صفقة القرن، وتغيير طبيعة الصراع الاستراتيجي في المنطقة، من عربي-(إسرائيلي) إلى عربي-إيراني
يأتي الحديث عن “صفقة القرن” في هذه الفترة من اشتعال المنطقة عقب قيام ثورات ما سمي بـ “الربيع العربي”، والتدخل العسكري الدولي المباشر فيها، وعلى وطء تدخل إيراني يهدد عروش أنظمة فيها؛ ما يجعلها تقدم خطره على خطر وجود (إسرائيل)، هذا إذا كانت (إسرائيل) تشكل خطرًا عليها بالأصل. وهذه الأنظمة التي تخاف على نفسها من التدخل الإيراني هي دول الخليج بالدرجة الأولى، وعلى رأسها السعودية. وهذا ما يجعل هذه الدول تدفع باتجاه تغيير طبيعة الصراع الاستراتيجي في المنطقة، من صراع عربي- (إسرائيلي) بنظرها إلى صراع عربي-إيراني، وتحت سقفه سيتم الضغط لتمرير “صفقة القرن”. إذًا، هناك عدد من دول المنطقة، لها مصلحة بإنجاز هذه الصفقة مثلها مثل (إسرائيل) إن لم يكن أكثر. وهي تسعى لإنجازه عاجلًا غير آجل؛ لتسمح لنفسها أمام شعوبها أن تقيم معها تحالفًا عسكريًا تواجه به هذا المد الإيراني المتعاظم السافر المهدد لأنظمتها، ولتتحول (إسرائيل) بعدها إلى دولة من دول المنطقة الفاعلة التي يجري التطبيع معها، وليتحول العداء بالتالي إلى إيران.
إن الصراع بين المسلمين وأعدائهم من اليهود، والذي يحمِل بعدًا دينيًا يجعل من القضية قضية مقدسة، ومن الصراع صراعًا مقدسًا، ويجمع الأمة ويوحدها على هدف يرضي الله سبحانه. وهو واجب على المسلمين… أما الصراع المذهبي الطائفي التعصبي بين المسلمين، فإنه يُحَمَّل بعدًا دينيًا، وهو من شأنه أن يفرق الأمة، ويجعل بأسها بينها، ويقضي على تطلعها للوحدة على أساس دينها وإقامة مشروعها العظيم مشروع إقامة الخلافة الراشدة التي تجمع المسلمين كل المسلمين في دولة واحدة، وهو حرام، وحرمته مغلظة، والدعوة إليه دعوة نتنة.
هذا الصراع الجديد يراد للمنطقة أن تغوص فيه بدمائها حتى الركب، صناعته أميركية بامتياز، أما طرفاه فكل من دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، وإيران.
أما السعودية التي تدَّعي أنها تتزعم ما يسمى بـ(السُنَّة) فإنه يقع على رأس سلم أولويات حكامها من آل سعود أن يدعموا ملكهم وليس الإسلام، بل هم يستخدمون الإسلام من أجل دعم ملكهم. وموقف الملك سلمان اليوم من وجود (إسرائيل) يذكرنا بموقف والده عبد العزيز آل سعود بالأمس منها عندما تنازل عن فلسطين لليهود، بحسب وثيقة كشفت، وهي مكتوبة بخط يده وممهورة بخاتمه، يعلن فيها أن: “لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم، كما تراه بريطانيا، التي لا أخرج عن رأيها، حتى تصيح الساعة”. نعم، إن آل سعود يعتبرون أن وجودهم في سدة الحكم، هي قضيتهم المصيرية، وليس الإسلام، ولا قضايا الإسلام، ومن أقرب الأمثلة على ذلك ما صرح به ابن سلمان مؤخرًا في 24/03/2018م لصحيفة الواشنطن بوست مدافعًا عن اتهام بلاده بأنها تصدر الفكر الوهابي الإرهابي في العالم، مبينًا أن استغلال السعودية للوهابية جاء بطلب من أصدقائه الغربيين، وأن سببه منع تقدم الاتحاد السوفياتي في دول العالم الإسلامي، فقال بالنص حسبما أوردته الصحيفة: “الاستثمار في المدارس والمساجد حول العالم ارتبط بالحرب الباردة، عندما طلبت الدول الحليفة من السعودية استخدام مالها لمنع تقدم الاتحاد السوفياتي في دول العالم الإسلامي”. وبالفعل فقد استغلت السعودية الفكر الوهابي أبشع استغلال، ودعمته لمصلحة تثبيت الحكم فيها. والمدقق في كلام ابن سلمان يجد أنه، بهذا القول، يثبت التهمة أكثر ويفضح دور دولته البشع في اللعب بورقة الفكر الوهابي بقوله في المقابلة نفسها: “إن الحكومات السعودية المتعاقبة فقدت المسار، والآن “نريد العودة إلى الطريق”.فهل بعد هذا البيان من حجة أمام المسلمين، عامتهم وعلمائهم، أن هذا النظام بعيد كل البعد عن الإسلام، منذ نشأته حيث إنه لا ينظر للإسلام إلا من باب الاستغلال لتدعيم حكمه، وليس العكس؟!. واليوم، لما وصلت السكين إلى رقبة حكام آل سعود، وأصبحوا في حالة خطر وجودي من إيران، يريدون أن يغير المسلمون مواقفهم معها لمصلحتهم. كذلك فإن رويبضات الحكم في دولة الإمارات، وخاصة أبناء زايد حكام أبو ظبي يتصدرون مع ابن سلمان مشهد عملية تغيير استراتيجية الصراع في المنطقة.
أما الطرف الآخر، وهو إيران، فإنها بنظر الأمة باتت ذلك الخنجر الذي تمزق به أميركا جسدها بواجهة طائفية مقيتة. فبعد أن سحبت أميركا معظم قواتها من المنطقة في عهد أوباما نتيجة خسائرها البشرية والمادية، جعلت إيران تتولى عنها حالة الصراع مع المسلمين مباشرة. فقامت إيران التي سلمتها أميركا الحكم في العراق على أسس طائفية بمساعدتها على إبقاء الأسد في الحكم، وقامت بذلك تحت عنوان أنها تشترك معه في محور دول الممانعة والمقاومة ضد (إسرائيل)؛ حيث تدعي أنها قضيتها المقدسة الأولى، وهي تشيع بين أشياعها أن المسلمين الآخرين قد تخلوا عنها، وأنهم عملاء للغرب ويريدون الصلح مع يهود. وهي تريد أن تتسلم مفاتيح هذه القضية… ومع الوقت صار يتبين أن تحريرها يمر عبر تثبيت نظام أسد العلماني والمخابراتي المجرم، والعميل لأميركا، وارتكابها معه أبشع المجازر بحق المسلمين في سوريا، ومثلها في العراق، ويمر كذلك باليمن وبالبحرين … ومن منطلق شعوبي طائفي مقيت. ثم هي من أجل ذلك، أنشأت ميليشيات القتل والثأر الطائفية في كل من لبنان والعراق وإيران نفسها، حتى من استجلبتهم من باكستان وأفغانستان، حرشتهم على أساس طائفي بغيض، فصاروا يعتبرون أنفسهم أنهم في حالة حرب مقدسة، وقامت عبرهم بمجازر يندى لها جبين كل مسلم، وبصورة تظهر فيها موروثًا طائفيًا من التشفي وحب الثأر والانتقام. وهكذا نرى أن حكام إيران وحكام الخليج يريدون أن يبعثوا بالفتنة من جديد. تلك الفتنة التي لعن الله من أيقظها، وسار أو ساهم فيها.
إن محاولة تقسيم الإسلام بين هذين الطرفين قائمة على قدم وساق، بينما الإسلام من ذلك براء؛ فتصور إيران لـ (الشيعة) أنها تريد الجهاد. وتحرير فلسطين هي قضيتها المصيرية، وهذه القضية قد خانها المسلمون الآخرون. وتصور دول الخليج أن الصراع هو بين (السنة) و(الشيعة)، وأنه صراع عقائدي خطير يتقدم على كل صراع… إنها جريمة ما بعدها جريمة بحق الإسلام والمسلمين، وخدمة للمشروع الأميركي؛ ولسوف يسألون.
