مع القرآن الكريم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
1999/02/25م
المقالات
1,501 زيارة
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: )قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )* صدق الله العظيم.
قيل في سبب نزول هذه السورة أن المشركين حين رأوا صلابة المسلمين واستعلاءهم بدينهم واستحالة عودتهم عن عقيدتهم، سلكوا سبيلاً جديداً في تعاملهم مع رسول الله r وأتباعه، فقد جاءه الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شاركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيدك كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى هذه السورة. وورد الكثير من الآيات في القرآن الكريم تشابه هذه السورة في إعلان البراء التام من الكفر وأهله، والمفاصلة الحاسمة بين الإسلام وأهله، والكفر وأهله. فمن ذلك قوله تعالى: )وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) وقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
يقول ابن القيم رحمه الله: )إن هذه السورة تشتمل على النفي المحض وهذه خاصية هذه السورة، فإن سورة براءة من الشرك… ومقصودها الأعظم البراءة المطلوبة مع تضمنها للإثبات بأن له معبوداً يعبده، وأنتم بريئون من عبادته، وهذا يطابق قول إمام الحنفاء: )إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فانتظمت حقيقة لا إله إلا الله، ولهذا كان النبي r يقرنها بسورة الإخلاص في سنة الفجر وسنة المغرب).
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله r قرأ بهما في ركعتي الفجر. وروى الإمام أحمد عن مجاهد عن ابن عمر: أن رسول الله r قرأ في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب بضعاً وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة )قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و)قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
وروى الطبراني أن رسول الله r كان إذا أخذ مضجعه قرأ )قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ). حتى يختمها. وروى الإمام أحمد عن الحارث بن جبلة قال: قلت يا رسول الله علمني شيئاً أقوله عند منامي، قال r: «إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ )قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فإنها براءة من الشرك».
)قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) أمر من الله الآمر الناهي إلى عبده ورسوله محمد r فيه شيء. وقد ناداهم بحقيقتهم، ووصفهم بصفتهم، إنهم ليسوا بمؤمنين، وإنما هم كافرون، وان لا لقاء بينك يا محمد وبينهم، ولا يرجى التقاء بينك وبينهم، وهذا ما افتتحت به السورة الكريمة، وجرى توكيده إلى خاتمتها. والألف واللام للعهد، أي عنى بالكافرين قوماً معينين لا جميع الكافرين، وهم الذين قابلوا رسول الله r وعرضوا عليه ما عرضوا، وإن كانت الألف واللام للجنس أي للعموم، إلا أنها وردت هنا من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم. )لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) عبادتي غير عبادتكم، ومعبودي غير معبودكم، فأنتم تعبدون الأصنام والأنداد، وأنا أعبد الله الواحد الأحد. وقيل لا أعبد الساعة ما تعبدون الساعة لأنهم كانوا يغيّرون أوثانهم، فإذا ملّوا وثناً وسئموا العبادة له رفضوه، ثم أخذوا وثناً غيره، فأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم: )لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) اليوم من هذه الآلهة التي بين أيديكم. )وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) فعبادتكم غير عبادتي، و معبودكم غير معبودي. وفي ذلك النفي من الجانبيين تحقيق للبراءة بينهما، وأن لا التقاء بينهما.
)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) نفي العبادة منه لما عبدوا في الماضي، وهي للاستقبال، أي لا أعبد فيما استقبل من الزمان ما عبدتم. وهي توكيد في صيغة الجملة الاسمية وهي أدلّ على الثبات.
)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) أي فيما تستقبلون من الزمان، وهي توكيد لفظي لما سبق, وهو كثير في القرآن الكريم مثل تكرار قوله تعالى في سورة الرحمن: )فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) وتكرار قوله تعالى في سورة المرسلات: )وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).
فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده، وعبادة يسلكها إليه، فالرسول r وأتباعه يعبدون الله بما شرعه، فلا إله إلا الله محمد رسول الله تعني لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا ما جاء به الرسول r. أما المشركون فيعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله.
)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) دينكم الكفر وديني الإسلام، لكم شرككم ولي توحيدي. )واللام في لغة العرب يدلّ على الاختصاص، فأنتم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه، وأنا مختص بديني لا تشركونني فيه) كما أوضح ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وقد فهم بعض المسلمين أن في هذه الآية )لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) إقراراً للكافرين على دينهم، وأن هذا منطلق للحوار بين الأديان، واحترام للرأي الآخر، واعتراف بالآخر. ومنهم من اعتبر أن هذه الآية منسوخة بأية السيف، أو أنها مخصوصة بمن يُفَرّون على دينهم وهم أهل الكتاب. واستدل بهذه الآية الإمام الشافعي رحمه الله على أن الكفر ملة واحدة، وعلى جواز توارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض أن كان هناك سبب للتوارث، لأن الأديان ما عدا الإسلام، كلها كالشيء الواحد في البطلان.
والصواب أن هذه السورة لا نسخ فيها ولا تخصيص بل هي محكمة كما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى، فهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن آيات العقيدة يستحيل دخول النسخ فيها، لأنها جماع دعوة الرسل والأنبياء سلام الله عليهم أجمعين. وتضمنت هذه السورة غاية البراءة والتنصل من غير دين الإسلام، والمفاصلة الحاسمة بين الإسلام، وغيره من الأديان والعقائد والمبادئ. وليس في هذه الآية )لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) رضى بدين المشركين. ولا أهل الكتاب، بل فيها براءة من دينهم، وبراءتهم من دينه. وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ، ولم يرض الرسول r في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه، أشد على الإنكار عليهم وعيب دينهم وتقبيحه والنهي عنه، والتهديد والوعيد، حتى إذا مكن الله له في الأرض جاهدهم حق الجهاد، حتى أظهر الله دينه، واستؤصل الكفر من جزيرة العرب.
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة التامة، من عقائد وأفكار وأوضاع الكفر، والمفاصلة التامة في الفكر والشعور بينهم وبين أفكار ومشاعر وأنظمة الكفر، فبغير هذه المفاصلة سيبقى اللبس والترقيع، والغش والمداهنة، وتمييع الفواصل بين أحكام الإسلام وقوانين الكفر، وبين أفكار الإسلام وأباطيل الأديان والمبادئ والعقائد الأخرى. فالدعوة إلى الإسلام لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والوضوح، فلا أنصاف حلول، ولا إصلاح أوضاع، ولا ترقيع مناهج، وإنما يدعى إلى الإسلام كما دعي إليه أول ما أنزل، متميزاً عن كل ما سواه )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ□)
1999-02-25