو يظنها لمن يختار… « (البرهان 2/177). وقال سراج الدين الأرموي في التحصيل من المحصول: «لا يجوز الاستفتاء إلا ممن يغلب على ظنه كونه مجتهداً ورعاً، ويعلم ذلك بانتصابه للفتوى واجتماع المسلمين على سؤاله… « ( 2/305 )، وقال الخضري في كتاب الأصول: «لا يستفتى إلا من عُرف بالعلم والعدالة؛ فمن علم انتفاء أحد الوصفين فيه امتنع تقليده اتفاقاً» (ص382).
فلا يؤخذ -على سبيل المثال- ممن اشتهر بكثرة تردّده على الظلمة والفساق ومجالستهم لأن التقوى عنده أصبح فيها نظر؛ فالله تعالى يقول: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ويقول: ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا )، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس. ومن أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عليه وأرضى عليه الناس» رواه الترمذي بسند صحيح، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض» أخرجه الحاكم وصححه، وأخرج أحمد في مسنده، والبيهقي بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً».
ولا يؤخذ أيضاً من المتقلب في الفتوى حسب الهوى والمصلحة لأن الله عز وجل يقول: ( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ )؛ فاليوم يقول: الربا حرام، ثم بعد ذلك يؤوّل النصوص حسبما يراه هواه فيقول جائز اذا اقتضت المصلحة الاقتصادية، أو يقول: بلاد المسلمين كلها مطلع واحد في الصيام والفطر، ثم في العام التالي يقول: هناك تعدّد في المطالع في بلاد المسلمين، ويجوز اختلاف الصوم والفطر..، فمثل هؤلاء لا يؤخذ منهم رأي، ولا يقال هنا: معصيته عليه، ونحن نأخذ من علمه، فهذا يكون عند العالم المرجّح، لا عند العامي؛ الذي لا يقدر على معرفة الصحيح من السقيم، فهنا معصيته تؤثر في الأخذ والرد عند العامي …
ونصل إلى النقطة الأخيرة في هذا الموضوع وهي رأي وليّ الأمر في الترجيح، فقد كان الخلفاء رضي الله عنهم يتبنون رأياً شرعياً في المسائل الخلافية التي تجمع شمل الأمة، وتصبّ في طريق وحدتها؛ فمثلاً اتّبع أبو بكر رضي الله عنه في فترة خلافته رأياً في طلاق الثلاث، وخالفه عمر رضي الله عنه هذا الرأي عندما ولي الخلافة، جاء في شرح (صحيح مسلم) باب الطلاق: «… رأى عمر رضي الله عنه أيام خلافته تهافت الرجال على طلاق أزواجهم ثلاثاً بإنشاءٍ واحد، فألزمهم بما ألزموا به أنفسهم عقوبة أو تأديباً، والسنن صريحة في نسبة ذلك إليه»، واتَّبع أبو بكر أيضاً بوصفه ولي الأمر رأياً في تقسيم الفيء والغنائم من الأرض على المحاربين، وخالفه عمر رضي الله عنه فاستند إلى نصّ شرعي وهو قوله تعالى في سورة الحشر: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) روى الإما أبو عبيد في كتاب الأموال عن هُشَيْمَ بْنَ بَشِيرٍ حَدَّثَنَا: «قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ السَّوَادَ قَالُوا لِعُمَرَ: اقْسِمْهُ بَيْنَنَا، فَإِنَّا افْتَتَحْنَاهُ عَنْوَةً، قَالَ: فَأَبَى، وَقَالَ: فَمَا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ وَأَخَافُ إِنْ قَسَمْتُهُ أَنْ تَفَاسَدُوا بَيْنَكُمْ فِي الْمِيَاهِ، قَالَ: فَأَقَرَّ أَهْلَ السَّوَادِ فِي أَرَاضِيهِمْ، وَضَرَبَ عَلَى رؤوسِهِمُ الْجِزْيَةَ، وَعَلَى أَرَاضِيهِمُ الطَّسْقَ، وَلَمْ يَقْسِمْ بَيْنَهُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي: الْخَرَاجَ» (كتاب الأموال1/71)
فيجوز لولي الأمر أن يتّبع رأياً في الترجيح، ويُلزم به المسلمين ليجمع كلمتهم على هذا الرأي، والشرط في ولي الأمر هو أن يكون فعلاً ولي أمر للمسلمين أي أميراً للمؤمنين، أو خليفة المسلمين لأن الله عز وجل يقول: ( ا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) فيشترط أن تكون طاعته مقترنة أولاً بطاعة الله ورسوله، ويشترط أن تتوفر فيه صفة ولي الأمر من حيث إنه انعقد له الأمر بالطريقة الشرعية الصحيحة، ويشترط أيضاً أن يكون مسلماً تتوفر فيه شروط الانعقاد الشرعي التي ذكرها العلماء…
أما غير هؤلاء من الحكام في هذا الزمان، أو حتى من العلماء الأتقياء أو غير الأتقياء، فليس من صلاحيتهم أن يتبنّوا رأياً ملزماً شرعاً للناس، لأنه لا تتوفر فيهم صفات ولي الأمر الشرعي ..يقول الإمام القرافي في كتاب (أنوار البروق في أنواع الفروق): «… المعروف أن الخلاف نتيجة طبيعية لاختلاف الناس في الأفهام وفي النظر، وقد امتلأت كتب الفقه بالخلافات، وللخلاف أسباب ذكرها العلماء -ليس هنا موضع ذكرها- وإنما نريد التأكيد على وجود الخلاف؛ والإمام بحكم اضطلاعه بالولاية العامة تجاه رعيته، يلزمه أن يمنع التنافر والتنازع، وأن يرفع الخلاف بين الأمة، وهذا من أوجب واجباته»، وقال القرافي رحمه الله: «لو لم يرفع الإمام الخلاف لما استقرت الأحكام، ولبقيت الخصومات، وذلك يوجب التشاجر والتنازع وانتشار الفساد، وهذه تنافي الحكمة التي لأجلها نصّب الحكّام».وقال:» فحكم الحاكم يكون رافعاً للخلاف وملزماً للخصوم ولكن ليس على عمومه بل إذا كانت المسألة اجتهادية» (2/103)
هذا ما يتعلق بإيجاز بموضوع كيفية أخذ الرأي الشرعي، فعلى المسلم أن ينظر عمّن يأخذ دينه ولا يأتي يوم القيامة فيقول كما قال البعض من الخاسرين: ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) )أو ينطبق عليه قوله تعالى: ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ )؛ فكل إنسان سيقف بين يدي الله عز وجل وسيسأل عن كل صغيرة وكبيرة، ولا يُعذر بجهله، فيجب عليه أن يسأل أهل الذكر من أهل التقوى والعلم. قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) )، وقال عليه الصلاة والسلام في حق الصحابة الذين أمرهم قائدهم أن يدخلوا في النار؛ فيما رواه علي رضي الله عنه حين قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأمر عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟، قالوا: بلى، قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطباً وأوقدتم ناراً ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطباً فأوقدوا ناراً، فلما همّوا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض؛ قال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فراراً من النار أفندخلها؟!، فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: »لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً. إنما الطاعة في المعروف» رواه البخاري. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على رسول الله أُخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر – أو يعصب – على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود .
نسأله تعالى أن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
2014-02-28