هكذا تريد أميركا أن تغير طبيعة الصراع في المنطقة، وتحاول أن تنسي المسلمين عداءهم ليهود، وتبدله بعداء طائفي غرائزي مقيت يتم إحكامه بشكل دموي مأساوي.
إن “صفقة القرن” هذه التي يصرح ترامب إنها ستكون من أهم إنجازاته، وإنه سيحقق من خلالها سلامًا لم يستطعه الأوائل، سيعمل على فرضها بالمكر والإجرام؛ وذلك أسوة بما تقوم به في سوريا وفي المنطقة؛ لأنه يعتبر أن حل قضية فلسطين يأتي من ضمن فرض خطة أميركا للمنطقة ككل، عبر ما يعرف بـ “مشروع الشرق الأوسط الجديد”. ففي السابق كانت أميركا تسعى للحل وعندما تتعثر المفاوضات توقف سعيها. أما اليوم فيبدو أن تعاملها سيكون مختلفًا؛ فهي تبنت الحل الذي يعتبر الأقرب لمصلحة (إسرائيل)، ومشروعها للشرق الأوسط الجديد لا يمكن تحقيقه وأن تكون قضية فلسطين معلقة.
لذلك تعتبر المرحلة القادمة صعبة جدًا على المسلمين في فلسطين، لأن التآمر جاد أكثر من أي وقت مضى، والإجرام الدولي بحق المسلمين جارٍ من غير حسيب ولا رقيب. ولأن أهل فلسطين أهل غيرة على دينهم ومقدساتهم؛ فإننا نتوقع أن نكون أمام مشهد دموي جديد في فلسطين كما هو في سوريا واليمن وليبيا، حتى تتمكن أميركا من فرض صياغتها فرضًا. فالغرب، وعلى رأسه أميركا، بات يعرف أن الأمة لم ولن تسلم له أيًا من قضاياها، وخاصة فلسطين… وحيث إن الغرب لا يفاوض الأمة مباشرة، وإنما يفاوض أطرافًا لا تمثل الأمة تمثيلًا حقيقيًا؛ لذلك يجب التنبه الكبير والدور الخطير الذي يمكن أن تلعبه الأطراف التي تدعي تمثيل المسلمين؛ لأن هذه الأطراف عودتنا الانصياع للضغوط تحت حجة واهية لا يقرُّها الإسلام بشيء.
وفي ختام هذه الكلمة، فإننا نقول إن قضايا الأمة من فلسطين إلى سوريا إلى العراق، إلى اليمن إلى ليبيا، إلى الروهينجا، إلى كشمير، إلى تركستان باتت عند الأمة قضية واحدة، هي قضية إقامة الدين بإقامة دولة الخلافة التي تحل للمسلمين كل قضاياهم على أساس الإسلام، والغرب يعلم هذا؛ لذلك هو يحاربهم في دينهم تحت شعار محاربة الإرهاب، وكل حكام المسلمين يحاربون الأمة معه وتحت شعاراته، بمن فيهم إيران والسعودية، بل ويتحالفون معهم… ولقد قلنا من قبل وما زلنا نقول إن قضية فلسطين هي قضية المسلمين جميعهم، وليست قضية أهل فلسطين فحسب، ولا يملك قرار السلم والحرب فيها إلا الإسلام، وأرضها يملك رقبتها المسلمون، كل المسلمين، أما أهلها فيملكون منفعتها فقط. وبالرغم من أن اليهود قد حظوا على أكبر تأييد لإقامة دولتهم فيها، إلا أنها تبقى في نظر الإسلام وكأنها لم تقم، والمسلمون كل المسلمين مستعدون اليوم أن يقوموا بتحريرها متى قام نظام مخلص في الأمة ونادى مناديه للجهاد.
لا حل لقضية فلسطين إلا بالخلافة التي بفقدها فقدت وبرجوعها سترجع، وإن المسلمين عليهم أن يختصروا مآسيهم المتجددة والمتنقلة بالعمل الجاد لإقامة الخلافة. روى مسلم عن أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ»